عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-02-2020, 04:14 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,280
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مسألة العدوى بين التوكل والتحفظ

مسألة العدوى بين التوكل والتحفظ
محمود داود دسوقي خطابي




وفي طريق الجمع مسالك أخرى:

أحدها: نفْي العدوى جُمْلة، وحمْل الأمر بالفرار من المجذوم على رعاية خاطر المجذوم؛ لأنَّه إذا رأى الصَّحيح البدن، السليم من الآفة تَعْظم مصيبته، وتزداد حسرته، ونَحْوه حديث ((لا تديموا النظر إلى المجذومين)) فإنَّه محمول على هذا المعنى.

ثانيها: حمْل الخطاب بالنفي والإثبات على حالتين مختلفتين، فحيث جاء ((لا عدوى)) كان المخاطَب بذلك مَن قَوِي يقينه وصحَّ توكُّله، بحيث يستطيع أنْ يَدْفع عن نفسه اعتقادَ العدْوى، كما يستطيع أن يَدْفع التطيُّر الذي يقع في نفْس كلِّ أحد، لكنَّ القويَّ اليقين لا يتأثر به...

وحيث جاء ((فر من المجذوم)) كان المخاطَب بذلك مَن ضعف يقينه[53]، ولم يتمكَّن من تمام التوكُّل، فلا يكون له قوَّة على دَفْع اعتقاد العدْوى، فأُرِيدَ بذلك سَدُّ باب اعتقاد العدوى عنه بألاَّ يباشر ما يكون سببًا لإثباتها.

وقريب من هذا كراهيته - صلَّى الله عليه وسلَّم - الكيَّ مع إذْنه فيه كما تقدَّم تقريره، وقد فعل هو - صلَّى الله عليه وسلَّم - كُلاًّ من الأمرين؛ ليتأسَّى به كلٌّ من الطائفتين.

ثالث المسالك: قال القاضي أبو بكر الباقلاَّنيُّ: إثبات العدْوى في الجذام ونحوه مَخْصوص من عموم نفْي العدوى، قال: فيكون معني قوله: ((لا عدوى))؛ أيْ: إلاَّ من الجذام والبرَص والجرَب مثلاً، قال: فكأنَّه قال لا يعْدِي شيءٌ شيئًا إلاَّ ما تقدَّم تبْيِينِي له أنَّ فيه العدْوى، وقد حَكَى ذلك ابنُ بطَّال.

رابعها: أنَّ الأمر بالفرار من المجذوم ليس من باب العدوى في شيء، بل هو لأمْر طبيعيٍّ، وهو انتقال الدَّاء من جسَدٍ إلى جسد، بواسطة الملامسة والمخالطة وشمِّ الرائحة؛ ولذلك يَقع في كثير من الأمراض - في العادة - انتقالُ الدَّاء من المريض إلى الصحيح بكثرة المخالَطة، وهذه طريقة ابن قُتَيبة، فقال: المجذوم تشتدُّ رائحته حتَّى يسقم مَن أطال مجالسته ومحادثته ومضاجعته...

قال: وأما قوله: ((لا عدوى)) فله معنًى آخَر، وهو أن يقع المرض بمكانٍ كالطَّاعون، فيفرَّ منه مخافةَ أن يصيبه؛ لأنَّ فيه نوعًا من الفرار من قدر الله.

المسلك الخامس: أنَّ المراد بنفي العدوى أنَّ شيئًا لا يعْدي بطبْعه؛ نفْيًا لِمَا كانت الجاهليةُ تعتقده أنَّ الأمْراض تعْدي بطبْعها من غير إضافة إلى الله، فأبطل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اعتقادَهم ذلك، وأكَلَ مع المجذوم؛ ليبيِّن لهم أنَّ الله هو الذي يُمْرِض ويَشْفي، ونهاهم عن الدُّنوِّ منه؛ ليبين لهم أنَّ هذا من الأسباب التي أجْرى الله العادة بأنَّها تُفْضِي إلى مسبباتها.

ففي نَهْيِه إثباتُ الأسباب، وفي فعْله إشارةٌ إلى أنَّها لا تستقلُّ، بل الله هو الذي إنْ شاء سلَبها قُوَاها[54]، فلا تؤثِّر شيئًا، وإنْ شاء أبقاها فأثَّرَت.

ويحتمل أيضًا أن يكون أكْلُه - صلى الله عليه وسلَّم - مع المجذوم أنَّه كان به أمْرٌ يسير لا يعْدي مثْلُه في العادة؛ إذْ ليس الجَذْمَى كلُّهم سواء، ولا تحصل العدوى من جميعهم، بل لا يحصل منه في العادة عدْوى أصلاً كالَّذي أصابه شيء من ذلك ووقف فلم يُعْدِ بقيَّة جسْمه فلا يعدي...

قال البيهقي: وأمَّا ما ثبت عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((لا عدوى))، فهو على الوجْه الذي كانوا يَعْتقدونه في الجاهليَّة من إضافة الفعل إلى غير الله - تعالى - وقد يَجْعل الله بمشيئته مخالطةَ الصحيح مَن به شيءٌ من هذه العيوب - سببًا لحدوث ذلك، ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد))، وقال: ((لا يورد ممرض على مصحٍّ))، وقال في الطاعون: ((مَن سمع به بأرض فلا يقْدَم عليه)) وكلُّ ذلك بتقدير الله - تعالى.

وتَبِعَه على ذلك ابنُ الصَّلاح في الجمع بين الحديثين، ومَن بعده وطائفةٌ ممَّن قبْلَه.

المسلك السادس: العمل بنفي العدوى أصلاً ورأسًا، وحمْل الأمر بالمجانبة على حَسْم المادة وسدِّ الذريعة؛ لئلاَّ يَحْدث للمخالط شيءٌ من ذلك، فيظنَّ أنه بسبب المخالطة، فيُثْبِت العدوى التي نفَاها الشارع، وإلى هذا القول ذهَب أبو عبيد وتَبِعه جماعة، فقال أبو عبيد: ليس في قوله: ((لا يورد ممرض على مصحٍّ)) إثباتُ العدْوى؛ بل لأنَّ الصِّحاح لو مرضَتْ بتقدير الله - تعالى - ربما وقع في نفْس صاحبها أنَّ ذلك من العدوى، فيفْتَتن ويتشَكَّك في ذلك، فأمَرَ باجتنابه.

قال: وكان بعضُ الناس يَذهب إلى أنَّ الأمر بالاجتناب إنما هو للمخافة على الصَّحيح مِن ذوات العاهة.

قال: وهذا شرُّ ما حُمِل عليه الحديث؛ لأنَّ فيه إثباتَ العدْوى التي نفَاها الشارع، ولكنَّ وجْه الحديث عنْدي ما ذكرْتُه...
وقال الطبريُّ: الصواب عندنا القول بما صحَّ به الخبر، وأنْ لا عدوى، وأنَّه لا يصيب نفْسًا إلا ما كُتِب عليها.

وأما دنوُّ عليلٍ من صحيح، فغير مُوجِب انتقال العلَّة للصحيح، إلاَّ أنَّه لا ينبغي لذِي صحَّةٍ الدنوُّ من صاحب العاهة الَّتي يكرهها الناس، لا لتحريم ذلك؛ بل لِخَشية أن يَظنَّ الصحيح أنَّه لو نزل به ذلك الداء - أنَّه من جهة دُنوِّه من العليل، فيقع فيما أبطله النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من العدوى.

قال: وليس في أمره بالفرار من المجذوم معارضةٌ لأكْله معه؛ لأنَّه كان يأمر بالأمر على سبيل الإرشاد أحيانًا، وعلى سبيل الإباحة أخرى، وإن كان أكثرُ الأوامر على الإلزام، إنَّما كان يَفعل ما نَهى عنه أحيانًا؛ لبيان أنَّ ذلك ليس حرامًا.

ولذلك قال القرطبيُّ في "المُفْهِم": إنَّما نَهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - عن إيراد المُمْرِض على المصحِّ مخافةَ الوقوع فيما وقع فيه أهل الجاهلية من اعتقاد العدْوى، أو مخافة تشويش النُّفوس وتأثير الأوهام، وهو نحو قوله: ((فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) وإن كنا نعتقد أنَّ الجُذَام لا يعدي، لكنَّا نجد في أنفسنا نفرة وكراهية لمخالطته، حتَّى لو أَكرَه إنسان نفسه على القرب منه وعلى مجالسته - لتأذَّت نفْسُه بذلك، فحينئذٍ فالأَولى للمؤمن أن لا يتعرَّض إلى ما يَحتاج فيه إلى مجاهدة، فيجتنب طرُقَ الأوهام، ويباعد أسباب الآلام، مع أنَّه يعتقد أنَّه لا يُنْجِي حذَرٌ من قدَر، والله أعلم.

قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: الأمر بالفرار من الأسد ليس للوجوب؛ بل للشفقة؛ لأنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان ينهى أمته عن كلِّ ما فيه ضرر بأي وجْه كان، ويدلُّهم على كلِّ ما فيه خير.

وقد ذَكر بعضُ أهل الطبِّ أنَّ الروائح تُحْدِث في الأبدان خللاً، فكان هذا وجْهَ الأمر بالمجانبة، وقد أكَل هو مع المجذوم، فلو كان الأمر بمجانبته على الوجوب لَمَا فعله.

قال: ويُمكن الجمع بين فعله وقوله بأنَّ القول هو المشْروع من أجل ضَعْف المخاطبين، وفعله حقيقة الإيمان[55]، فمَن فعَل الأوَّل أصاب السُّنة، وهي أثَر الحِكْمة، ومَن فعَل الثاني كان أقوى يقينًا؛ لأن الأشياء كلَّها لا تأثير لها إلا بمقْتضى إرادة الله - تعالى - وتقديره، كما قال - تعالى -: ï´؟ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ï´¾ [البقرة: 102]، فمن كان قويَّ اليقين فله أن يُتَابعه - صلَّى الله عليه وسلَّم - في فِعْله ولا يضرُّه شيء، ومَن وجَد في نفْسه ضعفًا فليتَّبع أمْره في الفرار؛ لئلاَّ يَدخل بفعله في إلقاء نفسه إلى التهلكة.

فالحاصل أنَّ الأمور التي يُتَوقَّع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربانية الحذرَ منها - فلا ينبغي للضعفاء أنْ يقربوها، وأمَّا أصحاب الصِّدق واليقين فهُم في ذلك بالخيار.

قال: وفي الحديث أنَّ الحكم للأكثر؛ لأنَّ الغالب من الناس هو الضَّعف، فجاء الأمر بالفرار بحسب ذلك.

قوله: ((فيُجربها)) في رواية مسلم: ((فيدخل فيها ويُجربها)) بضم أوَّله، وهو بناء على ما كانوا يعتقدون من العدْوى؛ أيْ: يكون سببًا لوقوع الجرَب بها، وهذا من أوهام الجُهَّال، كانوا يعتقدون أنَّ المريض إذا دخل في الأصِحَّاء أمْرضَهم، فنفى الشارع ذلك وأبطله، فلمَّا أورد الأعرابيُّ الشبهة ردَّ عليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((فمَن أعدى الأول؟))، وهو جواب في غاية البلاغة والرشاقة.

وحاصله: مِن أيْن الجرَب للَّذي أعْدى بزعْمهم؟ فإنْ أُجيبَ: مِن بعير آخَر، لزِم التَّسلْسل، أو سبب آخر فليفْصح به، فإنْ أُجيبَ بأنَّ الذي فعَله في الأوَّل هو الذي فعله في الثاني، ثبَت المُدَّعى، وهو أنَّ الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كلِّ شيء، وهو الله - سبحانه وتعالى.

قوله: وعن أبي سلمة، سَمِع أبا هريرة بعدُ يقول: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يوردنَّ ممْرِض على مصحٍّ)).
كذا فيه بتأكيد النهي عن الإيراد.

ولمسلم من رواية يونس عن الزهري: ((لا يوردُ)) بلفظ النفي، وكذا تقدَّم من رواية صالح وغيره، وهو خبر بمعنَى النهي بدليل رواية الباب.

وقد تقدم وجْه الجمع بينهما في "باب الجذام"، وحاصله أنَّ قوله: ((لا عدوى)) نهْي عن اعتقادها، وقوله: ((لا يورد)) سبب النهي عن الإيراد خشية الوقوع في اعتقاد العدْوى، أو خشية تأثير الأوهام، كما تقدَّم نظيره في حديث ((فر من المجذوم))؛ لأنَّ الذي لا يَعتقد أن الجذام يعدي يجد في نفْسه نفرة، حتَّى لو أكْرهها على القرب منه لتألَّمتْ بذلك، فالأَولى بالعاقل ألاَّ يتعرَّض لمثْل ذلك، بل يباعد أسباب الآلام، ويجانب طرق الأوهام، والله أعلم"[56].

رابعًا: ذكر أحاديث وآثار رُوِيَتْ في العدوى، ولكنَّها غير صحيحة:
وهى لو صحَّتْ - تنَزُّلاً - فإنَّها تُوجَّهُ كما وُجِّهَتِ الأحاديثُ الصحيحةُ السابقة، وهذه الأحاديث هي:
1 - ((كُلْ مع صاحب البلاء تواضعًا لله - تعالى - وإيمانًا به))[57].

2 - يُروى عن فروة بن مُسَيك المرادي قال: قلتُ: يا رسول الله، إنَّ أرضًا عندنا يُقال لها: أرض أبين، هي أرض رِيفنا وميرتنا، وإنَّها وبِئة - أو قال: إنَّ بها لَوباءً شديدًا - فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعْها عنك؛ فإنَّ من القَرَف التَّلف[58]))[59].

3 - ((كَلِّم المجذوم وبينك وبينه قِيد[60] رُمْح أو رمحين))[61].

4 - يُرْوَى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قال لِصاحب هذا الوجع - الجذام -: ((اتَّقوه كما يُتَّقى السَّبُع، إذا هبط واديًا فاهبطوا غيره))... [فلما سأل معيقيب[62] عبدَاللهِ بنَ جعفرٍ] قال: فقال: "كذَبوا، واللهِ ما حدَّثْتهم هذا"[63].

5 - عن خارجة بن زيد أنَّ عمر وُضع له العشاء مع الناس يتعشَّون، فخرج، فقال لِمُعيقيب بن أبي فاطمة الدَّوسي: "ادْن فاجلس، وايم الله لو كان غيرك به الذي بِك، لَما أُجْلِس منِّي أدْنى من قِيد رمح"[64].

6 - عن صالح بن كيسان قال: قال أبو زياد: حدَّثني خارجة بن زيد أنَّ عمر بن الخطاب دعاهم لغدائه، فهابوا وكان فيهم مُعَيقيب وكان به جُذام، فأكل مُعَيقيب معهم، فقال له عمر: "خذ ممَّا يَلِيك ومن شقك، فلو كان غيرك ما آكلَني في صحْفة، ولكان بيني وبينه قِيد رمح"[65].

7 - ((إنْ كان شيء من الدَّاء يعْدي، فهو هذا))؛ يعني: الجذام[66].

8 - يُرْوَى عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلَّم - على بِساط، فأتاه مجذوم فقال: ((يا أنس، اثْنِ البِساطَ؛ لا يطأ عليه بقَدمه))[67].

خامسًا: خلاصة البحث في مسألة العدوى:
وخلاصة ما تقدَّم فيما يتعلَّق بمسالة العدوى أنَّ العدوْى المنفيَّة هي التي يعْتقدها المشركون والطبائعيون من انتقالها وُجوبًا ولزومًا، وليس بتقدير الله - تعالى - مع أنَّ الله - تعالى - وضع أسبابًا بحكْمة، يصيب بها من يشاء، وأنَّ مَن احترز واجتنب أصحاب الأوبئة، فقد فعل أمرًا جائزًا ومستحبًّا، وفيه مراعاة لخاطر أهْل الوباء والمرَض، كما أنَّ فيه سلامةً للعاقل من تعْريض نفْسه للأوهام والوقوع في المحذور إذا قدَّر الله - تعالى - بإصابةٍ بعد الاقتراب من أهل البلاء.

أمَّا مَن قويت ثقته بالله وتوكُّله عليه - سبحانه - فلْيخالِط أصحاب تلك الأوبئة؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلَّم - فعل الأمرين، وأنَّ القول بنسخ أحد القولين غلط، وكذلك إهمال أحد القولين لا يجوز، فتعَيَّن الجمع بنحْوِ ما تقدَّم من ترجيح الأئمة المحقِّقين: كالحافظ ابن حجر في "فتْح الباري" كما تقدَّم، وعليه قول الإمام النووي في "شرحه لصحيح مسلم"، والإمام ابن مُفلح في "الآداب الشرعية"، والإمام ابن القيِّم في "زاد المعاد" و"مفتاح دار السعادة" و"الطرق الحكمية"، والإمام المُناوِي[68] في "فيض القدير" وما نقلوه عن غيرهم من الأئمة.

♦والمسلم حِيال الوباءِ والابتلاءِ - بالخير والشر - أمره عجبٌ كلُّه، كما قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمْره كلَّه خير، وليس ذاك لأحد إلاَّ للمؤمن؛ إنْ أصابته سرَّاءُ شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبَر، فكان خيرًا له))[69]؛ ولهذا قال الله - تعالى -:ï´؟ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾ [التغابن: 11].

وبذِكر الله - عزَّ وجل - تطمئِنُّ القلوب، كما في قوله: ï´؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ï´¾ [الرعد: 28]، وإن الله - تعالى -ï´؟ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ï´¾ [الشورى: 19]، وهو - سبحانه - الذي أمَرنا بالحذر من الأعداء بقوله: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71]، وقوله: ï´؟ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ï´¾ [البقرة: 195]، مع قوله: ï´؟ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ï´¾ [المائدة: 23].

ومع ذلك فنُوقِن بقوله - تعالى -: ï´؟ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ï´¾[التوبة: 51]،وبقوله: ï´؟ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ï´¾ [آل عمران: 154]، وبقوله: ï´؟ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ï´¾[النساء: 78]، فهذا الذي يجب أن يكون عليه معتقدُ كُلِّ المسلمين، وهذا ما أَدِينُ اللهَ - تعالى - به.


سادسًا: النتائج والتوصيات:
♦ أما النتائج، فهي كما يلي:
1 - الإسلام أبطل معتقَدًا كان سائدًا في الجاهلية، وهو أنَّ العدْوى تنتقل بطبْعها، وليست بمشيئة الله - تعالى -[70] وكانوا يَنسبون الفعل لغير الله - تعالى[71].

وحكمته أنَّهم كانوا وثَنيِّين مشْركين، مع توجيه الحافظ ابن حجر وكلامه عن نفْي الإسلام لكلٍّ من العدوى، والطِّيَرة، والهامة، وصفَر، والغُول، والنَّوْء، وأبطل الشارع الحكيم اعتقادًا باطلاً عن الطبائعيين، كما ذَكر ذلك الإمام المُناوِي[72]، حيث قال: "لا عدوى؛ أيْ: لا سراية لعلَّة من صاحبها لغيره، يَعني أنَّ ما يعتقده الطبائعيون من أنَّ العلل المعْدية مؤثِّرة لا مَحالةَ باطل، بل هو متعلِّق بالمشيئة الربَّانية، والنهْي عن موافاة المجذوم من قَبِيل اتِّقاء الجدار المائل، والسَّفينة المَعِيبة".
فبيَّن أنه ليس المقصود نفْي أصل الشيء؛ وإنما رواسب الجاهلية.

2 - العدوى لا تنتقل إلا بأمر الله - تعالى - ومشيئته، ووفقًا لحكمته - سبحانه وتعالى - ويوضِّحه حديث: ((فمَن أعدى الأول؟))، وحديث أكْلِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع المجذوم، وكذا مع صحْبه الكرام - رضي الله عنهم أجمعين.

3 - الأَولى بالمسْلم ألاَّ يتعرَّض إلى ما يَحتاج فيه إلى مجاهدة، كما قال الإمام أبو العَّباس القرطبي في "المفْهِم" والخطَّابي وابن قُتيبة وابن الأثير.

4 - التحقيق والصحيح من أقوال أهل العلم - كالإمام النووي، وابن تيميَّة، والإمام الذَّهبي، والإمام ابن مُفلح، والإمام ابن القيِّم، والإمام ابن حجر، والإمام المُناوي - في أحاديث العدوى، أمران:
الأوَّل منهما: أنَّ انتقال المرض لا يكون حقيقة إلاَّ بتقدير الله - تعالى - وإنما جاءت الأحاديث بالأمْر باجتناب أهل الوباء الفتَّاك؛ لِحَسْم مادة الشِّرك.

الثاني: من الأئمَّة مَن حمَل الأمر باجتناب المجذوم على الاستحباب، وإليه ذهب الإمام أحمد كما في "الآداب الشرعية" للإمام ابن مُفلح[73]، والإمام النووي والذهبي والإمام ابن مُفلح، وغيرهم من الأئمة، ومنهم من جعل اجتناب المجذوم وما شابَهه لمن ضعف يقينُه، وهو الغالب، وأنَّ مخالطة المجذوم وما شابهه لِمَن قوي يقينه وثقته بالله - تعالى - وتوكُّله عليه.

5 - فَعَلَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأمرين: اجتناب المجذوم صاحب العدوى الفتَّاكة، ومؤاكلته ومسه؛ لِيَقتدي به المؤمنون في الحالتين لمن قوي يقينه ومَن ضعف، فقد فعل النبي - صلى الله عليه وسلَّم - الأمرين؛ مراعاةً لأحوال الناس.

فمن قوي يقينه بالله - تعالى - وتوكُّلُه وثقته به، فلْيخالط المجذوم وغيره من أهل الأوبئة الفتَّاكة - عافانا الله تعالى وسائر الموحِّدين - ومن لم يَصِل إلى هذه الدرجة فلْيفعل الأمر الآخَر الجائز، وهو اجتناب أصحاب تلك الأوبئة؛ ولذلك قال الإمام ابن القيِّم: "فإذا أراد أهل الدار أن يؤاكلوا المجذومين ويشاربوهم ويضاجعوهم فلهم ذلك، وإن أرادوا مجانبتهم ومباعدتهم فلهم ذلك"[74].

وقد قال الإمام الذهبي[75]: "الفرار من المجذوم وترك مؤاكلته، جائز، لكن لِيَكُن ذلك بحيث لا يكاد يشعر المجذوم؛ فإنَّ ذلك يحزنه، ومن واكله ثقةً بالله وتوكُّلاً عليه فهو مؤْمن[76]"؛ انتهى ويَقصد الإمام الذهبي كمال الإيمان، وإلاَّ فكلٌّ منهما مؤمن، وكلٌّ فعَلَه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.

6 - الرسول - صلى الله عليه وسلَّم - قال في نفس الحديث: ((لا عدوى))، ((وفِرَّ من المجذوم))، فماذا يَعني هذا للطَّرَفين؟ حيث إنَّنا نجد أحَدَ الطرفين يستدل بأوَّل الحديث، والآخَر بآخره، والصواب الاستدلال به بطرفيه، وهذا ما قاله علماء الأمة.

7 - أمْر النبي - صلى الله عليه وسلَّم - بالفرار من المجذوم ونَهْيه عن ترك الأرض التي بها الطاعون؛ لأنَّ الأمر يختلف؛ فإنَّ للجذام رائحةً ومنظرًا مؤذِيَين[77] بينما الطاعون ليس كذلك، وهناك حِكَم عظيمة بيَّنها الإمام ابن القيِّم[78].

8 - ينبغي على المسلم أن يراعي شعور أخيه المسلم المبْتلَى.

9 - الاعتماد على الأسباب وحْدَها شِرْك، وإنكارها كلِّية قدْح في الحِكْمة، والإعراض عنها نقْصٌ في العقل، كما قرَّر ذلك الإمامُ ابن القيِّم في "مدراج السالكين" بعد ذِكْره لصنفين من الناس غلوا في الأسباب: الأول بالَغَ في نفيها وإنكارها، والآخر ربَط العالَم العلوي والسفلي بها بدون ارتباطها بمشيئة فاعل مختار ومدبِّر لها يصرِّفها كيف أراد.

ثم مدح الصنفَ الثالث الإمامُ ابن القيِّم بقوله[79]: "ومنهم مَن أثبَتَها خلْقًا وأمرًا، قدَرًا وشرعًا، وأنزلها بالمحلِّ الذي أنزلها الله به؛ من كونها تحت تدبيره ومشيئته، وهي طوْع المشيئة والإرادة، ومحلُّ جريان حُكْمها عليها، فيقوِّي - سبحانه - بعضَها ببعض، ويُبْطِل - إن شاء - بعضها ببعض، ويسْلب بعضها قوَّته وسببيَّته، ويعريها منها، ويمنعه من مُوجبِها[80] مع بقائها عليه؛ ليعلم خلْقه أنَّه الفعَّال لما يريد.

ثم قال[81]: "فالالتفات إليها بالكلِّية شرْكٌ منافٍ للتوحيد، وإنكارُ أن تكون أسبابًا بالكلية قدْح في الشَّرْع والحكْمة، والإعراض عنها مع العلم بكونها أسبابًا نقصانٌ في العقل".

وقال[82]: "والتوكُّل معنىً يلْتئم من معنى التوحيد، والعقل، والشرع".

وقد قرَّر ذلك شيخُ الإسلام ابن تيميَّة[83] بقوله: "لكن يقع فيها [العبادة و...] سَرَفٌ وعدوان بإدخال ما ليس منها فيها، مثل أن يُدخِل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل".

10 - ينبغي التحرُّزُ عن الأمور التي يُتوقَّعُ بسببها الضرر، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "فالحاصل أنَّ الأمور التي يُتوقَّع منها الضرر وقد أباحت الحكمة الربَّانية الحذر منها، فلا ينبغي للضعفاء أن يَقْربوها، وأما أصحاب الصِّدْق واليقين، فهم في ذلك بالخيار"[84].


فالناس طرَفان ووسط؛ ما بين إفْراط وتفريط، والعدْل هو الوسَط، وهو الجمع بين الأخذ بالأسباب والتوكُّل على الله - تعالى - والثقة به، وإلاَّ لوَجَب إيقاف عمارة الكون ومنظومة الحياة من الوهم الذي سوف يَحدث بين الأفراد، وإلا لسُرِّح الجيش، وأُوقِفَ التعليم والتصنيع والتجارة، والسفر والعمل، والعلاقات الدبلوماسية و... وهذا لا يقول به عاقل.


يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.03 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.40 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.49%)]