عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 31-03-2020, 04:18 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الزرياب الإبريز في وفاء النبي العزيز

الزرياب الإبريز في وفاء النبي العزيز

الشيخ علي عبدالخالق القرني


والحال:




فَلا تَخْشَوُا الإِعْلالَ مَا كُلُّ مَصْدَرٍ يُعَلُّ وَمَا الأَفْعَالُ إِلاَّ لِفَاعِلِ


وهاجر إليْهِم فاستقْبلوه وصحبَه أيَّما استقبال، لوِ استطاعتْ لطارت في لقائِهم الأرض والأهل والأبناء والدارُ، فلمَّا فتح الله له مكَّة أشْفقوا أن يُقيم بها ويتْركهم، فقالوا: أدركتْ رسولَ الله رغبةٌ في قريتِه ورأفةٌ بعشيرته، فطمأَنَهم وقال: ((كلاَّ إنِّي عبدُ الله ورسوله، المحْيا محْياكم والمماتُ مَماتُكم))، فضجُّوا يبكون ودمعُهم هطلٌ في الخدّ كالديمِ يقولون: والله، ما قُلنا الَّذي قُلنا إلا ضنًّا وشحًّا بك أن تُفارقنا، فصدَّقهم وعذرهم؛ فهو الَّذي يرعى الوداد لِمن رعى يَفديه بالرُّوح وبالمال معًا.



حالهم:


شَرَّفْتَ أَرْضًا طَالَمَا اشْتَاقَتْ لَكُمْ وَوَصَلْتَ قَلْبًا طَالَمَا حَنَّ إِلَيْكْ


ثمَّ أوصى بهم - صلى الله عليْه وسلَّم - في مرض موتِه؛ كما ثبت في الصَّحيح أنَّ أبا بكرٍ والعبَّاس - رضِي الله عنْهما - مرَّا بمجلسٍ من مَجالس الأنصار وهم يبْكون، فقالا: ما يُبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلِس رسولِ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - منَّا.


لَوْ مَلَكْنَا فِدَاءَهُ لَبَذَلْنَا مَا مَلَكْنَا مِنْ طَارِفٍ وَتَلِيدِ
فِدَاهُ كُلُّ مَا حَمَلَتْهُ أُمٌّ وَمَنْ لَبِسَ العِمَامَةَ وَالرِّدَاءَ



فدخلوا على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبروه بذلك فخرَج وقد عصبَ على رأْسِه حاشية برد، فصَعِدَ المنبر ولم يصعدْه بعد ذلك، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أُوصيكم بالأنصار فإنَّهم كَرِشي وعيْبتي – يعني: بطانتي وخاصَّتي - وقد قضوُا الَّذي عليْهِم وبقِي الَّذي لهم، فاقبلوا من مُحْسِنهم وتَجاوزوا عن مسيئِهم)).


كَلِمَاتُهُ بَيْنَ الجَوَانِحِ طَعْمُهَا كَالزَّنْجَبِيلِ بِعَذْبِ مَاءٍ سَلْسَلِ


ثمَّ واعدَهم الحوْض: ((أما إنَّكم ستلقَون بعدي أثرةً، فاصبِروا حتَّى تلْقَوني على الحوْض)).


فَالنَّاسُ يُوعَدُونَ بِالحُطَامِ وَهُمْ بِحَوْضِ سَيِّدِ الأَنَامِ
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي



كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أبرَّ وأوفى النَّاس.


كَأَنَّ أَخْلاقَهُ فِي أُذْنِ سَامِعِهَا مَسَاقِطُ الشَّهْدِ مِنْ أَعْوَادِ مُشْتَارِي
شَدَوْتُ فِيهَا إِلَى أَنْ كِدْتُ مِنْ طَرَبٍ أَظُنُّنِي ذَا جَنَاحٍ بَيْنَ أَطْيَارِي



وفَى لصهره أبي العاص زوْج ابنتِه زينب، وهو أبو أمامة التي كان يَحملها في صلاته؛ حيثُ أطلقه بلا فداءٍ بعد بدْر لما عرف له من كفِّ يدِه ولسانه، فما سُمِعَ له صوتٌ في بدر، وما شُوهد له جولة، وما علم له موقف قطّ في مقاومة الدَّعوة.


قَدْ سَمَا عَنْ كُلِّ أَخْلاقٍ تُشَانْ تَاقَ لِلقُرْآنِ يُتْلَى وَالأَذَانْ


بعثتْ زينب في فدائه بقلادة قلَّدتها بها أمُّها خديجة يوم زفَافِها، فلمَّا رآها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رقَّ لها رِقَّةً شديدة، وفي مظهرٍ من مظاهر الرَّحْمة بابنتِه وتذكّر لصاحبة القلادة يَحمل في طيِّه مقصدًا دعويًّا، وهو تألّف أبي العاص على الإسلام، قال: ((إنْ رأيتُم أن تُطْلقوا لها أسيرَها وتردُّوا عليْها الَّذي لها)) فقالوا: نعم ونعمةُ عين.


وَرَاضُوا عَلَى حُبِّ الحَبِيبِ نُفُوسَهُمْ فَكَانَ لِوَجْهِ اللَّهِ ذَاكَ التَّقَرُّبُ


فأخذ عليه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُخلي سبيل زينب إليْه ووفى بوعده، وأثْنى عليْه النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((حدَّثني فصدقني ووعدَني فوفى لي))، كان يتاجرُ بأموال قريش فاعترضته رجال أبي بصير في هدنة الحديْبية، فأخذوا ماله وفرَّ إلى المدينة، واستجار بزيْنب فأجارتْه وقالتْ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنَّه يطلب مالَه، فأرسل النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى أصحابِه رسالة قال فيها: ((إنَّ هذا الرَّجُلَ منَّا حيث قد علِمْتم، وقد أصبتُم له مالاً فإنْ تُحْسِنوا وتردُّوا عليه الَّذي له فإنَّا نحبُّ ذلك، وإن أبيتُم فهو فيءُ الله أفاءَه عليْكم وأنتم أحقّ به))، فقالوا في تجرُّدٍ لله: بل نردُّه عليه، وردّوا عليه مالَه لا يفقِد منه شيئًا.



ولا عجب، فمَن تحمَّل القيود لله فالدّنيا أهْون فائتٍ لديه، فلا يستوي من همُّه الله وحده ومَن همُّه الأعلى لجمْع الدراهم.



رجَع لأهل مكَّة وردَّ أموالهم، وقال: هل بقي لأحدٍ منكم عندي مالٌ لم يأخذه؟ قالوا: لا، ولقد وجدناك وفيًّا كريمًا، قال: فإنِّي أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله، وأنَّ محمَّدًا رسولُ الله، والله ما منعني من الإسلام عندَه إلاَّ أن تقولوا إنَّما أردت أن آكُلَ أموالكُم.


فَارْتَقَى مِنْ دَرَجِ العَلْيَاءِ مَرْقًى عَلَّمَ الجَوْزَاءَ مَا مَعْنَى العَلاءِ


ثم خرج فقدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - والحال:


إِلَيْكَ إِلَيْكَ نَبِيَّ الهُدَى رَكِبْتُ الجِمَالَ وَجُزْتُ القِفَارَ
وَلَوْ كُنْتُ لا أَسْتَطِيعُ السَّبِيلَ لَطِرْتُ وَلَوْ لَمْ أُصَادِفْ مَطَارَا



فردَّ عليْه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - زينبَ زوجَه.



والصُّبح أسفر بعد ليلٍ داجٍ، فجلا لهم ظُلَمَ الليالي بغتة من غير مشكاة ولا مسراج.



كان - صلى الله عليه وسلم - أوْفى الناس.


هُوَ رَحْمَةٌ عَمَّتْ جَمِيعَ الأَرْضِ مِنْ عِنْدِ الكَرِيمِ المُنْعِمِ المُتَفَضِّلِ
هُوَ خَيْرُ مَنْ لَبِسَ النِّعَالَ وَمَنْ مَشَى فَوْقَ الثَّرَى خَيْرُ وَفِيٍّ مُرْسَلِ



وفى لعمِّه أبي طالب الذي ربَّاه حتَّى بلغ أشدَّه وأعانه على إبلاغ رسالة ربِّه، ومنعه من سُفهاء قومه، فلم يخلصوا إليْه بسوء في حياتِه، لمَّا حضرتْه الوفاة اهتزَّت مشاعر الوفاء في قلْب النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فحرصَ كلَّ الحرصِ على نفعِه في إنقاذه، وجعل يناشده: ((أيْ عمّ، قُلْ: لا إله إلاَّ الله، أُحاجُّ لك بها عند الله))، وكاد يستجيب لولا أن حالَ بيْنه وبيْنها قُرناء السُّوء الَّذين ما زالوا به حتَّى فارق الحياة على ملَّتهم، فوجد عليْه النَّبيُّ - صلَّى الله عيه وسلَّم - وجدًا شديدًا لما يعلم من مصيرِه، وهمَّ بسؤال الله المغفِرة له: ((لأستغفرنَّ لك ما لَم أُنهَ عنْكَ))، فنهاه اللهُ، فلَم يزِد - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن قال بقول الله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} [القصص: 56].



ويشفع له في تَخفيف العذاب عنْه، فحين قال العبَّاس - رضِي الله عنه -: ما أغنيتَ عن عمِّك؛ فقد كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: ((هو في ضحْضاحٍ من نارٍ، ولولا أنا لكان في الدرْك الأسفل من النَّار)).


رَاسِخٌ فِي الوَفَاءِ مَا قَامَ رَضْوَى وَأَبَانٌ وَيَذْبُلٌ وَثَبِيرُ


وفَى لرحِمِه الباقين على كُفْرِهم ولَم يتولَّهم، فقال: ((آل أبي ليْسوا أوليائي إنَّما ولييَّ الله وصالحُ المؤمنين؛ لكنَّ لهم رحمًا أبُلّها ببلالها)).


كَالدَّوْحِ يُعْطَى المَاءَ أَعْرَاقُهُ وَهَامُهُ يَسْتَحْلِبُ الفَرْقَدَ


فعليْه الله صلى، وعليْه الله سلَّم.



كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوفى النَّاس، خيرَ الورَى وأجلَّ من وطِئ الثَّرى، وأبرَّ مبعوثٍ بِه يُسْتَرْشَد.



وفَى لأقاربِه من الرَّضاعة وفاءَ كمالٍ وعظمة، ففي يوم حنين سبى المسلِمون النساء والذراري والأموال من هوازِن وثقيف، ومنهم بعض من تنتسِب إليْهم مرضعتُه حليمة السعديَّة، وجاء وفد هوازن متأخِّرًا وقد تملَّك الصَّحابة الغنيمة، فقالوا: يا رسولَ الله، إنَّما في الحظائِر عمَّاتك وخالتُك وحواضنُك، فلوْ أنَّنا أرضعْنا للحارث أو النعْمان لرجونا عطفَهم وعائدَتَهم، وأنت خير المكفولين.



فقام - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولسانُ حالِه: يأتي الفرج فلا يكُن في صدوركم حرج.



وفي حسن سياسة وقدوة وبذْلٍ وتضْحية بما لديْه ولدى أقربيه، قال على رؤوس أصحابِه ليقْتدوا قال: ((إنَّ إخوانَكم جاؤوا تائِبين، وقد رأيتُ أن أردَّ إليْهم سبيَهم، مَن أحبَّ أن يطيب لِذلك فليفعل، أمَّا ما كان لي ولبني عبد المطَّلب فهو لكم أيُّها الوفد))، قال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت الأنصارُ: وما كان لنا فهو لرسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ثم وعد - صلَّى الله عليه وسلمَّ - مَن تمسَّك بحقّه أن يكون على حقِّه حتَّى يعطيَه إيَّاه من أوَّل فيء يفيء الله به عليهم.



لقد كان أرْحم بهم من قادتِهم الذين خاطروا بهم، وأرحمَ بهم من أنفُسهم وهو ينتظرهم بضْع عشرة ليلة لم يقسمهم، ثُمَّ أعتقهم عن بكرة أبيهم برضعاتٍ كانت بينه وبين بعضِهم.


مَا كُلُّ مَنْ سَاسَ الأُمُورَ بِسَائِسٍ كَلاَّ وَلا كُلُّ السَّحَابِ عِذَابُ
فَمِنَ السَّحَائِبِ رَحْمَةٌ مَنْثُورَةٌ وَمِنَ السَّحَائِبِ مَا يَكُونُ عِذَابُ



وجيء في السبايا بأخته الشيماء، فعرفت بنفسها محمَّدًا وذكرته يوم أن عضَّ اليدَ، فوسع النَّبيُّ في العطاء لأخته السعديَّة الشَّيماء، هشَّ وبسط رداءَه لها وقام يسأل عن حالها، ثمَّ خيَّرها بين أن تُقيم عنده مكرمة محبَّبة وذاك أحب له، أو ترجع لقومِها ويمتعها، فاختارت قومها، فمتعها بأجزل العطاء من جوارٍ ونعمٍ وشاء، فهو أحقّ النَّاس بالوفاء.


لاَ فِي مَنَائِحِهِ فِي نُزْهَةٍ عَجَبٌ كَأَنَّمَا فِي رِيَاضِ الجَنَّةِ اللاَّقِي


ولم يزل يسأل عن مرضعتِه ثويْبة مولاة أبي لهب، ويتفقَّد حالَها قبل الهجرة وبعدَها، كان يبْعث لها بالصِّلة والكسوة حتَّى جاءه موتُها، فظلَّ يسألُ عمَّن بقِي من قرابتِها ويصلُه، حتَّى لم يجد منهم أحدًا.


وَفَاءٌ ازْدَانَتْ بِهِ النَّوَادِي وَذَاعَ فِي الحُضْرِ وَفِي البَوَادِي
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي



كان - صلى الله عليْه وسلَّم - أوفى الناس.


تَاللَّهِ مَا حَمَلَتْ أُنْثَى وَلا وَضَعَتْ مِثْلَ النَّبِيِّ الوَفِيِّ الرَّحْمَةِ الهَادِي
وَلا بَرَى اللَّهُ خَلْقًا مِنْ بَرِيَّتِهِ أَوْفَى بِحَقٍّ لأَهْلٍ أَوْ بِمِيعَادِي



وفى لأهلِه، وجعل الميزان الذي تُقاس به خيريَّة المرْء حسن معاشرة أهلِه: ((خيرُكم خيرُكمْ لأهْلِه وأنا خيرُكم لأهلي)).


شَرَابٌ إِنْ أَتَوْهُ بِلا شَرَابٍ وَزَادٌ إِنْ أَتَوْهُ بِغَيْرِ زَادِ


لمَّا أنزل الله آية التَّخيير بدأ بعائشة، وطلب منها ألا تعجل حتَّى تستأمر أبويْها؛ فقد لا تُدرك مَن في مثْل سنِّها ما هو خيرٌ لها، فقال: ((لا عليكِ ألا تعْجلي حتَّى تستأْمِري أبويك))، فقالتِ الصديقة الواعية المدْركة العالمة: أفيك أستَأْمر أبويَّ، بل أخْتار اللهَ ورسولَه والدَّار الآخِرة، ثمَّ سألَتِ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألاَّ يُخبر امرأةً من نسائِه بالَّذي قالت، فأبَى - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وقال: ((لا تسألُني امرأة منهنَّ إلاَّ أخبرتُها؛ إنَّ الله لم يبعثْني مُعنِّفًا)).


وَالوَرْدُ لَيْسَ يَفُوحُ طَيِّبُ رِيحِهِ إِلاَّ إِذَا انْفَصَمَتْ عُرَى أَكْمَامِهِ


هذه أمّ المؤمنين خديجة - رضِي الله عنْها - يتزوَّجها وهي في الأرْبعين من عمرها.


وَإِنْ تَكُنْ فِي سِنِّهَا كَبِيرَهْ فَإِنَّهَا فِي حُسْنِهَا شَهِيرَهْ
وَقَدْ قَضَتْ فِيمَا قَضَتْ عِشْرِينَا وَبَعْدَهَا سَبْعًا مِنَ السِّنِينَا
بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا وَالجَاهِ رَاضِيَةً تَفْدِي رَسُولَ اللَّهِ



لها منقبةٌ لم تعرفْ لامرأةٍ سواها؛ إذ أرسل الله إليْها السلامَ مع جبريل، وبشَّرها ببيت في الجنَّة من قصب لا صخبَ فيه ولا نصب.


تَبْلَى اللَّيَالِي وَلا تَبْلَى نَضَارَتُهَا صَفَاءُ بُشْرَى بِمَعْنًى خَالِدٍ أَبَدِي


أحبَّها حبًّا جمًّا وعاش معها ريعان شبابِه، ولم يتزوَّج عليْها إلى أن توفَّاها الله وهي في العقْد السَّابع من عمرها، فحزِنَ عليها حُزنًا شديدًا، وكان في إحسانِها يشكرها، وظلَّ بعد موتِها يذكرها، ماتت لكنَّ حبَّها لم يَمتْ في قلبِه، صلَّى الله عليه وسلَّم.



فقد بقي يُدِيمُ ذكْرَها حتَّى في آخر لحظة من حياتِه، وهو يفخر بذلك ويُجاهر ويقول: ((إنِّي رُزِقْتُ حبَّها))، و ((خديجة خيرُ نسائها)) حتَّى غارت عائشةُ - رضِي الله عنْها - منها ولَم ترَها، فقالتْ: كأن لم تكُن امرأة إلاَّ خديجة! فقال: ((إنَّها كانتْ وكانت، وكان لي منها ولد)).



يذبح الشَّاة ويقطعها أعضاءً ويبعثها إلى صدائق خديجة، حاله:


كَوَّنْتُ فِي قَلْبِي لَهَا مَنْزِلاً بِالسَّمْعِ أَرْعَى وُدَّهُ وَالنَّظَرِ


تقول عائشةُ - رضِي الله عنها -: ما غِرتُ على امرأةٍ ما غرتُ على خديجة، ولقد هلكتْ قبل أن يتزوَّجني بثلاثِ سنين؛ بما كنت أسمع يذكُرها.


وَفَاءٌ جَلَّ عَنْ مِثْلٍ وَعَنْهُ ضَاقَتِ الصُّحُفُ


استأذنت هالة أختُ خديجة عليه - صلى الله عليْه وسلَّم - فذكر استِئْذان خديجة وهشَّ وارتاح لصوتٍ ذكَّره بخديجة، فقال: ((اللهمَّ هالة بنت خويلد!)) قالت عائشة: فغرتُ وقلتُ: وما تذكُر من عجوزٍ من عجائِز قُرَيْش حمراء الشدقين – يعني: لا أسنانَ لها من الكبَر - هلكتْ في الدَّهر، أبدلك الله بخيرٍ منها؟! قالتْ: فتمعَّر وجهه تمعُّرًا ما كنت أراهُ إلاَّ عند نزول الوحي أو عند المخيلة عند السحاب، ثم قال: ((ما أبدلني الله خيرًا منها؛ آمنتْ بي إذْ كفر النَّاس، وصدَّقتْني إذ كذَّبني النَّاس، وواستْني بمالها إذ حرَمَني النَّاس، ورزقَني الله ولدَها إذ حرمني أوْلاد غيرها))، قالت - رضِي الله عنها -: والَّذي بعثك بالحقِّ، لا أذكرها بعد هذا إلاَّ بخير.



وتأتيه يومًا عجوزٌ فيُحْسِن لقاءها ويكرم مثْواها، ويسأل عن حالِها: ((كيف أنتم؟ كيْف كنتُم بعدنا؟)) قالت: بخيرٍ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فلمَّا خرجتْ، قالت عائشةُ - رضِي الله عنْها -: أقبلتَ على هذه العجوز هذا الإقبال! قال: ((إنَّها كانت تأتينا زمن خديجة، وإنَّ حُسن العهدِ من الإيمان)).


وَفِيُّ العَهْدِ ذُو كَرَمٍ وَصِدْقٍ شَمَائِلُهُ السَّمَاحَةُ وَالوَفَاءُ


ووفى لحاضنتِه أمّ أيمن - رضِي الله عنها - وقال فيها: ((أمّ أيمن أمّي بعد أمّي)).


يَا مَنْ يَرُومُ لَهُ نَظِيرًا فِي الوَرَى قَدْ رُمْتَ كَالعَنْقَاءِ مَا لَمْ يُوجَدِ


فعليْه الله صلى، وعليْه الله سلَّم.



معشر الإخوة:

ما أحوجَنا اليوم إلى تلقِّي هذه الدروس العظيمة في الحفاظ على الودِّ وحسن العهد والعيش في ظلال: {وَلا تَنْسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].


مَنْ حَادَ عَنْ خُلُقِ النَّبِيِّ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ الغُرِّ لَيْسَ بِسَالِمِ



كان رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - زخَّارًا من وفاء.



أَنَّى التَفَتَّ رَأَيْتَ مَاءً سَلْسَلاً وَسَنَابِلاً خُضْرًا وَغُصْنًا بُرْعُمَا


لكلِّ نبي دعوةٌ مستجابة فادَّخر - صلى الله عليه وسلَّم - دعوتَه شفاعةً لأُمَّته يوم القيامة، فهي نائلة مَن مات لا يشرك بالله شيئًا، واستزاد ربَّه في عدد مَن يدخل الجنَّة من أمَّته بغيْر حساب، فقال: ((أُعطيتُ سبعين ألفًا من أمَّتي يدخلون الجنَّة بلا حساب))، نسأل الله من فضله ((فاستزدتُ ربِّي فزادني مع كلِّ واحدٍ سبعين ألفًا)).



وأشفق على أمَّته من العذاب وبكى حتَّى قال الله: ((إنَّا سنُرضيك في أُمَّتك ولا نسوءُك))، جزاه الله عنَّا خير ما جزى نبيًّا عن أمَّتِه.



يا رَبِّ فاجْمَعْنا مَعه وصحابته في جنَّة تَثني عيونَ الحُسَّدِ.



كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوْفى الناس:


لا يُدْرِكُ السَّاعُونَ غَايَةَ مَجْدِهِ مَنْ يَسْتَطِيعُ إِلَى السَّمَاءِ تَسَلُّقَا


من وفائه أن رجَّح حقَّ الوالدين على الهجرة إليْه والجهاد في سبيل الله؛ أتاه رجلٌ فقال: إني جئتُ أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله؛ فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((فهلْ من والديْك أحدٌ حيّ؟)) قال: نَعَمْ، كلاهما، قال: ((تبتغي الأجر من الله؟)) قال: نعم، فبيَّن أنَّ الأجر الذي يطلبه ليس وقفًا على الجهاد وليس قصرًا على الهِجْرة، فهناك عملٌ آخَر فيه الأجرُ الَّذي يطلبه والثَّواب الذي يبتغيه، قال له: ارجِعْ إلى والديْك وأحسِنْ صحبتَهما: ((لن يجزي ولدٌ والده إلاَّ أن يجده مملوكًا فيشتريه ويُعتقه)).



وأبَرُّ البرِّ - أيها الشَّابُّ - أن يراك والِداك في طريق الأخيار ومع الأخيار؛ فاسلك طريق القومِ حيث تيمَّموا ومعها لن تجِد أبرَّ ولا أحنى ولا أعْطفَ ولا أنصحَ لك من والديْك، فاغنَمْ أوْسَط أبْوابِ الجنَّة قبل أن يوصَد وبعد أن يغلق، وقُل ربِّ ارحمْهما كما ربَّياني صغيرًا.


لَيْسَتْ مُصِيبَاتُ الزَّمَانِ نَظَائِرًا جُلُّ المَصَائِبِ دُونَ فَقْدِ الوَالِدِ


كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوْفى النَّاس.


فَعَلَ الَّذِي فَعَلَ الكِرَامُ بِأَسْرِهِمْ ثُمَّ انْثَنَى فَأَتَاهُمُ بِبَدَائِعِ
فَإِلَيْهِ أَيْدِيهِمْ إِذَا مَا قِيلَ مَنْ خَيْرُ الكِرَامِ مُشِيرَةٌ بِأَصَابِعِ



يحضُّ على الوفاءِ وحسن الرعاية للعهد حتَّى مع الحيوان البهيم والجماد.


يَجْرِي عَلَى سَنَنِ المَكَارِمِ فِعْلُهُ خُلُقًا إِذَا كَانَ الفِعَالُ تَخَلَّقَا


أسر العدوُّ امرأةً مسلِمة، وكانوا أصابوا من قبل ناقةً لرسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فرأت من القوم غفلةً فركِبت ناقةَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتَّى أتتْه فقالت: يا رسول الله، إنِّي نذرتُ لله أن أنحرها إن نجَّاني الله بها، فعجِب النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من هذه المكافأة لِمن كانت سببًا في نجاتِها، وتبسَّم وقال: ((بِئْس ما جازيْتِها أن حَمَلك الله عليْها ونجَّاكِ بها، ثم تنحرينها! إنَّه لا نذر في معصِية الله ولا فيما لا تملكين)).


مَا كُلُّ مُطَّلَبٍ يُحَاوَلُ نَيْلُهُ يُحْوَى وَلا كُلُّ المَنَازِلِ تُرْتَقَى


كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوْفى النَّاس.



صِفُوهُ بِمَا شِئْتُمْ فَوَاللَّهِ مَا انْطَوَى عَلَى مِثْلِهِ فِي النَّاسِ أُمٌّ وَلا أَبُ

هذا جذعٌ لا يعقِل كان يخطُبُ عليْه، وفي يوْم الجمعة صعِدَ منبرًا صُنِع له وترك ذلك الجذع، فصاح الجذع صياح الصبيِّ حنينًا إلى الذِّكْر وحزنًا على رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وفي لمسة وفاءٍ ينزل ويضمُّه إليه، ويلتزِمه حتَّى سكن، ثمَّ قال: ((والَّذي نفسُ محمدٍ بيده، لو لم ألتزمْه لما زال يحنُّ إلي يوم القيامة)).

يَحِنُّ جِذْعُ النَّخْلِ لَمَّا فَارَقَهْ لِمِنْبَرٍ إِلَيْهِ حَتَّى اعْتَنَقَهْ



ونَحْنُ أولى أن نحنَّ له، جعلَنا الله مِن أهل سنَّته، جمعَنا الله به في جنَّته.

إنَّ وفاءَه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - سما لحجارة صمَّاء، حازت منه أعلى عبارات الحبّ والوفاء، لما طلع له أحد في عودتِه قال: ((هذا أحدٌ جبلٌ يحبنا ونحبه)).

كأن القول من فِيهِ لنا درٌ وياقوتُ، فعليه الله صلَّى وعليه الله سلَّم.

كان - صلى الله عليْه وسلَّم - أوفى النَّاس.

خَيْرُ القَرِيضِ وَلَوْ يَكُونُ مُهَلْهَلاً مَا فِي شَمَائِلِهِ يُصَاغُ وَيَكْتُبُ



إن وعدَ وفى وإن كان الوعود ذا جفا.

صحَّ أنَّ أعرابيًّا جاءهُ في مرجعه من حنين يطلبُ نصيبَه من الغنيمة، ويقول: ألا تنجِز لي ما وعدتَني؟ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أبْشِر))، قال: أكثرتَ عليَّ من "أبْشِر"، ومع ردِّه البشرى أنجزَ له ما وعد ووفى.

كَالشَّمْسِ لا تَحْتَاجُ بُرْهَانًا وَلا يَحْتَاجُ مُبْصِرُهَا إِلَى اسْتِيضَاحِ
ضَارٍ إِذَا مَا رُمْتَهُ فِي دِينِهِ أَوْ رُمْتَ نَقْضَ العَهْدِ وَالمِيثَاقِ




له الصلاة والسَّلام تترى، ما شرى برقٌ على طَيْبة أو أم القُرى.

وبعد إخوتي:

كُلُّ المَوَارِدِ بَعْدَ زَمْزَمَ حُلْوُهَا بِفَمٍ يُمَجُّ وَكُلُ عَذْبٍ يَمْلُحُ



ماذا عساي أن أزيد في وصف وفائِه من بعد قول الله في كتابه: {وَإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

لكنَّها إشارة.

وَرُبَّ إِشَارَةٍ عُدَّتْ كَلامًا وَلَفْظٍ لا يُعَدُّ مِنَ الكَلامِ



شيمٌ تغص بها العِداة وتشرق، كادت بنا فوق المجرَّة تعلقُ، فأنالها الرِّقَّ الذي لا يُعتقُ، فانشقْ بها ريح الخَزام لعلَّنا من عَرف ذيَّاك الوفا نتنشَّقُ.

فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ ظَهْرِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ
وَمَا فِي بِقَاعِ الأَرْضِ حَيًّا وَمَيِّتًا وَمَا بَيْنَ أَرْضٍ وَالسَّمَا كَمُحَمَّدِ
صلَّى عليْه بارئ العبادِ ما أمطرت سُحبٌ وسال واد




بهذا الخُلقِ سجل أتباعُ محمَّدٍ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - صفحاتٍ مضيئات أحسنَ من الدّرِّ والعقيان في نحور الحسان، وأزْكى من حركات الرّيح بين الورد والريحان، من نورها الوضَّاء كلٌّ قابس من بحرها الجيَّاشِ كلٌّ يستقي.

أبو بكرٍ - رضي الله عنه وأرْضاه - أخو همَّةٍ أوجبتْ رفعه على الفاعليَّة والابتداء لمَّا ولي الخلافة وفى لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلَّم - بعد مماته كحياتِه؛ فأنفذ جيشَ أسامة على شدَّة حاجتِه له، وقال مقالته: "لا أترُك أمرًا رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - يصنعُه إلاَّ صنعتُه".

فَصَاغَهَا قِيَمًا شَمَّاءَ عَالِيَةً أَعْلامُهَا مِنْ ذُرَى صَنْعَا إِلَى حَلَبِ



فقام يفي بالوعود التي وعدها رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - وحال الموت بينه وبين الوفاء بها قائلاً: مَن كان له عِدة عند رسول الله أو دَيْنٌ فليأتِنا، فما أتاه صاحب وعْدٍ أو دَين وعده به الرسولُ إلاَّ وفى له.
وفَاءٌ له نبراتٌ تهز نياط القلوب وأوتارها.

وفى لدين الله فقاتل المرتدِّين، وثبَّت الله به الدّين، وقال مقالةً خالِدة تُكتب على الحناجر ولو بالخناجر: "لأقاتلنَّهم حتَّى تنفرد سالِفتي، ولو خالفتْني يَميني لجاهدتُها بشمالي وأخرى".

وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي حَبْلَ رَاغِيَةٍ قَاتَلْتُهُمْ لَيْسَ إِلاَّ ذَاكَ إِقْرَارُ
فَلَيْتَ شِعْرِيَ لَوْ رَاءٍ لِحَاضِرِنَا وَالمُسْلِمُونَ حَيَارَى أَيْنَمَا دَارُوا
فِي رِدَّةٍ لا أَبُو بَكْرٍ يُصَاوِلُهَا وَلا يُقَاوِمُهَا عَمْرٌو وَعَمَّارُ
فِي رِدَّةٍ مِنْ ثِيَابِ العَصْرِ لابِسَةٍ تَحَرُّرٌ قِيلَ عَنْهَا وَهْيَ آصَارُ
تُقَلِّدَ الغَرْبَ إِلْحَادًا وَزَنْدَقَةً وَمِنْ تَحَلُّلِهِ تَجْنِي وَتَشْتَارُ


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 51.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.22%)]