الثالث: أن زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا كان في العمرة التي تم فيها صلح الحديبية وابن عباس إذ ذاك صغير فلعله وهم، ولم يحضر القصة أصلاً وقد تقرر أن رواية من حضر وشاهد وباشر مقدمة على من لم يحضر. ولعل الوهم حصل ممن أخبر ابن عباس بذلك.
الرابع: أن هذه الاحتمالات ترد وروداً قوياً على حديث ابن عباس، وتبقى أحاديث النهي سالمة عن أي إيراد فهي محكمة وقد تقرر أن المحتمل والمتشابه يرد إلى المحكم البين فالحق الحقيق بالقبول هو أن عقد النكاح من جملة المحظورات للمحرم، والله أعلم.
ومنها: قد انتشر في هذه الآونة الأخيرة بعض المنظفات لليد والبدن وهي معطرة، أي رائحة العطر تفوح منها وتشم من مستخدمها من بُعْد فهل يجوز للمحرم استعمالها؟
أقول: إنه قد تقرر لنا بالأدلة أن من جملة المحظورات على المحرم الطيب، وهذه المنظفات قد وضع فيها الطيب قصداً أي إن من مقاصد تركيبتها الطيب، وحينئذٍ فهي نوع منه فلا يجوز للمحرم استعمالها، فالواجب الحذر والتحذير من ذلك، والله أعلم.
ومنها: شرب القهوة التي فيها زعفران هل يجوز للمحرم ذلك؟
أقول: إن الزعفران نوع من الطيب، ويوضع في القهوة لقصد تطييب رائحتها ومذاقها، فحيث كان ذلك كذلك فلا يجوز للمحرم شرب الشاي والقهوة التي فيها زعفران لأنه
طيب وقد دل الدليل الصحيح الصريح أنه ممنوع منه، والله أعلم.
ومنها: هل يجوز للمحرم أن يغسل رأسه ويسرح شعره؟ وما الحكم لو سقط شيء من الشعر؟
أقول: الأصل لا يمنع المحرم من غسل رأسه وتسريح لحيته بل ورد ما يدل على جواز غسل الرأس كما في حديث اختلاف عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة وأنهما أرسلا عبد الله بن حنين يسأل أبا أيوب، فسأله فوصف له أبو أيوب كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغسل رأسه، والحديث في الصحيحين وإن سقط شيء من الشعر فإنه شعر ميت لا حكم له والله أعلم
ومنها: لو خالف المحرم وعقد النكاح حال الإحرام، فإن المفتى به عند الصحابة ولا يكاد يعرف فيهم مخالف له هو بطلان هذا العقد، والله أعلم.
ولعل هذه الفروع تكون كافية لفهم هذا الضابط إن شاء الله تعالى، والله ربنا أعلى وأعلى وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لا يؤثر فعل محظور الحج إلا بعلمٍ وذكرٍ وإرادة
أقول: هذا الضابط كالقيد للضابط الأول، وبيان ذلك أن يقال: عن المحظورات السالفة الذكر إذا فعلها المحرم فإنه يجب علينا قبل ترتيب ما يترتب عليها من إثمٍ أو كفارة أن نتأكد من توفر ثلاثة شروط، وهي الشروط المذكورة في هذا الضابط، وهذا الضابط متفرع عن القاعدة الكبرى المشروحة في تلقيح الأفهام وهو قولنا: لا يؤثر فعل المنهي إلا بذكرٍ وعلمٍ وإرادة وهذه الشروط هي:
الأول:[ العلم ] وضده الجهل، أي أن يفعل المحرم هذا المحظور وهو عالم بحكمه غير جاهل، وذلك لأن القاعدة المتقررة عند العلماء أن التكاليف مشروطة بالعلم والقدرة فلا تكليف إلا بعلم، وما يجهله العبد فإنه لا يكلف به، فما كن خارجاً عن علمنا فإننا من رحمة الله لا نكلف به كما قال تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }، { ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها }، { ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به } وبناءً عليه فإن فعل المحرم شيئاً من المحظورات السابقة وهو جاهل بحكمه جهلاً يعذر فيه فإنه لا يترتب عليه أثره، فلا إثم عليه ولا كفارة، ويدل على ذلك بخصوص الرجل الذي لبس جبة وتضمخ بالطيب وهو محرم فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأرشده إلى الصواب ولم يأمره بشيء مما يدل على أنه عذره بجهله والله أعلم.
والشرط الثاني: [ الذكر ] وضده النسيان، فمن فعل شيئاً من هذه المحظورات وهو ناسٍ أنه محرم فإنه لا يضره ذلك لعموم قوله تعالى{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (( إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -. وهذا عام في كل المحظورات حتى الجماع على القول الصحيح، فأي محرم وقع منه شيء من هذه المحظورات وهو ناسٍ إحرامه فإنه لا شيء عليه، وهذا من رحمة الله تعالى، والله أعلم.
الشرط الثالث: [ الإرادة ] وضدها الإكراه، وبناءً عليه فمن وقع منه شيء من هذه المحظورات وهو مكره عليه فإنه معذور، فلا يترتب على فعله هذا إثم ولا كفارة، لقوله تعالى: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } وللحديث السابق، ولأن الشريعة مبناها على العدل والمكره لا قدرة له ولا اختيار له في فعل ذلك فلا وجه لعقابه إذا علمت هذا فاعلم أن هذه الشروط الثلاثة لابد من توفرها جميعاً ليترتب الأثر فإذا تخلف شرط منها فإن الأثر يتخلف بتخلفه، فانتبه لهذا واجعله نصب عينيك في إجابتك لما يرد عليك من مثل هذه المسائل، ومن باب زيادة الإيضاح أضرب لك فروعاً لترى كيف التطبيق فأقول:
منها: رجل غطى رأسه ناسياً أنه محرم، فنقول: لا شيء عليه لأن النسيان عذر يمنع من ترتب الأثر لأنه لا يؤثر فعل المحظور إلى بالذكر والله أعلم.
ومنها: امرأة غفلت عن إحرامها فلبست القفازين أو النقاب فماذا عليها؟ نقول: لا شيء عليها لأنه لا يترتب أثر المحظور إلا بالذكر وهي ناسية.
ومنها: محرم نائم فجاء آخر فحلق شيئاً من شعره ولم يشعر به فهل على المحرم شيء؟ الجواب: لا ليس عليه شيء لأنه ليس بمختار لهذا الحلق، ولا يترتب الأثر إلا بالإرادة، وفاعل ذلك آثم ظالم معتدٍ، والله أعلم.
ومنها: محرم قلّم أظفاره أو شيئاً منها جاهلاً حرمة ذلك فماذا عليه؟ الجواب: لا شيء عليه، لأنه لا يترتب أثر ذلك إلا بالعلم وهو قد كان جاهلاً، والله أعلم.
ومنها: محرم أزال شعر إبطيه وعانته وقصر من شاربه ظناً منه أن المحرم عليه إنما هو حلق رأسه فقط فماذا عليه؟ أقول: لاشيء عليه ولله الحمد لأنه يجهل الحكم في ذلك وقد تقرر أنه لا يترتب أثر المحظور إلا بعلم. والله أعلم.
ومنها: احتلم المحرم فماذا عليه؟ أقول: لا شيء عليه في هذا الإنزال لأنه عن غير اختيار ولا يترتب الأثر إلا بالاختيار والإرادة، والله أعلم.
ومنها: عقد محرم عقد نكاحٍ جاهلاً أن عقد النكاح من الأشياء المنهي عنها حال الإحرام فماذا عليه؟ أقول: لا شيء عليه لأنه كان جاهلاً بالحكم وأثر فعل المحظور لا يترتب إلا بالعلم، والله أعلم.
ومنها: استعمل المحرم صابوناً مطيباً جاهلاً أنه من الطيب المنهي عنه فماذا عليه؟ الجواب: لا شيء عليه لأنه يجهل ذلك والأثر لا يترتب إلا بالعلم، والله أعلم.
ومنها: صاد المحرم صيداً جاهلاً الحكم أو ناسٍ أنه محرم. أقول: هذا مما قوي فيه الخلاف ولكن الأقرب إن شاء الله تعالى أنه لا شيء عليه لأن الله قال في الآية " متعمداً
" والجاهل والناسي ليسا بمتعمدين ولهذه القاعدة، والله ربنا أعلى وأعلم.
فدية الأذى والصيد على التخيير بين الذبح والصوم والإطعام
أقول: الأصل في فدية الأذى حديث كعب بن عجرة، قال: حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على وجهي فقال: (( ما كنت أرى الجهد بلغ بك ما أرى، أتجد شاة؟ قال: لا، قال: فصُم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع)) متفق عليه. وفي رواية: أتى عليّ رسول - صلى الله عليه وسلم - زمن الحديبية فقال: (( كأن هدام رأسك تؤذيك فقلت: أجل، فقال: احلق واذبح شاة أو صم ثلاثة أيام أو تصدق بثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين فرقاً من زبيب أو أنسك شاة)) قال: فحلقت ثم نسكت وبسبب ذلك نزل قوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيامٍ أو صدقة أو نسك }. فهذا هو الأصل في فدية الأذى، وألحق العلماء بها تغطية الرأس وتقليم الأظفار ولبس المخيط والطيب ولبس المرأة النقاب أو القفازين فهذه المحظورات كلها فيها فدية أذى، والجامع هو أن الغالب فيمن يفعل ذلك إنما يريد به رفع الأذى عنه والترفه بذلك، وهذه الفدية الواردة في الحديث خرجت مخرج التخيير لأنه قد تقرر في الأصول أن ( أو ) من معانيها التخيير وهو المراد هنا فيكون الواجب فيها واحداً لا يعينه، ككفارة اليمين، بماذا وقع المحرم في شيء من هذه المحظورات المذكورة قبل قليل فإنه مخير بين إخراج أحد خصال هذه الكفارة، إما الذبح وإما الصيام وإما الإطعام، فهذا بالنسبة لفدية الأذى وأما فدية الصيد فإن الأصل فيها قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدلٍ منك هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره... } الآية. فقوله " مثل ما قتل من النعم " هذه هي الخصلة الأولى، وقوله " أو كفارة طعام مساكين " هي الخصلة الثانية وقوله " أو عدل ذلك صياماً " هي الخصلة الثالثة، وهي ذبح وإطعام وصيام أيضاً وقد قرنت بحرف ( أو) المفيد للتخيير، إذاً صدق هذا الضابط ولله الحمد والمنة من أن فدية الأذى على التخيير بين الصيام والإطعام والذبح وفدية الصيد أيضاً على التخيير بين الصيام والإطعام والذبح، لكن ينبغي لك أن تتذكر أنك قبل أن ترتب الكفارة فلابد من التأكد من توفر الشروط السابقة في الضابط الذي قبله، فإن قلت: إنه قد بقي عندنا بعض المحظورات لم تذكرها وهي الوطء والمباشرة وعقد النكاح، فهل هذه فيها شيء أم لا شيء فيها؟ فأقول: لعلك تذكر أننا قررنا في باب الصيام أن الأصل عدم الكفارة في مفسد الصوم إلا بدليل، وهنا أيضاً نقرر ذلك ونقول: الأصل عدم الكفارة في محظور الحج إلا بدليل، وما مضى من المحظورات قد ثبت الدليل بالكفارة فيها فأما حلق الرأس فبالنص والطيب وتغطية الرأس ولبس المخيط، والنقاب والقفازين بالقياس الصحيح المستوفي لأركانه، وأما الصيد فبالنص، وأما عقد النكاح فلا أعرف فيه نصاً مرفوعاً يوجب فيه الكفارة ولا يصلح قياسه على حلق الرأس والصيد، ولا أعلم شيئاً موقوفاً على الصحابي بالسند الصحيح، فحيث لم يثبت شيء من ذلك فالأصل عدم الكفارة فنقول: لا شيء فيه إلا الإثم فقط وفساد العقد كما نص على ذلك المذهب، ولأن عقد النكاح غنما هو كشراء المحرم للصيد ليس فيه فساد العقد فالصواب إن شاء الله تعالى أن عقد النكاح لا كفارة فيه وأما المباشرة دون الفرج فلا أعلم فيها شيئاً يصح مرفوعاً يوجب فيها الكفارة ولا أعلم شيئاً موقوفاً يوجب ذلك ومن كان عنده فضل علمٍ فليسعف أخاه، فأقول: من باشر دون الفرج فقد وقع في الإثم وحجه صحيح فعليه التوبة والاستغفار، وأما الكفارة فلا أعلم أنها ثابتة في ذمته فلا أقول بها وإن قال بها بعض علمائنا الكبار رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى. وأما الوطء فلا يخلو من حالتين: إن كان قبل التحلل الأول فقد فسد نسكهما ولو بعد الوقوف بعرفه، وذلك لقضاء بعض الصحابة بفساد الحج، ويمضيان فيه ولا يخرجان منه بالوطء ذكره الوزير إجماعاً وهو مروي عن عمر وعلي وأبي هريرة وابن عباس، وعليه القضاء من قابل، لما روي عن ابن عباس وابن عمر وابن عمرو بسندٍ جيد: أن رجلاً أتى عبد الله بن عمر فقال: اذهب إليه فاسأله، قال شعيب: فلم يعرفه الرجل فذهب معه، فسأل ابن عمر، فقال: بطل حجك، فقال الرجل، أفأقعد؟ قال: لا، بل تخرج مع الناس وتصنع ما يصنعون فإذا أدركت الحج من قابلٍ فحج وأهد. فرجع إلى عبد الله بن عمرو فأخبره، فقال: اذهب إلى ابن عباس فاسأله: فقال شعيب: فذهبت معه فسأله فقال له مثل ما قال ابن عمر، فرجع إلى عبد الله ابن عمرو فأخبره، ثم قال الرجل: وما تقول أنت؟ قال: أقول مثل ما قالا ونحوه عند أحمد والدارقطني والحاكم وغيرهم، هذا إذا كان الوطء قد وقع قبل التحلل الأول، وأما إذا كان بعد التحلل الأول فإنه لا يفسد به الحج وإنما يجب فيه شاة في ظاهر المذهب، وعليه مع ذلك إذا كان الباقي من أعمال التحلل الثاني الطواف أن يحرم به من أدنى الحل فيطوف ويسعى والأصل في ذلك ما ثبت عن ابن عباس أنه قال: الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي. رواه مالك والبيهقي وإسناده صحيح.
وخلاصة هذا الكلام ما يلي:
الأول: فدية الأذى على التخيير بين الذبح والإطعام والصيام.
الثاني: فدية الصيد على التخيير أيضاً بين الذبح والإطعام والصيام.
الثالث: عقد النكاح في الإحرام فاسد ولكن لا فدية فيه.
الرابع: المباشرة دون الوطء فيه التوبة والاستغفار وهذا كفارتها.
الخامس: الوطء في الفرج قبل التحلل الأول مفسد للحج موجب للقضاء وأن يذبح شاة. وأما بعد التحلل الأول فهو موجب للذبح ويحرم من أدنى ويطوف للإفاضة ويسعى. وإتماماً للفائدة أختم الكلام على هذا الضابط ببعض المسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أن من ذبح فدية لا يجوز لذابحه أن يأكل منه شيئاً بل يطعمه كله فقراء الحرم ومساكينه فإن أكل منه شيئاً فعليه أن يذبح أخرى مكانها، والله أعلم.
المسألة الثانية:
إذا كان من عليه الفدية سيكفر بالصوم فله الصوم في أي مكان شاء ولا يلزم أن تكون في حال إحرامه على القول الصحيح، والله أعلم.
المسألة الثالثة:
من كرر محظوراً من جنس واحد بأن حلق مراراً أو قلّم مراراً أو وطء مراراً ولم يكفّر عن الأول فيكفيه لفعلها جميعاً كفارة واحدة لأن القاعدة تقول من كرر محظوراً من جنس واحد وموجبه واحد أجزأ عن الجميع فعل واحد إن لم يخرج موجب الأول، وأما إذا كان المحظور من أجناس مختلفة فعليه لكل محظور كفارة مستقلة، والله أعلم.
المسألة الرابعة:
القول الصحيح أن من جُومِعَت مُكرهة فلا شيء عليها لأن من شروط ترتب الأثر الإرادة، والله أعلم.
المسالة الخامسة:
يشترط في كفارة الصيد إن كان سيذبح أن يكون المذبوح مماثلاً للصيد في غالب صفاته أو بعضها لأن الله تعالى يقول: { فجزاءٌ مثل ما قتل من النعم } والضابط في هذا أن ما قضى به الصحابة في ذلك فإنه يعتمد لأنهم أعرف وقولهم أقرب إلى الصواب. وما لم يرد فيه قضاء فمرده لاجتهاد الحكمين ومما قضى به الصحابة أن في الضبع كبش وفي الغزال عنز وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفره وفي النعامة جزور وفي حمار الوحش بقرة وفي الحمامة شاة، وإن كان سيكفر بالإطعام فطريقة ذلك أن يقوّم المثل ثم يشتري بقيمته طعاماً يطعمه المساكين، وإن كان سيكفر بالصيام فطريقة ذلك أن يرى كم في الإطعام من صاع أو مد فيصوم عن كل مد أو صاع يوماً فهذا عدله المأمور به في قوله تعالى: { أو عدل ذلك صياماً }، والله تعالى أعلم وأعلى وبه نختم الكلام على هذا الضابط المهم والذي يتخبط فيه بعض المبتدئين من طلبة العلم والله يتولانا وإياك.
من ترك نسكه أو شيئاً منه فعليه دم
أقول: وهذا الكلام يروى مرفوعاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه لا يصح رفعه وإنما المحفوظ أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي حجة بشرطه، والشرط هو ألاّ يخالف نصاً من كتاب أو سنة وألاّ يخالفه صحابي آخر، وكلاهما قد تحققت هنا، فإن ابن عباس في هذا القول لم يخالف نصاً ولم يخالفه صحابي آخر، بل أفتى بمقتضاه بعض الصحابة فهذا الضابط أصله قول ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، وشرح هذا الضابط أن يقال: اعلم أن الحاج قد أمر بفعل شيء ونهي عن فعل شيء فما نهي عنه تقدم الكلام على كفارته في الضابط السابق، فالضابط السابق إنما هو في ارتكاب المحظور، وأما هذا الضابط فهو يتكلم عن كفارة من ترك شيئاً قد أمر بفعله في الحج.
ثم اعلم أن الأشياء التي أمرنا بها في الحج لا تخلو إما أن يكون أمر استحباب وندب فهذه لا شك أنه لا شيء على من تركها لأنه لا عقاب في ترك المستحب وذلك كالتلبية وصلاة ركعتي الطواف وكونها خلف مقام إبراهيم وغير ذلك فكل ذلك من أمور الاستحباب التي لا عقاب ولا كفارة على تاركها وأما الأشياء التي أمرنا بها على سبيل الإيجاب فهي التي تعنينا في هذا الضابط هي المرادة بقولنا ( نسكه ) وهي الطواف والسعي والإحرام وكونه من الميقات والوقوف بعرفه وكونه إلى الغروب والمبيت بمزدلفة ورمي جمرة العقبة، والرمي أيام منى وذبح الهدي والحلق أو التقصير والمبيت بمنى وطواف الوداع، هذه هي مناسكنا، فبناءً عليه فمن ترك شيئاً من هذه المناسك فإن عليه دماً أي يجب عليه أن يذبح شاة أو ما يعادلها من سبع بدنة أو بقرة، فمن ترك النسك كاملاً أو ترك شيئاً منه فعليه دم، وكما ذكرت أن هذا الضابط في جزاء ترك المأمور والذي قبله في جزاء فعل المحظور فإذا سألك أحد من الحجاج عن مخالفة وقع فيها، فاسأله أولاً عن نوعيتها حتى تعرف أهي من قبيل ترك المأمور فيدخل تحت هذا الضابط، أم هي من قبيل فعل المحظور فيدخل في الضابط الذي قبله، ويفرع على هذا الضابط أن من تجاوز الميقات وأحرم دونه فقد ترك شيئاً من نسكه فعليه دم، كمن يكون آفاقياً فلا يحرم إلا من جدة فهذا عليه دم لأنه ترك شيئاً من نسكه ومن ترك المبيت بمزدلفة فقد ترك نسكه فعليه دم، أو خرج منها قبل منتصف الليل فقد ترك شيئاً من نسكه فعليه دم، ومن خرج من عرفة قبل الغروب ولم يعد فقد ترك شيئاً من نسكه فعليه دم، ومن ترك المبيت بمنى ليالي أيام التشريق أو ليلة منها فقد ترك نسكه أو شيئاً منه فعليه دم، ومن ترك الحلق و التقصير فقد ترك نسكه فعليه دم، ومن ترك رمي جمرة العقبة أو لم يرمها إلا بحصاةٍ أو حصاتين فقد ترك نسكه أو شيئاً منه فعليه دم، ومن ترك طواف الوداع وليس من الذين يسقط عنهم فقد ترك نسكه فعليه دم، ومن ترك الرمي أيام التشريق أو ترك بعض الأيام أو ترك بعض الجمرات فقد ترك نسكه أو شيئاً منه فعليه دم، وهكذا فهذا الضابط لا ينخرم ولله الحمد والمنة لكن عليك أن تنتبه أن من واجبات الحج على المتمتع والقارن الهدي وهو ذبح فلو تركه فلا نقول عليه دم وإنما نقول عليه البدل الشرعي وهو الصيام كما قال تعالى: { فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم } هذا إذا تركه عجزاً عنه وأما إذا تركه من القدرة عليه فعليه دم لأنه ترك نسكاً لكن هذا الدم دم جبران فلا يأكل منه شيئاً بخلاف دم الهدي فإنه دم نسك والسنة أن يأكل منه شيئاً ولعل الضابط قد اتضح إن شاء الله تعالى والله يعلمنا وإياك العلم النافع ويرزقنا العمل الصالح وهو أعلم وأعلى.
الإفراد أفضل لمن أفرد العمرة بسفره والقران أفضل لمن ساق الهدي وإلا فالتمتع
وهذا الضابط في مسألة أفضل الأنساك، وقد اختلف العلماء في الأفضل منها على أقوال هي بعدد الأنساك، فقيل الإفراد وقيل القران وقيل التمتع والمشهور من المذهب هو القول الأخير إلا أن الأصوب إن شاء الله تعالى هو ما يقتضيه هذا الضابط ومعناه أن الأفضلية تختلف باختلاف حال الأنساك، فإن كان سيفرد العمرة بسفره فالأفضل له إفراد الجمع وهذا باتفاق الصحابة رضي الله عنهم وعلى ذلك قولهم في قوله تعالى: { وأتموا الحج والعمرة لله } إتمامها أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وأما إذا كان الحاج قد ساق الهدي، فإن الأفضل له القران كحال النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم يتحلل لأنه ساق الهدي فدل ذلك على أن القران أفضل إن ساق الهدي فإن لم يسق الهدي ولم يفرد العمرة بسفرة خاصة فالأفضل له التمتع كحال الذين أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإحلال وشدد عليهم في ذلك، وذلك منه - صلى الله عليه وسلم -توجيهاً لهم إلى الأفضل في حقهم وأخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - لو لم يسق الهدي لحل معم، لكن لما ساقه صار الأفضل لهم الإحلال. فانظر كيف جمع هذا الضابط بين الأدلة كلها وبناءً عليه فنقول: إن الأفضل بل المؤكد في حق من لم يسق الهدي تأكيداً يقرب أن يكون واجباً أنه إن أحرم مفرداً أو قارناً وطاف وسعى أن يقصر ويتحلل ويجعلها عمرة ويقلب نسكه إلى التمتع لأننا قلنا أن التمتع أفضل لمن لم يسق الهدي وعلى ذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بذلك حتى قال: (( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة )) وقال عليه الصلاة والسلام: (( من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجة ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحل )) وعن جابر قال: أهللنا بالحج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما قدمنا مكة أمرنا أن نحل ونجعلها عمرة فكبر ذلك علينا وضاقت به صدورنا فقال: (( أيها الناس أحلوا، فلولا الهدي معي فعلت كما فعلتم )) متفق عليه. وفي حديث أبي سعيد: فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي. والأحاديث في فسخ الحج إلى العمرة كثيرة، فدل دلالة قاطعة أن المؤكد في حق من أحرم مفرداً أو قارناً ولم يسق الهدي أن يتحلل بالتقصير بعد الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ويجعلها عمرة، وهل هذا التحلل من باب الوجوب أم الاستحباب على أقوال والأقرب منها أنه للاستحباب إن شاء الله تعالى واختاره أبو العباس وقال: إن الوجوب كان في حق الصحابة لأن المشهور من أمر الجاهلية أنهم كانوا يرون العمرة في أشهر من أفجر الفجور كما في الصحيحين من حديث ابن عباس فشدد النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمر الحل ليزيل هذا الاعتقاد من قلوبهم، واختار ابن القيم الوجوب، وهو مذهب ابن عباس وليس ببعيد لأن الأوامر الواردة في الأحاديث الآمرة بالحل لا أعلم لها صارفاً يصرفها من الوجوب إلى الاستحباب وخصوصاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ذلك أهو لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد، فالله تعالى أعلى وأعلم.
والإفراد هو أن يحرم بالحج وحده فيقول: " اللهم لبيك حجاً " والقران هو يجمع بينهما فيقول: " اللهم لبيك عمرة وحجاً " أو يحرم بالعمرة وحدها ثم يدخل عليها الحج قبل طوافها، والتمتع أن يحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج ويطوف ويسعى ويتحلل ثم يهل بالحج يوم الثامن، والله أعلم.
فإن قلت فما كان نسك النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فأقول: إن الأحاديث والروايات الواردة في تحديد نسك النبي - صلى الله عليه وسلم - وردت على وجوه ثلاثة فمنهم من روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعاً ومنهم من روى أنه كان قارناً ومنهم من روى أنه كان مفرداً، فاختلف العلماء في تحديد نوعية نسكه على هذه الأقوال الثلاثة، والأقرب إن شاء الله تعالى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قارناً، قال الإمام أحمد: لا أشك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج وكان قارناً والتمتع أحب إليّ. انتهى. واختاره ابن تيمية وابن القيم وجمع من المحققين وجمعوا بين الأحاديث الواردة في ذلك بقولهم أن من قال أنه " أفرد" فيريد به أنه - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على أعمال الحج وحده ولم يفرد للعمرة أعمال خاصة، ومن قال أنه " تمتع " فإنه لا يقصد به تمتعاً قد حل منه فإن هذا تمتع خاص وإنما يقصدون به التمتع العام ويدخل فيه تمتع القران ووجه كونه تمتعاً أن القارن تمتع وترقه بسقوط أحد السفرين عنه وهو سفر العمرة، وبسقوط إفراد أعمال العمرة عنه بحيث أنه لم يفردها بطواف خاص وسعي خاص كما يفعله من تمتع التمتع الخاص ولكن أعمالها دخلت في أعمال الحج فهو بهذا الاعتبار متمتع. وأما من قال أنه كان " قارناً " فإنه أخبر عن نوعية النسك الذي أهل به النبي - صلى الله عليه وسلم -. وعلى هذا التخريج السليم لا يكون بين الأحاديث والآثار أي تعارض ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة، والله أعلى وأعلم.
يتبع