248 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إلَّا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ }.
الشَّرْحُ
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ لِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ. وَهَذَا بَعْدُ تَقْرِيرٌ أَنَّ إخْبَارَ الصَّحَابِيِّ عَنْ صِيغَةِ الْأَمْرِ كَحِكَايَتِهِ لَهَا. وَلَا دَمَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ. وَلَا وُجُوبَ لَهُ عِنْدَهُ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى سُقُوطِهِ عَنْ الْحَائِضِ.
وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، أَعْنِي ابْنَ عُمَرَ، أَوْ مَا يُقَرِّبُ - أَيْ مِنْ الْخِلَافِ - مِنْهُ.
249- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى، مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ }.
الشَّرْحُ
أُخِذَ مِنْهُ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمُ الْمَبِيتِ بِمِنًى، وَأَنَّهُ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ: وَهَذَا مِنْ حَيْثُ قَوْلُهُ " أَذِنَ لِلْعَبَّاسِ مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ " فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ الْإِذْنَ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، وَأَنَّ غَيْرَهَا لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِذْنُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ الْمَبِيتُ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ.
وَمَدْلُولُ الْحَدِيثِ: تَعْلِيقُ هَذَا الْحُكْمِ بِوَصْفِ السِّقَايَةِ، وَبِاسْمِ الْعَبَّاسِ: فَتَكَلَّمَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ هَذَا مِنْ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ.
فَأَمَّا غَيْرُ الْعَبَّاسِ: فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحُكْمُ اتِّفَاقًا، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَخْتَصُّ هَذَا الْحُكْمُ بِآلِ الْعَبَّاسِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّهُ فِي بَنِي هَاشِمٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّ، وَقَالَ: كُلُّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْمَبِيتِ لِلسِّقَايَةِ فَلَهُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا تَعْلِيقُهُ بِسِقَايَةِ الْعَبَّاسِ: فَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَهُ بِهَا، حَتَّى لَوْ عُمِلَتْ سِقَايَةٌ أُخْرَى لَمْ يُرَخَّصْ فِي الْمَبِيتِ لِأَجْلِهَا.
وَالْأَقْرَبُ: اتِّبَاعُ الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعِلَّةَ: الْحَاجَةُ إلَى إعْدَادِ الْمَاءِ لِلشَّارِبِينَ.
250 - وَعَنْهُ - أَيْ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - قَالَ { جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إقَامَةٌ. وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلَا عَلَى إثْرِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا }.
الشَّرْحُ
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَمْعِ التَّأْخِيرِ بِمُزْدَلِفَةَ. وَهِيَ " جَمْعٌ " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَقْتَ الْغُرُوبِ بِعَرَفَةَ فَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ إلَّا وَقَدْ أَخَّرَ الْمَغْرِبَ. وَهَذَا الْجَمْعُ لَا خِلَافَ فِيهِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا: هَلْ هُوَ بِعُذْرِ النُّسُكِ، أَوْ بِعُذْرِ السَّفَرِ؟ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ: أَنَّ مَنْ لَيْسَ بِمُسَافِرٍ سَفَرًا يَجْمَعُ فِيهِ، هَلْ يَجْمَعُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَمْ لَا؟ وَالْمَنْقُولُ عَنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْجَمْعَ بِعُذْرِ النُّسُكِ.
وَظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ.
وَلِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ بِعُذْرِ السَّفَرِ.
وَلِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وَجْهٌ: أَنَّهُ بِعُذْرِ النُّسُكِ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي طُولِ سَفَرِهِ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَجْمَعْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَيَقْوَى أَنْ يَكُونَ لِلنُّسُكِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَجَدِّدَ عَنْ تَجَدُّدِ أَمْرٍ يَقْتَضِي إضَافَةَ ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا ذَلِكَ الْأَمْرَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ: إمَّا بِأَنْ يَرِدَ فِي ذَلِكَ نَقْلٌ خَاصٌّ، أَوْ يُؤْخَذَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا جَدَّ بِهِ السَّيْرُ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ } فَقَدْ تَعَارَضَ فِي هَذَا الْجَمْعِ سَبَبَانِ: السَّفَرُ، وَالنُّسُكُ.
فَيَبْقَى النَّظَرُ فِي تَرْجِيحِ الْإِضَافَةِ إلَى أَحَدِهِمَا، عَلَى أَنَّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ نَظَرًا. مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّيْرَ لَمْ يَكُنْ مُجِدًّا فِي ابْتِدَاءِ هَذِهِ الْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ نَازِلًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَأَنْشَأَ الْحَرَكَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَالْجِدُّ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْحَرَكَةِ.
أَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ: فَلَا، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تُقَامَ الْمَغْرِبُ بِعَرَفَةَ. وَلَا يَحْصُلُ جِدُّ السَّيْرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا.
وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَدِيثُ: مَا إذَا كَانَ الْجِدُّ وَالسَّيْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَهَذَا أَمْرٌ مُحْتَمَلٌ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا: فِيمَا لَوْ أَرَادَ الْجَمْعَ بِغَيْرِ جَمْعٍ، كَمَا لَوْ جَمَعَ فِي الطَّرِيقِ أَوْ بِعَرَفَةَ عَلَى التَّقْدِيمِ، هَلْ يَجْمَعُ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِينَ عَلَّلُوا الْجَمْعَ بِالسَّفَرِ: يُجِيزُونَ الْجَمْعَ مُطْلَقًا.
وَاَلَّذِينَ يُعَلِّلُونَهُ بِالنُّسُكِ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ لَا يُجْمَعُ إلَّا بِالْمَكَانِ الَّذِي جَمَعَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ، إقَامَةً لِوَظِيفَةِ النُّسُكِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَعَلَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ: الْكَلَامُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِصَلَاتَيْ الْجَمْعِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ: أَنَّهُ جَمَعَ بِإِقَامَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ. وَلَمْ يُذْكَرْ الْأَذَانُ.
وَحَاصِلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّ الْجَمْعَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ.
فَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّقْدِيمِ: أَذَّنَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لَهَا وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ لِلثَّانِيَةِ، إلَّا عَلَى وَجْهٍ غَرِيبٍ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ.
وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّأْخِيرِ - كَمَا فِي هَذَا الْجَمْعِ - صَلَّاهُمَا بِإِقَامَتَيْنِ، كَمَا فِي ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَأَجْرَوْا فِي الْأَذَانِ لِلْأُولَى الْخِلَافَ الَّذِي فِي الْأَذَانِ لِلْفَائِتَةِ.
وَدَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ الْأَذَانِ دَلَالَةُ سُكُوتٍ، أَعْنِي الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَيَتَعَلَّقُ بِالْحَدِيثِ أَيْضًا: عَدَمُ التَّنَفُّلِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ لِقَوْلِهِ " وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا " وَ " السُّبْحَةُ صَلَاةُ النَّافِلَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْمَسْأَلَةُ مُعَبَّرٌ عَنْهَا: بِوُجُوبِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ.
وَالْمَنْقُولُ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ: أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِلَ. أَعْنِي لِلْجَامِعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّ الْمُوَالَاةَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ شَرْطٌ فِي جَمْعِ التَّقْدِيمِ وَفِيهَا فِي جَمْعِ التَّأْخِيرِ خِلَافٌ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ. فَجَازَ تَأْخِيرُهَا.
وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الْمُوَالَاةِ فَلَا يَقْطَعُهَا قَدْرَ الْإِقَامَةِ، وَلَا قَدْرَ التَّيَمُّمِ لِمَنْ يَتَيَمَّمُ، وَلَا قَدْرَ الْأَذَانِ لِمَنْ يَقُولُ بِالْأَذَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ وَقَدْ حَكَيْنَاهُ وَجْهًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ.
وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَيْضًا فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالْحَدِيثِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّنَفُّلِ بَيْنَ صَلَاتَيْ الْجَمْعِ؟ فَلِمُخَالِفِهِ أَنْ يَقُولَ: هُوَ فِعْلٌ، وَالْفِعْلُ بِمُجَرَّدِهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَيَحْتَاجُ إلَى ضَمِيمَةِ أَمْرٍ آخَرَ إلَيْهِ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُهُ - أَعْنِي كَلَامَ الْمُخَالِفِ - أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَتَنَفَّلْ بَعْدَهُمَا، كَمَا فِي الْحَدِيثِ، مَعَ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ ذَلِكَ.
فَيُشْعِرُ ذَلِكَ بِأَنَّ تَرْكَ التَّنَفُّلِ لَمْ يَكُنْ لِمَا ذُكِرَ مِنْ وُجُوبِ الْمُوَالَاةِ.
وَقَدْ وَرَدَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ " أَنَّهُ فَصَلَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ بِحَطِّ الرِّحَالِ " وَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى مَسَافَةٍ فِي الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ مِنْ الْمُصَنِّفِ إيرَادُ أَحَادِيثَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تُنَاسِبُ تَرْجَمَتَهُ.
251 - عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ حَاجًّا.
فَخَرَجُوا مَعَهُ.
فَصَرَفَ طَائِفَةً مِنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو قَتَادَةَ - وَقَالَ: خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ، حَتَّى نَلْتَقِيَ. فَأَخَذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ فَلَمَّا انْصَرَفُوا أَحْرَمُوا كُلُّهُمْ، إلَّا أَبَا قَتَادَةَ، فَلَمْ يُحْرِمْ.
فَبَيْنَمَا هُمْ يَسِيرُونَ إذْ رَأَوْا حُمُرَ وَحْشٍ. فَحَمَلَ أَبُو قَتَادَةَ عَلَى الْحُمُرِ. فَعَقَرَ مِنْهَا أَتَانًا. فَنَزَلْنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لَحْمِهَا.
ثُمَّ قُلْنَا: أَنَأْكُلُ لَحْمَ صَيْدٍ، وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ؟ فَحَمَلْنَا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا فَأَدْرَكْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا } وَفِي رِوَايَةٍ " قَالَ: هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ فَقُلْت: نَعَمْ. فَنَاوَلْتُهُ الْعَضُدَ، فَأَكَلَ مِنْهَا ".
الشَّرْحُ
تَكَلَّمُوا فِي كَوْنِ أَبِي قَتَادَةَ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا، مَعَ كَوْنِهِمْ خَرَجُوا لِلْحَجِّ، وَمَرُّوا بِالْمِيقَاتِ.
وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ.
وَأُجِيبَ بِوُجُوهٍ: مِنْهَا: مَا دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ هَذَا الْحَدِيثِ، مِنْ أَنَّهُ أُرْسِلَ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لِكَشْفِهَا.
وَكَانَ الِالْتِقَاءُ بَعْدَ مُضِيِّ مَكَانِ الْمِيقَاتِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَبْلَ تَوْقِيتِ الْمَوَاقِيتِ.
وَ " الْأَتَانُ " الْأُنْثَى مِنْ الْحُمُرِ.
وَقَوْلُهُمْ " نَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ وَنَحْنُ مُحْرِمُونَ " وَرُجُوعُهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ: دَلِيلٌ عَلَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُ الِاجْتِهَادِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُمْ أَكَلُوهُ بِاجْتِهَادٍ وَالثَّانِي: وُجُوبُ الرُّجُوعِ إلَى النُّصُوصِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْأَشْبَاهِ وَالِاحْتِمَالَاتِ.
{ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا } فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ لَكَانَ سَبَبًا لِلْمَنْعِ.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ، إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ دَلَالَةٌ وَلَا إشَارَةٌ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ عَلَى مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا، صِيدَ لِأَجْلِهِ أَوْ لَا. وَهَذَا مَذْكُورٌ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ وَدَلِيلُهُ: حَدِيثُ الصَّعْبِ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَمْنُوعٌ إنْ صَادَهُ أَوْ صِيدَ لِأَجْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ بِاصْطِيَادِهِ، أَوْ بِإِذْنِهِ، أَوْ بِدَلَالَتِهِ حَرُمَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ: لَمْ يَحْرُمْ.
وَحَدِيثُ أَبِي قَتَادَةَ - هَذَا - يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِهِ فِي الْجُمْلَةِ. وَهُوَ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِ الْأَوَّلِ.
وَيَدُلُّ ظَاهِرُهُ: عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يُشِرْ الْمُحْرِمُ إلَيْهِ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ: يَجُوزُ أَكْلُهُ. فَإِنَّهُ ذَكَرَ الْمَوَانِعَ الْمَانِعَةَ مِنْ أَكْلِهِ. وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ غَيْرُهَا مَانِعًا لَذُكِرَ.
وَإِنَّمَا احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِدَلَالَتِهِ وَإِذْنِهِ: بِأُمُورٍ أُخْرَى.
مِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ حَلَالٌ، مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أَوْ يُصَدْ لَكُمْ }.
وَاَلَّذِي فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " هَلْ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ؟ " فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: تَبَسُّطُ الْإِنْسَانِ إلَى صَاحِبِهِ فِي طَلَبِ مِثْلِ هَذَا.
وَالثَّانِي: زِيَادَةُ تَطْيِيبِ قُلُوبِهِمْ فِي مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْأَكْلِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ، لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ } وَالْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ ذَلِكَ لِطَلَبِ مُوَافَقَتِهِمْ فِي الْحَلْقِ فَإِنَّهُ كَانَ أَطْيَبَ لِقُلُوبِهِمْ.
252 - عَنْ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ - فَرَدَّهُ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي، قَالَ: إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ " رِجْلَ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " شِقَّ حِمَارٍ " وَفِي لَفْظٍ " عَجُزَ حِمَارٍ ".
الشَّرْحُ
وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ صِيدَ لِأَجْلِهِ وَالْمُحْرِمُ لَا يَأْكُلُ مَا صِيدَ لِأَجْلِهِ " الصَّعْبُ " بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَ " جَثَّامَةَ " بِفَتْحِ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ.
وَقَوْلُهُ " أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الْأَصْلُ: أَنْ يَتَعَدَّى " أَهْدَى " بِإِلَى، وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَاهُ. وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى " أَجْلِ " وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَقَوْلُهُ حِمَارًا وَحْشِيًّا " ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ أَهْدَاهُ بِجُمْلَتِهِ وَحُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَيًّا.
وَعَلَيْهِ يَدُلُّ تَبْوِيبُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ: إنَّهُ تَأْوِيلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى مُقْتَضَاهُ: يُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ وَضْعِ الْمُحْرِمِ يَدَهُ عَلَى الصَّيْدِ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ بِالْهَدِيَّةِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا: مَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ، إلَّا أَنَّهُ رُدَّ هَذَا التَّأْوِيلُ بِالرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ عَنْ مُسْلِمٍ، مِنْ قَوْلِهِ " عَجُزَ حِمَارٍ، أَوْ شِقَّ حِمَارٍ، أَوْ رِجْلَ حِمَارٍ " فَإِنَّهَا قَوِيَّةُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِ الْمُهْدَى بَعْضًا وَغَيْرَ حَيٍّ.
فَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ " حِمَارًا وَحْشِيًّا " الْمَجَازَ.
وَتَسْمِيَةَ الْبَعْضِ بِاسْمِ الْكُلِّ، أَوْ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ، وَلَا تَبْقَى فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ تَمَلُّكِ الصَّيْدِ بِالْهِبَةِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أَنَّا حُرُمٌ ".
" إنَّا " الْأُولَى مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ؛ لِأَنَّهَا ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَالثَّانِيَةُ مَفْتُوحَةٌ؛ لِأَنَّهَا حُذِفَ مِنْهَا اللَّامُ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ. وَأَصْلُهُ: إلَّا لِأَنَّا.
وَقَوْلُهُ " لَمْ نَرُدَّهُ " الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ: فِيهِ فَتْحُ الدَّالِ.
وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ النُّحَاةِ، وَمُقْتَضَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ. وَهُمْ ضَمُّ الدَّالِ. وَذَلِكَ فِي كُلِّ مُضَاعَفٍ مَجْزُومٍ، أَوْ مَوْقُوفٍ، اتَّصَلَ بِهِ هَاءُ ضَمِيرِ الْمُذَكَّرِ.
وَذَلِكَ مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمْ بِأَنَّ الْهَاءَ حَرْفٌ خَفِيٌّ، فَكَأَنَّ الْوَاوَ تَالِيَةٌ لِلدَّالِ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْهَاءِ، وَمَا قَبْلَ الْوَاوِ: يُضَمُّ.
وَعَبَّرُوا عَنْ ضَمَّتِهَا بِالِاتِّبَاعِ لِمَا بَعْدَهَا.
وَهَذَا بِخِلَافِ ضَمِيرِ الْمُؤَنَّثِ إذَا اتَّصَلَ بِالْمُضَاعَفِ الْمُشَدَّدِ. فَإِنَّهُ يُفْتَحُ بِاتِّفَاقٍ.
وَحُكِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْأَوَّلِ الْمَوْقُوفِ لُغَتَانِ أُخْرَيَانِ.
إحْدَاهُمَا: الْفَتْحُ، كَمَا يَقُولُ الْمُحَدِّثُونَ.
وَالثَّانِيَةُ: الْكَسْرُ.
وَأُنْشِدَ فِيهِ: قَالَ أَبُو لَيْلَى لِحُبْلَى مُدِّهِ حَتَّى إذَا مَدَدْتِهِ فَشُدِّهْ إنَّ أَبَا لَيْلَى نَسِيجُ وَحْدِهِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ " إلَّا أَنَّا حُرُمٌ " يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي مَنْعِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ لَحْمَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا فَإِنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ.
وَاَلَّذِينَ أَبَاحُوا أَكْلَهُ: لَا يَكُونُ مُجَرَّدُ الْأَحْرَامِ عِنْدَهُمْ عِلَّةً وَقَدْ قِيلَ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا رَدَّهُ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ لِأَجْلِهِ، جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ، وَ " الْحُرُمُ " جَمْعُ حَرَامٍ.
وَ " الْأَبْوَاءُ " بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالْمَدِّ.
وَ " وَدَّانُ " بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ، آخِرُهُ نُونٌ: مَوْضِعَانِ مَعْرُوفَانِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
وَلِمَسْأَلَةِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ، تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} وَهَلْ الْمُرَادُ بِالصَّيْدِ: نَفْسُ الِاصْطِيَادِ، أَوْ الْمَصِيدِ؟ وَلِلِاسْتِقْصَاءِ فِيهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.
وَلَكِنَّ تَعْلِيلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُمْ حُرُمٌ قَدْ يَكُونُ إشَارَةً إلَيْهِ.
وَفِي اعْتِذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّعْبِ: تَطْيِيبٌ لِقَلْبِهِ، لِمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ فِي رَدِّ هَدِيَّتِهِ.
وَيُؤْخَذُ مِنْهُ: اسْتِحْبَابُ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الِاعْتِذَارِ.
وَقَوْلُهُ " فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِي " يُرِيدُ مِنْ الْكَرَاهَةِ بِسَبَبِ الرَّدِّ.