عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-04-2019, 11:02 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,095
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيد والذكرى المستديرة ( مرايا السيرة، وأصداء النص)

لبيد والذكرى المستديرة


( مرايا السيرة، وأصداء النص)



الدكتور


محمد سيد علي عبد العال


ويحاول صلاح الدين الصفدي (696- 764هـ) تغيير المفارقة قليلاً، بلا طائل(56). وتظل المفارقة مبتذلة بينهم حتى كتب قاضي القضاة في عصره أحمد بن علي بن عبد الكافي (ت745هـ) إلى الصفدي نفسه قصيدة يثني فيها على علمه وشاعريته؛ فلم يجد صورة أبلغ منها في توضيح مراده(57) ويفخر ابن فركون الأندلسي (ت820هـ) بمدحته أمام ممدوحه ليعلي من خلالها شأنه(58) تسويقاً لنصه(59).
ويحاول الشاعر جمال الدين محمد بن عمر الشهير بتحرق (ت930هـ) تطوير المعنى مستغلاً المفارقة والمجانسة بين لبيد وبليد وما اكتنزه المعنى من مخزون دلالي"(60). والواضح أن المجانسة اللفظية بين لبيد وبليد من ناحية والمخزون الدلالي المتراكم من ناحية ثانية قد جراه إلى توليد مجموعة من المفارقات المتناسلة(61)؛ كما نجد عند ابن الخزار (محمد بن علي القاضي) الذي يضيف إليها بأنه إن كان سحبان مضرب المثل في الخطابة(62)، وابن مقلة في حسن الخط(63) فلبيد هو مضرب المثل في بلوغ الشاعرية(64).
وهو ما فعل مثاله مهذب الدين أبو نصر محمد بن محمد الخضر لحلبي، حين مدح الحكيم رشيد الدين بن الصوري (573- 639هـ)(65) وقد أخذوها من أبي سعيد الرستمي (ت400هـ)(66).
ويساوي ابن معتوق (شهاب الدين الموسوي ت1087هـ) بين لبيد في سموقه البشعري وسحبان في سموقه النثري، ثم يسحب البلادة المدعاة للمبالغة على سحبان هذه المرة، ليغير معنى الرستمي السابق، ويبني عليه؛ مما ينشئ حواراً تفاعلياً مع النصوص على اختلاف الأزمنة والأمكنة(67).
وانتقلت هذه المفارقة "لبيد بليد" من الشعر إلى النثر الفني(68)، وظلت جزءاً من الإطار الشعري في محاولات لاستثمارها تارة، ولتطويرها تارة أخرى. وتردد التجديد فيها بين نجاح وإخفاق؛ فنجد الشعراء يستخدمونها في مراسلاتهم الشعرية للإشادة بأشعارهم في مقابل شعر لبيد حتى تحكمت فيها الصنعة. ومن ذلك ما نجده عند ابن فضل الله العمري (ت749هـ)(69) واستدعت المفارقة على غرارها مفارقات أخرى(70)، كما نجد عند الشاعر عبد الرحمن العيدروس (1135- 1192هـ)(71) وهو ما نجد مثاله عند الشاعر الحويزي صالح حجي الكبير (ت1275هـ- 15م)(72).
ومما لا شك فيه أن التناص عملية إبداعية خلاقة لا تتوقف تحولاتها عند البنية الجمالية، بل تنعكس على كافة البنيات الثقافية والحضارية والمعرفية والسياسية التي تكشف عن نسقية العقل العربي(73) ومدى جموده أو تطوره. ولذا يمكننا فهم طبيعة هذا الجمود بالمقارنة بين شاعرين بينهما سبعة قرون تقريباً، لقباً بالساعاتي، الأول بهاء الدين أبو الحسن علي بن رستم (553- 402هـ)، والثاني محمود صفوت الملقب بالساعاتي (1221- 1298هـ).
وينتمي الأول إلى نهاية الدولة العباسية تاريخياً، ولكن: لم يتطور واقع التناص وحواريته مع أنموذج لبيد واتهامه بالبلادة المدعاة تجميلاً للذات الشاعرة وتصويراً لقوة الشاعرية والقدرة على البلاغة، ومع مرور أكثر من ثلاثة قرون على ابتداع الصورة، لا نجد تجديداً فنياً عنده في استخدام هذه المفارقة(74).
ويبدو أنهم كانوا يسيرون للوراء فعلاً في بداية انهيار الدولة والشخصية، ولم يعد هناك إلا الادعاءات الجوفاء المبتذلة، والصور النمطية التي سبق له أن قالها موظفاً هذه المفارقة المبتذلة(75) فالصنعة هي التي تقوده، فأخذ يكررها تكراراً مبتذلاً، لا روح فيه فضلاً عن الصنعة والتكلف(76)؛ نوعاً من تسويق النص زهيد المعنى بتلويناته البديعية المنمقة وزخرفته(77). وعلى كل حال؛ فالواضح وضوحاً لا مرية فيه هو استحواذ لبيد على خيال الشاعر، وعده مثالاً للتفوق الشعري، وقمة الشعرية التي ليس بعدها قمة إلا المدعاة مبالغة.
والشاعر الثاني هو محمود صفوت الساعاتي (1241- 1298هـ)(78) ولا يشي التناص عنده بعد سبعة قرون في أحسن الظنون إلا بالاستنساخ الثقافي والحضاري بما يعكس جمود الواقع، وأثر ذلك على الإبداع في بعض الأمصار الإسلامية.
يمتلك الشاعر الحقيقي حساسية حقيقية للتراث؛ فيعمد خياله النشط عبر موهبته الفردية إلى تحليل مخزونه الشعري، أو ذاكرته الشعرية، ويعيد تلقائياً هذا الموروث بحيث يحمل سمات جديدة، أو على الأقل ملامح كالجديدة(79). وقد حاول الشاعر جعفر الحلي (1277- 1315هـ) في ديوانه (سحر بابل وسجع البلابل) أن يكسو المعنى كساءً جديداً؛ فقال مهنئاً أحد الوجهاء ومادحاً لخصاله؛ كدأب قصيدة التهنئة(80):
لك هيبة في الصدر يابن محمد تكسو لبيد الشعر ثوب بليد
ولكن ظل المعنى بارداً، ولم يخرج عن المعنى المألوف "لبيد بليد"، الذي أخذه أيضاً الشاعر عبد الباقي العمري (1279هـ- 1862م) في ديوانه المسمى بالترياق، محاولاً أن يجاوزه(81):
لساني إلى الكوفي يعزي وإنه لبيد بليد عنده ومحير
فقد أضاف العمري إلى المفارقة المبتذلة وصفاً بالعطف المراعاة للقافية ومحير"، والبليد محير بطبيعته؛ فلم يضف شيئاً ذال بال. وإن كنا لا نجحد أن ذكر لبيد في مثل هذه التهاني يكسب القصيدة نوعاً من البهاء، لم نكن لنشعر به لولاه ذكره، كما يكسب الشاعر نفسه نوعاً من الصقل الفني بمعرفة الإطار الثقافي للشعرية العربية، ولكننا في آخر الأمر لا نجد تجديداً يمكن أن نتوقف عنده.
وقد لا نجد هذه البرودة فيما سلكه محمد بن حمير الهمداني (ت651هـ) يمدح الشيخ ناصح الدين الزني(82):
نقحته قريحة أنتجتها فكرة تستقل شعر لبيد
وقد مكنت ثقافة محمد بن حمير الواسعة من أن يستمد من شعر لبيد وغير لبيد ما يعينه على صوغ أفكاره المختلفة في شعره، ويستلهم من مواقفه ما يشحذ قريحته لصياغة المعاني وفق الموقف الشعري(83)، وإن كانت الصياغة مجددة فالمعنى قريب، ولكن فيه روح التوقير للشاعر المستدعي تحمل من روح صاحبها المشهور بأنه لا يجنح إلى المبالغة والغلو(84) حتى نصل إلى مفارقة هذه المفارقة والتشبه بلبيد بشكل مباشر في شاعريته وتوسطه الشعراء الفحول؛ كالنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى في قول ابن هتيمل الضمدي (ت695هـ)(85):
وعلوت حتى صرت أحسب أنني كزهير، أو كزياد، أو كلبيد
وهك ذا تتراوح المفارقة بين المباشرة ومحاولة الإثارة عن طريق الاستفهام الإنكاري تعظيماً لشاعرية الذات؛ كما نجد عند ابن أبي حجلة (ت776هـ)(86):
أيطمع في معارضتي لبيد له من شعره أبداً سعير
وظلت محاولات مفارقة هذه المفارقة المبتذلة حتى طورها علي الجارم (ت1949م) بشاعرية تنبئ عن تطور ملحوظ في التلقي الشعري والذائقة الشعرية العربية التي صارت انعكاساً لما لاحظناه من نهضة عربية كانت آخذة في الصعود إبان هذه الفترة. يقول الجارم في حفل زفاف الملك فاروق(87):
أجهد الشعر أن يرى عزمات يعجز الوصف دونها وجهوداً
ومعانيك لا تحد فماذا يعمل الشعر قاصراً محدوداً
وإذا ما البيان عق لبيداً في المقام المهيب فاعذر لبيدا
فلم يتهم لبيداً بالبلادة؛ كما عهد سلفه في مفارقاتهم التي ابتذلوها، بل توجه إليه معتذراً إذا ما عجز عن التعبير في هذا الموقف المهيب مع ما عرف عن بلاغته وشاعريته؛ فخالف أفق توقع القارئ بما يثير دهشته ويمتعه بالنص، رغم أنه من شعر المناسبات الذي لا يتأتى لذاتية الشاعر فيه الإفصاح والتعبير بعواطف صادقة في الغالب. ولكن التصرف في الإطار الثقافي كان انعكاساً للسباقات الثقافية والحضارية التي شهدتها تلك الفترة، وهو ما يسميه بعض الباحثين بالاستدعاء المرن للتراث، مع حرص الجارم على استدعاء النموذج العروبي في شعره، واعتزازه الدائم بذاته وأصالة شاعريته بحيث لا تذوب في شعرية الآخر المستدعي، مهما بلغت قوة تأثيره وسحر شاعريته(88). وهو ما يعبر عنه باحث آخر بأن هذا الاستلهام بالإضافة إلى كشفه عن جوانبه الخفية عن طريق الشخصية المستحضرة، فإنه يستنهض الهمم؛ إذ يجعل الواقع العربي قادراً على الإفصاح عن عجزه، مع أننا نملك ميراثاً مهيباً يمكن أن ننظر إليه بإجلال(89)، واتخذ الجارم من لبيد وسيلة للقدرة على الإفصاح من خلال الاستدعاء الفني، وترك مساحة للشخصية المستدعاة لكشف المسكوت عنه، وما لم يقله النص بشكل مباشر يمنح النص فرصة أكبر لتعبير والتأثير المتلقي.
ونصل إلى طريقة خاصة في استثمار الإطار الشعري عند أمير الشعراء أحمد شوقي (ت1932م)، حين يلمح إلى المعنى تلميحاً لطيفاً يسمو بتجربته حين يخاطب ذكاء المتلقي، ويختبر ذائقته، وذاكرته في رثائه محمد ثابت، واصفاً براعته في الفارسية والعربية(90):
آخذاً من لسان فارس قسطاً وافر القسم من لسان لبيد
يشير شوقي إلى بلاغة لبيد مكتفياً بالإشارة إلى لسانه آلة بلاغته ودليل شاعريته على سبيل المجاز المرسل الذي يفتح آفاقاً أمام المتلقي للحوار مع النص، وتصور حقيقة المجاز بنفسه، وخياله، وقدرته على التصور.
ومن اللافت أيضاً أن الشاعرات رأين لبيداً هو قمة الشاعرية التي يرجونها ويتمثلن بها، في العصر الحديث؛ فالشاعرة الأديبة وزدة اليازجي (ت1924هـ) بنت الشيخ ناصيف اليازجي، التي درست في الجامعة الأمريكية ببيروت(91)، ترسل رسالة شعرية ترد بها على مجاملة من الشاعرة عائشة التيمورية (1840- 1902م)، بعد أن أهدتها الأخيرة ديوانها حلية الطراز(92)، حين تقول من قصيدة لها في ديوانها (حديقة الورد)(93):
فغدوت أشعر من لبيد دون أن يزري بقدر من علاك جليل
وهي مجاملة فيها من الظرف واللياقة ما فيها، ويهمنا منها كيف وظفت أنموذج الشاعرية المتمثل في لبيد ببلاغة وبراعة؛ إذ تلمح بذكاء من طرف خفي إلى ما اكتنز البيت من خطابات شعرية عبر رحلته الطويلة في الشعرية العربية، منذ أن قال الشافعي بيته الشهير(94):
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
فتصل وردة اليازجية بعائشة إلى ذروة لبيد مع احتراز لطيف مما احترز منه الشافعي. وهكذا تراوحت المفارقة الدالة على عبقرية لبيد بين إدهاش قليل نادر، وإخفاق كثير في عصور الضعف والاضمحلال، وإن كانت في النهاية تؤكد أمراً واحداً توكيداً لا لبس فيه؛ هو أن عبقرية لبيد الشعرية شغلت خيال الشعراء عبر العصور والبيئات، فجعلوها القمة المستحيلة التي يضرب بها المثل في بلوغ قمة الشاعرية، وإن استخدموا المفارقة المبتذلة في سبيلهم إلى ذلك.


2- الحزن الأبدي/ تيمة لبيد وأزبد:

تمثلت علاقة الأخوة الصادقة في تراثنا الشعري في ثلاث علاقات مشهورة طغت على ما عداها؛ هي: علاقة الخنساء بأخويها معاوية وصخر، ولاسيما الأخير، ومتمم ومالك ابنى نويرة، ولبيد وأربد أخيه الأكبر لأمه الذي عشق فروسيته، وجعل منه مثالاً للبطولة والشجاعة بمراثيه التي أبدع جلها في الإسلام بلا شك، مع أن هذا الأخ مات كافراً بصاعقة من السماء أحرقته استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالهلاك بعدما تآمر مع عامر بن الطفيل لقتله(95).
ويرى بعض الباحثين أن عرب الجزيرة العربية خاصة، ولبيد ابن وسط الجزيرة، تميزوا بدرجة عالية من العلاقات الحميمة بين الإخوة لم تصل إليها المجتمعات البدائية التي حولهم، ووصل بهم الارتقاء بالعلاقة الأخوية إلى أن يرى الأخ متعة الحياة في جوار أخيه فحسب، فإذا ما أسر أحدهما، أو قتل، تحولت حياة الآخر إلى جحيم لا يطاق، وتبدلت له الدنيا بوجه كالح كئيب؛ فلم يزل يبكيه حتى يلحق به. وعرفت عندهم علاقات حميمة مشهورة؛ كعلاقة المهلهل بكليب، وكعب بأبي المغوار، وقيس بمالك والحارس، وقس بن ساعدة بأخويه، وصخر بمعاوية(96)، ولبيد بأربد، والخنساء بصخر، ومتمم بمالك، ولكن الشعر هو الذي خلد بعضها، وأعرض الزمن عن كثير منها.

أ- ائتلاف الدم واختلاف العقيدة:
كثيراً ما تقابلنا النصوص التي تنتصر لرابطة الدين على رابطة الأخوة إلا فيما ندر، والندرة هي مناط الشاعرية ومثيرتها، وإن اختلفنا معها اعتقاداً. ولعل علاقة لبيد بأربد من أبرز ما يمثل هذه الندرة التي جعلت بعض الصحابة يرى أحقية النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المعاني النبيلة التي يضعها لبيد بعاطفته المفرطة في أخيه الذي حاول قتل النبي صلى الله عليه وسلم(97).
وواضح سيطرة هذه التيمة قد سيطرت على خيال الشعراء الكبار أصحاب التجارب الكبرى؛ وإلحاحها عليهم في تجاربهم، واستثمارهم لها في شعرهم بداية من معاصريه؛ كتميم بن مقبل (ت37هـ)، الذي يصور لوعته على أحبته بلوعة لبيد عند مفارقة أربد(98):
وإنا وإياكم وموعد بيننا كمثل لبيد يوم زايل أربدا
وكما اتخذ هذا البيت شاهداً على إسلامية قصيدة تميم، اتخذ دليلاً على براعته في الإشارة والتلميح(99) إلى شعر لبيد في أربد، وذلك أنه كان يتمثل برؤى لبيد في شعره(100).
ويصور ابن زيدون(ت 463هـ) إسحاق أمير قرمونة، عدو ممدوحة المعتضد بن عباد، وهو يندب ابنه العز ويبكيه، كما بكى لبيد على أربد(101)
فأصبح يبكيه المصاب بثكله بكاء لبيد حين فارق أربدا
والتشابه هنا في البكاء للرحيل من ناحية الأب وتشبيه حزنه ودموعه بدموع لبيد على أخيه. وقد أصاب ابن زيدون في تشبيهه من ناحية وأخفق من ناحية أخرى؛ فإن كان قد شبه العز بن إسحاق بأربد الكافر الذي أراد أن يقتل نبينا صلى الله عليه وسلم؛ فقد شبه أباه إسحاق بلبيد بن ربيعة رضي الله عنه الصحابي الجليل، مع ما عرف من وفائه ودينه وورعه من ناحية، وما عرف من خيانة إسحاق لممدوحه، وربما أراد ابن زيدون صدق البكاء نفسه، وهو وجه الشبه المنتزع. ونجد مثاله عند ابن نباتة المصري (ت768هـ)، حين يصف إجهاز ممدوحه على أعدائه؛ وبكاء حيهم على فقيدهم بكاء لبيد على فراق أربد(102):
وخلفهم تبكي على الجسد الطلا بكاء لبيد يوم فرقه أربد
ويبدو إعجاب ابن نباتة بشعر لبيد، وأن صورته أعجبته، وشغلته حتى نقلها من الرثاء إلى الغزل(103):
وفارقته أبكي عليه حقيقة بكاء لبيد يوم فرقة أربد
وهو ما نجد مثاله أيضاً، عند الشاعر أبي علي الأنصاري الكاتب (حسن بن زيد بن إسماعيل) الذي يصفه الصفدي بأنه كان من المقدمين في ديوان المكاتبات بمصر في أيام العبيديين، وأثنى عليه القاضي الفاضل، وهو أحد شعراء الخريدة(104) في قوله(105):
أعاذل أنحيت لوماً على تروح بعذلك أو تغتدي
ففضلي يبكي على نفسه بكاء لبيد على أربد
ولم يسمح لهم انبهارهم بهذه التيمة أن يفصلوا بين عناصر التشبيه؛ فكان تركيزهم على الإخلاص في البكاء الذي أكسبه لبيد سحراً خاصاً وصدقاً لا يزول مع الزمن؛ فيستخدمها البحتري أكثر من مرة؛ في مديحه أبا أيوب بن شجاع الذي ينتهي في وصف حاله أمامه بحال لبيد في حزنه على أخيه أربد(106). وواضح أن لبيداً حاضر في الوعي الشعري للبحتري منذ لحظته الأولى في مطلع قصيدته، رغم أننا لا نجد قصيدة للبيد في هذا الروي. يقول البحتري في البيت الثالث من مطلع هذه القصيدة(107):
في كل يوم دمنة من حيهم تقوى وربع منهم يتأبد
وهو ما يذكرنا تلقائياً ببيت لبيد الشهير في معلقته(108):
عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها
ويخاطب البحتري رجلاً من أهل نصيبين؛ يقال له: سعيد بن معاوية يشكو إليه أهل زمانه، وأخلاقهم التي تشبه أخلاق البغال في افتقاد الأصل الطيب النقي، كما يشكو خلفهم الوعد إلى أن ينتهي إلى قوله(109):
أناس لو تأملهم لبيد بكى الخلف الذي يشكو لبيد
يلمح إلى بيت لبيد الشهير في أخيه أربد، ويتحاور مع قوله(110):
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وتكرار اسم لبيد في العروض والضرب من قبيل التلذذ؛ وتكثيف الإيقاع الموسيقي، والحضور لشاعر استولى على إعجابه، كما استولى على كثير من خيال الشعراء، ويومئ البحتري هنا إلى موروث طويل مختزلاً روايات كثيرة قيلت في حضور أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، منها ما رواه الطبري (ت310هـ) في تهذيب الآثار "عن عائشة، أنها قالت: يا ويح لبيد حيث يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
قالت عائشة: فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال عروة: رحم الله عائشة، فكيف لو أدركت زماننا هذا؟ ثم قال الزهري: رحم الله عروة، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ ثم قال الزبيدي: رحم الله الزهري، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال محمد: وأنا أقول: رحم الله الزبيدي، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال أبو حميد: قال عثمان: ونحن نقول: رحم الله محمداً، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال أبو جعفر: قال لنا أبو حميد: رحم الله عثمان، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال أبو جعفر: رحم الله أحمد بن المغيرة، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟ قال الشيخ رحم الله أبا جعفر، فكيف لو أدرك زماننا هذا؟"(111).
والبيت متداول مع سرديات كثيرة في أبواب تبدل الأحوال في كتب التراث(112). وأوشك بيت البحتري أن يختزل كل هذه الأحاديث والمرويات من ناحية، وينميها، ويحدث لها نوعاً من التواصل والاطراد من ناحية أخرى.
ومما لا شك فيه أن شاعرية البحتري استوعبت أن تيمة لبيد وأربد مشابهة لتيمة متمم بن نويرة وأخيه مالك الذي قتله ضرار بن الأزور الأسدي بأمر من خالد بن الوليد. ولمتمم مراث مشهورة في مالك أخيه؛ ولذا يجمع البحتري بينهما(113):
ألوى بأربد عن لبيد واهتدى لابني نويرة مالك ومتمم
وهو تشابه لاحظه أبو العلاء المعري، وقرنهما بالمشابهة الثالثة التي أشرت إليها آنفاً؛ أعني تيمة الخنساء وأخيها صخر، ورأى في رسالة الغفران أنهم سيلتقون في الآخرة بعدما خمدت جمار الإحن التي كانت في الدنيا، وستباركهم الملائكة(114)، وكأن أبا العلاء الذي يتناص مع أرسطو كثيراً، يشاركه في مفهوم التطهير (Catharsis)، ويراه غاية الفن(115)؛ ولذا يجري حواراً حميماً مع لبيد(116) في جنة الخلد(117) في مشاهد مختلفة تنم عن توقيره إياه وتقديره لعبقريته الشعرية(118).
ويبلغ تعلق البحتري الشديد بشعر لبيد درجة الذوبان والتقمص؛ فيشبه دموع أحزانه بدموع لبيد على أربد(119):
وأنا لبيد عند آخر دمعة يصف الصبابة والمكارم أربد
وحاول الشاعر الطبيب ابن شبل البغدادي (ت474هـ) أن يكون واقعياً في رثاء أخيه، ويضرب المثل على أن الحزن لا يميت أحداً(120):
غاية الحزن والسرور انقضاء ما لحي من بعد ميت بقاء
لا لبيد بأربد مات حزناً وسلت صخراً الفتى الخنساء
مثل ما في التراب يبلى الفتى فالـ حزن يبلى من بعده والبكاء
غير أن الأموات زالوا وأبقوا غصصاً لا يسيغها الأحياء
يتسلح الشاعر الطبيب بحكمة الحياة في انقضاء الحزن؛ كما ينقضي السرور، فلا يجد مثالاً أصدق من حزن لبيد العميق والطويل على أربد، ومع ذلك فلم يمت لبيد حزناً. بل على العكس امتد به العمر، رغم حزنه حتى مل الحياة. وتستدعي تيمة لبيد وأربد تيمة الخنساء وصخر لتوكيد فكرته؛ فالحزن يبلى لا محالة كما يبلى المرء، ولكنه يعود عن حكمه في اضطراب واضح بأن غصة موت الأحباء لا تنقضي، ولا تستساغ، وكأنه رجع إلى الحال التي كان عليها لبيد والخنساء.
ب- فلسفة الموت سر البقاء: ربما صارت تيمة لبيد أشيع، وأكثر تأثيراً عند الشعراء لأنه الأرحب شاعرية، والأكثر عمقاً، واتصالاً بالحقائق الوجودية الكامنة والمستترة خلف الأحداث من خلال تجربته الطويلة وشخصيته الرصينة، وطبيعته التأملية، والأهم أنه استطاع أن ينفذ إلينا معاناته الصماء القاتمة عبر لغة شعرية شفيفة وصادقة، وتحمل بصماته الأسلوبية، وسماته الفنية الخاصة. فنجح في رسم صور الألم الإنساني العام، ومظاهر العبث في الإحياء، ورمز إلى المضمرات الوجودية من خلال ظواهر الكون والأحياء؛ بما لم يتيسر لشاعرية الخنساء، ولا خطابية المهلهل الشعرية؛ فعبارة لبيد وليدة تثقيف طويل، وتنخل واع، وقدرة مميزة على النحت الذي يصفه إيليا حاوي بأنه ينحت لغته على غرار البرناسيين في القرن التاسع عشر نحتاً ضنيناً على قدر المعاني، ولا يتركها تتهلهل؛ فتتخلف عن مضامينه وتجاربه. وتنداح تجربة الرثاء خاصة في نفسه حتى تشمل العالم كله؛ ولذا لم يلحق به المهلهل ولا الخنساء(121).
خلف موت أربد في نفسه حزناً نادراً؛ إذ لم يقتل في معركة، أو تحتشد عليه قبيلة ككليب وائل أو صخر، إنه القدر الذي انقض عليه من السماء عقاباً لجريرة ارتكبها؛ فصار كأن لم يكن. ومع أن لبيداً من السادة المنعمين المتمرسين بالفروسية؛ فإنه انكفأ على ذاته، إثر مقتل أخيه؛ فتكشف وجه آخر حزين. ولكنه تسلح بالإيمان والشعر، والبحث عن فلسفة مجهولة مستترة خلف الأشياء؛ فبدا في حزنه المبهم المركب فيلسوفاً يحس ببواطن الوجود الإنساني، ويقرنها بما يحس من الموجودات حوله. فالنجوم السائرة في الليل، والجبال المسيطرة على أفق الرؤية في النهار تقيم وتبقى، ويرحل الإنسان، ويموت، ويأتي المساء ولا تشعر النجوم بفقده(122)، ويسطع النهار، فلا تفتقده الجبال الشامخة ولا البحار الواسعة، كأن شيئاً لم يحدث. والذي مات لا شأن له، ولن تحفل برحيله، أو تتعطف لمصيره. فالحياة إذاً هي أفجع من حياة كثير من الموجودات التي يرقبها ليل نهار؛ أو كما يقولون: الطبيعة لا تعني بمصير أبنائها. إنه عمق لبيد في تأمل الوجود، والتمرس بآفاته؛ ولذا رأى أن كل شيء باطل وزائل، لا يستحق أن نجزع لأمر، أو أن نغتر بخدع الحياة الفانية؛ فامتاز شعره الرثائي بالترفع عن الصورة الحسية الزائلة نحو صور ذات دلالات نفسية ورمزية تستمد مما وراء الواقع، مبطنة بمعاناته الخاصة، ومشحونة برؤيته الإنسانية العامة.

3- شخصية البطل، وأخلاق الفرسان:

أ- الحاكم الحزين وقانون البكاء:
الحكم كلمة شديدة الوطء على النفس البشرية لما فيها من الشعور بالإجبار أو الغرم إذا كان موجهاً إليها، ولكنه يصير عزاء إذا وجه إلى الآخر الجاني، وربما جاء تخفيفاً ونجاة للنفس من الشعور بالذنب، ونجاة لها من جلد الذات، وعقاب الضمير. وشاع بين الشعراء التمثل بحكم لبيد(123) الذي صار يضرب مثلاً في الميت يبكى عليه، والغائب يخترم له سنة واحدة(124). وقد استنبطوه من وصيته الأخيرة لابنتيه حين حضرته الوفاة، وكذا من وصيته لابن أخيه؛ إذ لم يعقب ذكراً(125)، وهو ما عرف عند الشعراء بحكم لبيد(126):
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
ونائحتان تندبان بعاقل أخا ثقة لا عين منه ولا أثر
وفي ابني نزار أسوة إن جزعتما وإن تسألاهم تخبرا فيهم الخبر
وفيمن سواهم من ملوك وسوقة دعائم عرش خانة الدهر فانقعر
فقوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً ول تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي لا خليله أضاع ولا خان الصديق ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملاً فقد اعتذر
يمثل المقطع على صغره نصاً درامياً فيه الصراع مع الموت، والحوار والشخصيات، في كثافة سردية تغري الشعراء بالتناص معه، وبث تجاربهم من خلال استلهامه تلخيصاً لتجاربهم المريرة، أو للمناطق الأكثر حساسية وتأثيراً فيها، متجاوزين المبني الشعري إلى المتن أو المرجع الذي انبثق منه؛ وهذا الحكم المنصوص عليه في عجز بيته الأخير يضع فيه حكماً للبكاء الذي يعذر به صاحبه، وهو الحكم الذي تمسك به أبو تمام (حبيب بن أوس ت231هـ) في مقدمته الغزالية التي يوطئ بها لاعتذاره لأحمد بن أبي دؤاد(127):
ظعنوا فكان بكاي حولاً بعدهم ثم ارعويت وذاك حكم لبيد
يشير الطائي إلى حكم لبيد المشار إليه آنفاً(128). كما نجد عند أبي العلاء في لزومياته(129):
أوصى ابنتيه لبيد الــ ماضي ولا أوصي ابنتيا
فحال لبيد الذي لم يخلف ذكراً، أحسن حالاً من المعري الذي لم يجد ابنتين يوصيهما، وينعى شبابه، وأيام فتؤته وأحلامه التي طالت الفرقدين، ثم لم يجد في نهاية الحياة من يندبه وينوح عليه، ويحزن لفراقه.
ويبدو أن لبيداً قد قر في وعي المعري حتى جمع هاتين الابنتين وعمهما أربد وأعمامه العامريين الذين ظل يرثيهم لبيد بعد الإسلام لينعي المعري نفسه، ويودع الحياة مستريحاً أن لا بقاء لأحد ولا رثاء يخلف بقاء؛ فالعدم هو الفكرة المسيطرة على فكره. ولذا يتساءل نافياً ومؤكداً أن لا بقاء لأحد، الكل هباء، ولا يجد ما يضرب به المثال، ويلخص القضية إلا في هذا البيت الدال الذي لا يلخص حياة المعري وفلسفته فحسب، بل حياة لبيد، أيضاً(130):
أين لبيد وأين أسرته تزخر عند الضحى مسابلها
ويتوقف المعري أمام ما عرف باعتذار لبيد في نصيحته لابنتيه في رسالة الغفران بوصفه مثالاً للفقد الذي ليس له نظير، والنواح الصادق الذي يجرع صاحبه كؤوس الأسى والحزن بلا انقطاع(131). وهو ما نجد نظيره عند ابن زيدون شعراً وسرداً(132)؛ فقد تجاوز تأثير بيت لبيد الشعر إلى السرد؛ كما في سرديات أبي حيان التوحيدي (ت414هـ)(133).
واستمر هذا الحكم مقياس الاعتذار، متى وفاه المحب على أعز أحبابه فقد بلغ الغاية حتى صار حداً، وسنة للبكاء؛ كما يقول ابن الشجري (ت542هـ)(134):
هل الوجد خاف والدموع شهود وهل مكذب قول الوشاة جحود
وحتى متى تقني شئونك بالبكا وقد حد حداً للبكاء لبيد
وإني وإن لانت قناتي لضعفها لذو مرة في النائبات شديد
فالبكاء الزائد لا قيمة له، ولن يغير واقعاً؛ ولذا يجب على الإنسان أن يتماسك أمام محن الدهر حتى لا يترك للوشاة فرصة، وأن يقوى أمام النائبات مهما دعته إلى الضعف والانكسار، وربما لهذا السبب استجاده الأدفوي (ت685هـ)(135)، ولم يظل هذا الحكم معياراً للحزن الوافي؛ إذ استطاع المحبي (ت1111هـ) أن يبني حكماً على حكم، ومعنى على معنى؛ ليزداد المعنى حيوية بالتقادم والتواشج؛ فيصير مقسوماً بين ثلاثة شعراء لا شاعرين. فقد أخذ ابن هانئ الأندلسي (ت363هـ) حكم لبيد، وحاول تطويره بأن جعله مقصراً في بكائه على أحبابه؛ إذ اكتفى بعام واحد، مع أن بكاء الدهر لا يكفيهم(136):
سأبكي عليه مدة العمر إنني رأيت لبيداً في الوفاء مقصراً
وبالغ ابن هانئ في حكمه كما يصنع في شعره؛ إذ يرى أن بكاء العمر على الأحباب لا يكفي، متهماً لبيداً بالتقصير في حكمه، ولكن المحبي (ت1111هـ) يزيد عليه:
يا صديقي تركتني لهمومي نقضي قبلها زمان الزمان
لست أرضى عليك حكم لبيد مذهبي في الوفاء حكم ابن هاني
عيل صبري وإنما أتاسى بعموم المصاب في الأعيان
أسعد الصاحبين من مات من قبــ ل وأبقى الصديق للأحزان
إنما هذه مراحل تطوى والبرايا تساق كالركبان
ويعلق المحبي نفسه على قصيدته موضحاً مراده؛ قائلاً: "ومرادي بحكم لبيد قوله: ويذكر البيت"(137).
ولم تأت محاولات المحبي من فراغ؛ فقد سبقه ابن الزقاق البلنسي (491- 530هـ) حين رأى أن بكاءهم على أحبابهم ألف عام قليل، وإن كان لبيد قد وضع حداً لذلك بعام واحد(138):
قليل بكانا ألف حول وإن قضى باكمال حول بالبكاء لبيد
لا يقتصر هذا التوالد الواضح لمعنى لبيد عند المحبي في هذه الصورة، بل تستدعي الصور بعضها بعضاً، ويلح الشاعر الساكن في الوجدان بصوره وتراكيبه وموسيقاه، بل يتجاوز كل ذلك إلى الحضور بشخصه، كلما سنحت فرصة وجوده في النص الجديد؛ فيتجاوز شعرية المبنى إلى شعرية المتن؛ من ذلك ما نجده عند المحبي في إحدى مراثيه، ويستحضر آيات سورة الرحمن، ونستشعر حضور لبيد في مطلعها(139):
كل حي على البسيطة فإن غير وجه المهيمن الرحمن
وعلى كل حال فليبد حاضر في شعره ووعيه بوضوح، وظل هذا الحضور ماثلاً في المخيلة الشعرية العربية حتى جاء البارودي (محمود سامي ت1904م) رائد الإحياء؛ فأخذ متن الحكاية متجاوزاً سطح المعنى بعد تمامه واختماره في نصوص من سبقه؛ فقال في رثاء حليلته (عديلة يكن) التي توفيت وهو في سرنديب(140):
فلئن لبيد قضى بحول كامل في الحزن فهو قضاء غير جواد
وهنا نوع من التطور الدلالي؛ فشعرية البارودي، التي أسست لحركة الشعر الحديث، قد جمعت بين تيمتين مختلفتين من تيمات لبيد؛ وهما الوصية التي وصاها ابنتيه، وما عرف عن جوده ونحره الجزائر كلما هبت الصبا، ورأى أن وصيته لا تتفق مع ما عرف عن جوده، وذلك لأنه لا ينظر في المبنى الشعري، بل يسيطر عليه متن سيرة لبيد. ولذا يرى بعض الباحثين أن تناص البارودي يمثل تحول نسق علامي إلى نسق علامي آخر، ليس داخل البنية النصية فحسب، بل داخل البنية الثقافية والتاريخية التي يفتح التناص آفاقها من جميع الجهات(141).
ومن أحكامه التي عدت أحكاماً مطلقة قوله الذي اشتهر وصار قضاءً، وضرب بذلك المثل: "إنما يجزي الفتى ليس الجمل"، ومعناه إنما يعرف النعم، وما يجب لها من شكر المنعم أرباب العقول وذوو التمييز، لا البهائم، فمتى أسديت إليك نعمة فكن مجازياً عليها؛ فإن ذلك من تمام العقل(142) من قوله(143):
فإذا جوزيت قرضاً فاجزه إنما يجزي الفتى ليس الجمل
وقد ضمنه الشعراء أيضاً، وجعلوا منه قضاءً، ومن لبيد قاضياً وحكماً؛ من ذلك قول ابن الرومي(144):
قد قضى قول لبيد بيننا إنما يجزي الفتى ليس الجمل
فقد استدل ابن الرومي على فكرته ومحاجاته بحكم لبيد الذي لا يرد، وله القبول من كل أطراف النزاع بوصفه دستوراً حكيماً، وقد شاع عدهم الاستدلال والاستشهاد على صواب أحكامهم بغير حكم له. من ذلك أيضاً ما نجده من إجابة أبي محمد بن أبي المجد، على صاحبه أبي الحسن الجياب، وهما من أدباء الأندلس المرموقين "وقال يوماً شيخنا أبو الحسن بن الجياب هذين البيتين على عادة الأدباء في اختيار الأذهان:
جاهد النفس جاهداً فإذا ما فنيت عنك فهي عين الوجود
وليكن حكمك المسدد فيها حكم سعد في قتله لليهود
قال: فأجابه أبو محمد بن أبي المجد(145):
أيها العارف المعبر ذوقاً عن معان غزيرة في الوجود
إن حال الفنا عن كل غير لمقام المراد غير المريد
كيف لي بالجهاد غير معان وعدوه مظاهر بجنود
ولو أني حكمت فيمن ذكرتم حكم سعد لكنت جد سعيد
فأراها صبابة بي فتوناً وأراني في حبها كيزيد
سوف أسلو بحبكم عن سواها ولو أبدت فعل المحب الودود
ليس شيء سوى إلآهك يبقى واعتبر صدق ذا بقول لبيد
يشير إلى قول لبيد الشهير(146):
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وواضح أنه مهد لهذا الحكم تمهيداً كافياً لأنه حاضر في وعيه من البداية؛ فجعله خير ختام، وقولاً فصلاً في الإجابة التي لا ترد؛ لما يحمله الحكم من الحجة الدامغة، والحكمة القاطعة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.76 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.30%)]