عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 31-03-2020, 04:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الزرياب الإبريز في وفاء النبي العزيز




ربِّ ثبِّتْنا بقولٍ ثابتٍ في الحياتين فلا نخلولج، ولتثبت قدمي إذ لم تكن قدمٌ تأمن سوء الزلج، واجعل أعمالي لي خالصةً بالريا والعجب لم تمتزج.





اللَّهُمَّ لا سهْل إلاَّ ما جعلتَه سهلاً، وأنت تَجعل الحَزْنَ إذا شئت سهلاً.





الزرياب الإبريز في وفاءِ النَّبيِّ العزيز.
وفاؤه، ما وفاؤه!






وَفَاءٌ فَلَوْ تَرْقَى الكَوَاكِبُ نَحْوَهُ لَقَدْ بَاتَ تِلْمِيذًا لَدَيْهِ عُطَارِدُ
إِلَيْهِ انْتَهَى النُّورُ المُبِينُ الَّذِي بِهِ تَبَصَّرَ ضِلِّيلٌ وَأَذْعَنَ مَارِدُ




والذي فلقَ الحبَّ والنَّوى، وأعطى كلَّ شيءٍ خلْقَه ثم هدى، ما دبَّ على الثرى أوْفى ذمَّة وأنقى سيرة وسريرة وأوفى بميثاقٍ ووعدٍ وعهدٍ - منه - صلَّى الله عليْه وسلَّم.





شَمَائِلٌ ذَا تَرَاهَا فَائِقٌ عَبَقٌ كَالمِسْكِ فَتَّتَهُ الدَّارِيُّ تَفْتِيتَا
يَرْنُو لَهَا النَّاسُ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمٍ وَيَسْبُرُونَ لَهَا البِيدَ السَّبَارِيتَا
فَهْوَ أَجَلُّ الوَرَى قَدْرًا وَأَوْفَاهُمُ عَهْدًا وَأَرْفَعُهُمْ يَوْمَ الثَّنَا صِيتَا
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي





كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوْفى النَّاس.






وَفًا تَنْجَلِي الظَّلْمَا بِأَنْوَارِ وَجْهِهِ فَمَهْمَا بَدَا لَمْ يَفْقِدِ البَدْرَ فَاقِدُ
خِلالٌ لَوَ انَّ الحُسْنَ نِيلَ بِمَطْلَبٍ لأَصْبَحَ تَسْتَمْلِيهِ مِنْهَا الخَرَائِدُ




يلتزم بعد شخص أخذ على بعض أصحابه ليعظِّم عهد الله وميثاقه، ويرسم صورة حية جذابة للدخول في دين الله.





وَالدُّرُّ يَزْدَادُ حُسْنًا فِي تَأَلُّقِهِ إِذَا تَحَلَّتْ بِهِ اللَّبَّاتُ وَالجِيدُ



ثبت في صحيح مُسلم من حديث حُذيفة بن اليمان - رضي الله عنْه - قال: "ما منعني أن أشهد بدرًا إلاَّ أنِّي خرجتُ أنا وأبي فأخذَنا كفَّارُ قريش، وقالوا: إنَّكم تريدون محمَّدًا، قلنا: ما نُريده، ما نُريد إلاَّ المدينة، فأخذوا منَّا عهد الله وميثاقَه لننصرفنَّ إلى المدينة ولا نقاتل مع رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فأتينا رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وأخبرناه الخبر، هو أحوجُ ما يكون لزيادة فردٍ في جيشِه، ومع ذا يقول مقالاً من بدائع لفظِه، سحبانُ عند بيانِه فئفاءُ: ((انصرِفا، نَفِي لَهم بعهْدِهم ونَستعين الله عليهم)).





إنَّه خُلُقُ النبوة.





يَدِينُ لَهُ مَنْ لَمْ يَدِنْ لِخَلِيقَةٍ وَيَقْضِي لَهُ بِالفَضْلِ غَاوٍ وَرَاشِدُ
صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي




كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:





أَبَرَّ وَأَوْفَى مَنْ تَقَمَّصَ وَارْتَدَى وَأَوْثَقَهُمْ عَهْدًا وَأَطْوَلُهُمْ يَدَا




إِنْ تُعاهدْهُ يقدِّم روحه فديةً للعهد من كل انحراف، وأخو الإنصاف لا يرضي به بدلاً في كل ودٍّ أو تجافي.






لم يتخلَّف وفاؤه - صلى الله عليه وسلَّم - لأعدائه وقد جهدوا لإطفاء دعوتِه، وكادوا له ولصحابته، فأرغمهم على الاعتراف بفضله وهم في أوج عداوته، يقول مكرز لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "ما عُرفتَ بالغدْر صغيرًا ولا كبيرًا؛ بل عرفتَ بالبِرِّ والوفا".





لَقَّبْتُمُوهُ أَمِينَ القَوْمِ فِي صِغَرٍ وَمَا الأَمِينُ عَلَى قَوْلٍ بِمُتَّهَمِ



أبو سفيان عدوٌّ آن ذاك، على إبداء المثالب لو وجدها، وطمس الحقائق لو قدَرَ عليْها، ومَعَ بالِغ حرْصِه على مَطْعَنٍ يُدْخِله في إجابتِه، لمَّا سألَه هرقل الرُّوم: أيغدُر محمَّد؟ لم يستطع إخفاء شمس وفائِه - صلى الله عليه وسلَّم - فقال: "لا".
أيعمى العالمون على الضياء؟!
فقال هرقل: وكذلك الرُّسُل لا تغدُر.






مَتَى قُلْتَ إِنَّ الصُّبْحَ لَيْلٌ فَقَدْ بَدَا إِلَى كُلِّ ذِي عَيْنَيْنِ أَنَّكَ كَاذِبُ



والحق يشهد والخلائقُ تشهدُ أنَّ وفاءَه لأعدائِه لا يقدر على مثلِه غيرُه؛ لأنَّه كما قال فيه ربُّه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].





ومن أعظم صور وفائه لأعدائِه:


وفاؤه بعقْد الحديْبية الَّذي امتعضَ منه بعض أكابر الصَّحابة لبالغ قسْوته بادي الرَّأي؛ نتيجة إصرارِ قريشٍ على إملاء شروط عنجهيَّة يعظم على قلوب الأحْرار الَّتي لم يؤيِّدها الوحي قَبُول ذلك، ومنها: أنَّ مَن جاء مسلمًا رُدَّ عليهم، وما كاد عقْد الصُّلح يَمضي حتَّى جاء أبو جندل بن سُهيلٍ مفاوضِ قريشٍ يرصف في قيودِه مستصرخًا، فقام أبوه وأخذ بِتلابيبِه وقال: يا محمَّد، قد لجَّت القضيَّة بيْني وبيْنك قبل أن يأتيَك هذا، هذا أوَّل ما عليه أُقاضيك، فقال له - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((صدقتَ، وردَّه إليه))، وأبو جندل - رضي الله عنه - يُنادي بصرخاتٍ تهزّ الجَنان وتحلْحل الأرْكان، أشدّ على القلْب وأثْقل من رضوى وثهلان: يا معشر المسلمين، أأُردُّ إلى المشركين ليفتِنوني عن ديني؟!





مَنْ كَانَ مِنْكُمْ وَاثِقًا بِفُؤَادِهِ فَهُنَاكَ مَا أَنَا وَاثِقٌ بِفُؤَادِي



ورسولُ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - أرْسى من ثبيرٍ، ومن كلِّ جبلٍ كبير، يُبقي منارَ وفاءٍ باعث في نفْس صاحبِه الأمل والرَّجاء: ((يا أبا جندل، اصبِر واحتسِب؛ إنَّ الله جاعلٌ لك ولمَن معك من المستَضْعَفين فرجًا ومخرجًا، إنَّا قد عقدْنا مع القوم صلْحًا وأعطيْناهم على ذلك عهْد الله، وإنَّا لا نغدر بهم))، فإن حال دون الشَّمس سدٌّ من السحب، سيبقى نهار الصِّدْق أبيض مبصرًا، والسَّيف يشرق مغمدًا أو منتظرًا، وما أن وصل - صلَّى الله عليْه وسلَّم - المدينة حتَّى أفلتَ أبو بصير وقدِمَ المدينة، فأرسلتْ قُرَيْش في طلَبِه رجُلين تقولُ: العهدَ الذي جعلت لنا، وفي مثالٍ عالٍ من الوفاء بالعهْد والحرص على سُمعة المسلمين الأخلاقيَّة، قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((يا أبا بصير، إنَّا قد أعطيْنا هؤلاء القومَ ما قد علِمْتَ، وإنَّه لا يصلح في دينِنا الغدر، وإنَّ الله جاعلٌ لك ولِمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلِق مع القوْم))، ثمَّ دفعه إلى الرجُلين.





يُغالب بالإيمان تيَّارًا ويروض زخارًا ويقاوم إعصارًا، ويا لله إنَّه ليس من السَّهل أن يدفعَ صاحبَه إلى أعدائِه! لكنَّ الوفاء بالعهود هو شرعُ الله ودينه، وإنَّما يظهر الالتِزام بشرع الله في المواقِف الحرِجة العصيبة، ففي طاعة المولى تهون الشدائدُ.





خرج أبو بصير بلا أسًى؛ فقد وعَدَه بالفرج مَن لا ينطق عن الهوى، ولمَّا بلغوا ذا الحُليفة ونزلوا يأْكلون من تمرٍ لَهم، جاء الفرَج والمخرج ولا حرج.





قَدْ قَيَّدُوهُ فَمَا أَطَاقَ قُيُودَهُمْ وَالحُرُّ يَأْبَى أَنْ يَعِيشَ مُقَيَّدَا



رجل حربٍ من الدرجة الأولى.





فَتًى لا يَنَامُ عَلَى ذِلَّةٍ وَلا يَشْرَبُ المَاءَ إِلاَّ بِدَمْ



استلَّ سيف أحدِهم بالحيلة عليْه فقتله به، وأرادَ الآخر فألقَى سيْفه ورحْلَه ونعله فارًّا إلى المدينة، تطير الحصى من تحت قدميْه، عاضًّا على أسفل ثوبِه، والذعر في عينيه والموْت في شخْص أبي بصير يتبعُه، يستغيث وقد دخل المسجِد: قتل صاحبي وإني لمقتول، وأبو بصير خلفه.





بَطَلٌ لَمْ يُطَأْطِئِ الرَّأْسَ إِلاَّ فِي رُكُوعٍ لِرَبِّهِ وَالسُّجُودِ
بَطَلٌ يَرْكَبُ الصِّعَابَ بِنَفْسٍ تَأْخُذُ العِزَّ مِنْ جِبَاهِ الأُسُودِ




يقول: يا رسول الله، قد أوفى الله بذمَّتك ورددتَني إليْهم، أنجاني الله منهم.





دهاءٌ وبطولة تستحقّ أن تكون مشعلاً لخِدْمة الإسلام، وإزْعاج الكفَّار، يدْفَعُها - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ملمِّحًا لا مصرِّحًا: ((ويل أمِّه مسعرَ حربٍ لو كان له أحد)).





وبالإشارة اللبيبُ يفهمُ.





عرف أنَّه سيردُّه، فخرج إلى سيْف البحْر ولحِق به أبو جندل وكلُّ مَن أفلت من المشْركين، فكوَّنوا عصابةً تعترِض عير المشْركين وتقطع طريقَهم إلى الشَّام، وتفوِّت عليهم مصلحة الصُّلح مع المسلمين ليأْتوا خاضعين ذليلين منكّسي رؤوسِهم، يتنازلون عن شرْطهم ويستشْفعون برسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أن يأوي كلَّ مَن خرجَ إليْه من المسلمين، تلْكم والله عاقبة الوفا.





يَطْوِي الوَفَاءُ الأَدْعِيَاءَ وَزَيْفَهُمْ وَمَآلُهُمْ عَارٌ وَصَمْتٌ مُطْبِقُ
وَيَظَلُّ حُرَّاسُ العَقِيدَةِ ذِرْوَةً مِثْلَ النُّسُورِ عَلَى الجِبَالِ تُحَلِّقُ




ويا معشر الإخوة:


هكذا يفعل الإيمان في قلوب معتنِقيه، فلو أنَّ ما حلَّ بأبي بصير كان مع رجُلٍ من رجالات الدنيا، لارتدَّ عن دينِه وانقلب عدوًّا له، لكنَّ أبا بصيرٍ رجلُ عقيدة، تحوَّل من جندي في جيش المسلمين لو آوَوْه، إلى قائد كتيبة تقضُّ مضاجع المشركين، وترغمهم على تغْيير سياساتِهم السَّطحيَّة، ثمَّ يظلُّ ولاؤُه لله ولرسولِه وللمؤمِنِين.





شَتَّانَ مَا بَيْنَ الَّذِينَ لِرَبِّهِمْ بَاعُوا النُّفُوسَا

النَّاصِبِينَ صُدُورَهُمْ مِنْ دُونِ دَعْوَتِهِمْ تُرُوسَا

وَالرَّاقِدِينَ عَلَى الهَوَانِ يحمون الرؤوسَ




لا والَّذي سمك السَّماءَ وحاكَها، لن نهتدي إلاَّ بشرْع محمَّد.





صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي



كَان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوفَى النَّاس.





إِنْ يَسْطَعِ الصُّبْحُ قُلْنَا: الصُّبْحُ يُشْبِهُهُ أَوْ يَنْفَحِ الوَرْدُ قُلْنَا: الوَرْدُ حَاكَاهُ



أخرج الإمام أحمد - رحِمه الله - وصحَّحه الألباني، عن عائشةَ - رضِي الله عنْها - ما مُخْتصره: اشترى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - من رجُلٍ من الأعراب جَزورًا بوسقٍ من تَمر العجوة، ورجع به النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليعطيَه حقَّه، التمس التمرَ له فلَمْ يجِدْه، فخرج وقال: ((يا عبد الله، التمسْنا التمر فلم نجِدْه))، فقال الأعرابي: واغدراه واغدراه! فنهنه النَّاس وانتهروه وقالوا: قاتلك الله! أتغدِّر رسولَ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال رسولُ الله: ((دعوه؛ إنَّ لصاحب الحقِّ مقالاً))، فلمَّا رآه لا يفقه عنْه قال لرجُل من أصحابه: ((اذْهَب لخولة بنت حكيم وأوْفِه الَّذي له))، فأوْفاه حقَّه كاملاً، فزال غضبُه وتغيَّرت لهجتُه، وأتى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: جزاك الله خيرًا؛ فقد أوفيتَ وأطيبت.





وَغَايَةُ جُهْدِ أَمْثَالِي ثَنَاءٌ يَدُومُ مَدَى اللَّيَالِي أَوْ دُعَاءُ



فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أولئِك خيرُ عباد الله الموفون المطيّبون))، وهو خيرُهم.





صَلَّى عَلَيْهِ بَارِئُ العِبَادِ مَا أَمْطَرَتْ سُحْبٌ وَسَالَ وَادِي



كان - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أوفى النَّاس.





أَحْيَا بِهِ اللَّهُ هَذَا الخَلْقَ كُلَّهُمُ فَكَانَ رُوحًا وَهَذَا الخَلْقُ جُثْمَانُ



ثبتَ في السنن: أنَّ أبا رافع - رضِي الله عنه - قال: بعثتْني قريش إلى رسولِ الله - صلى الله عليْه وسلَّم - فلمَّا رأيتُ رسولَ الله ألْقِي في قلبي الإسلام.





إِنَّ الوُجُوهَ عَلَى القُلُوبِ شَوَاهِدٌ فَأَمِينُهَا لَكَ بَيِّنٌ وَالخَائِنُ



قلتُ: يا رسول الله، إنِّي والله لا أرجِع إلى قرَيش أبدًا، لكنَّ الرسالة تقتضي جوابًا، والجواب لا يصل إلاَّ مع الرسول، فكأنه عقدٌ عقد، فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنِّي لا أَخيس بالعهْد ولا أحبِس البُرُد، ولكن ارجِع فإنْ كان في نفسِك الذي في نفسِك الآن فارجع إليْنا))، قال: فذهبت إلى قريش فبلَّغتُهم ثمَّ أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليْه وسلَّم - فتشهدْتُ وأسلمت.





رَأَيْتُ وَجْهًا بَدِيعًا بِكُلِّ خَيْرٍ تَحَلَّى
وَكُنْتُ أَعْدَدْتُ نَحْوِي ذَخِيرَةً فَاضْمَحَلَّ
وَهَلْ يَخْفَى عَلَى السَّارِينَ نَهْجٌ إِذَا مَا البَدْرُ فِي الأُفُقِ اسْتَنَارَا




فعليه الله صلى وعليْه اللهُ سلَّم.





كان - صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم - سيرةً فريدة وأيَّ سيرة!





أَحْبَبْتُهَا طِفْلاً وَهِمْتُ بِهَا فَتًى وعشقتها كهلاً وزدتُ تعلُّقا



في السِّير بسندٍ حسَّنه ابنُ حجَر - رحِمه الله - لمَّا فتح الله مكَّة لرسولِه، ونزل بها واطمأنَّ النَّاس خرج فطاف بالبيت، ثمَّ دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مِفتاح الكعبة، فدخَل فيها وصلى ركعَتين ثمَّ جلس، فقام علي - رضي الله عنْه وأرْضاه - وقال: يا رسول الله، اجْمع لنا الحجابةَ مع السِّقاية، صلَّى الله عليك.





السُّلطة آنذاك بيدِه كاملة، وباستطاعتِه أن يمنحَ بني هاشمٍ شرَف الحجابة مع السِّقاية، وهُم لذلك أهل، ولكنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم ينزِعْه من قومٍ توارثُوه، مع أنَّ عثمان بن طلحة قد أغْلظ عليْه قبل الهجرة حينما أراد أن يدخُل البيت ذات يوم، فقال له النَّبيُّ - صلى الله عليْه وسلَّم - آنذاك: ((لعلَّك ترى هذا المِفتاح بيدي أضعُه حيثُ شئْتُ))، وأصبح المفتاح في يده، على هذا كلِّه قال: ((هاك مِفتاحك يا عثمان، اليومُ يومُ برٍّ ووفاء)).






وَفَاءٌ بِهِ ازْدَانَتْ أَبَاطِحُ مَكَّةٍ وَعَزَّ بِهِ ثَوْرٌ وَتَاهَ حِرَاءُ



رُوي أنَّه لمَّا ولَّى عثمان دعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلَّم - وقال: ((ألَم يكُن الَّذي قلتُ لك؟)) فقال: بلى، بأبِي أنتَ وأمِّي، وأشهد أنَّك رسولُ الله، فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((خذوها خالدةً تالدةً، لا ينزِعُها منكم إلاَّ ظالم))، وولَّى عثمان وحالُه:
أَراني من جميلِ الفعْلِ ما يستعْبِدُ الحرَّ، فسِرْتُ أذكره في السِّرِّ والعلن.



وفِي انتِباهي وفي نوْمِي وإغفائي، منّي صلاةٌ وتسليمٌ يُقارنُها عليه ما اهتزَّ نَورٌ غبّ هطلان.





كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوفى النَّاس.





فَمُفْرَدٌ بِالوَفَا قَدْ جَاءَ مُنْحَصِرًا فِي نَعْتِهِ المُبْتَدَا المَرْفُوعُ وَالخَبَرُ



فمعَ أعْباء الرِّسالة لم ينسَ الَّذين لبَّوا دعوته، وبذَل كلٌّ منهُم في سبيلِ الله مُهْجَته، فإلى آخِر يومٍ في حياته يذكرهم يدعو لهم، يزورهم يستغفر لهم.





فَهُمُ السَّابِقُونَ فِي كُلِّ خَيْرٍ وَهُمُ الأَبْعَدُونَ عَنْ كُلِّ ذَامِ



يوصي الأمَّة بهم:


((احفظوني في أصحابي - لا تسبّوا أصحابي - إذا ذُكِر أصْحابي فأمسِكوا - مَن سبَّ أصحابي فعليْه لعنةُ الله والملائكةِ والنَّاس أجمعين))، وفي أُحدٍ يقف حزينًا على شهدائِهم ويصلِّي عليْهم بعد ثَماني سنين مودِّعًا لهم ويقولُ: ((أنا شهيدٌ يومَ القيامة عليْهِم))، ويذكُرهم ويقول: ((والله، لودِدتُ أنِّي بودرتُ بحضن الجبل معهم)).





لا خَيْرَ فِي مَن لَيْسَ يَعْرِفُ فَضْلَهُمْ مَنْ كَانَ يَجْهَلُهُ فَلَسْنَا نَجْهَلُهُ



يفشي أحد الصَّحابة سرًّا وهو يتهيَّأ لفتْح مكَّة، وعذْرُه أن تكون له يدٌ يدفع الله بِها عن أهلِه ومالِه، فصدَّقه النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في اعتذارِه، ولمَّا استأْذن عمرُ في ضرْب عنُقِه نظرَ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رصيدِه الماضي فوجده شهِد بدرًا - ولم يشهدْها إلاَّ مؤمنٌ صادق الإيمان - فقال وفاءً لصاحبِه قولاً يأخُذ سامعَه ما يأخذ النشْوانَ على نقر العيدان: ((يا عمر، وما يدريك؟ لعلَّ الله اطَّلع على أهل بدرٍ فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم)).


كَلِمٌ أشهى من العسلِ، العَقَنْ منْه ولا تسَلِ





ويطَّلعُ على منافقٍ يجهد في هدْم الإسلام وإيذاء أصحابِه، فيُراودُه عمر على قتلِه فيمنعه وفاءً لاسم الصُّحبة، ولجهل النَّاس بحقيقته: ((دعْه يا عمر؛ لا يتحدث النَّاس أنَّ محمَّدًا يقتل أصحابه)).





رفّت الدنيا عليها وازدهت وتغنَّت بمعانيها القوافي، أولى بالمؤمنين من أنفُسِهم، ما مات أحدٌ منهم إلاَّ خلفه في أهله وولده.





بِذَا شَهِدَ الأَيَامَي وَاليَتَامَى وَتُرْضِيكَ الأَرَامِلُ فِي الشُّهُودِ



أُمُّ حبيبة - رضي الله عنها - رملة تُهاجر مع زوجِها إلى الحبشة، فيرتدُّ زوْجُها ويتنصَّر.





وَيَحْسَبُ أَنَّهُ بَلَغَ الثُّرَيَّا وَمَا يَنْفَكُّ يَهْوِي لِلحَضِيضِ



يُخيِّرها بين أن تتنصَّر أو تفارق، فوجدتْ نفسَها بين ثلاث: إما أن تتنصَّر، وهذا ما لا تفعلُه ولو مُشِطَ لحمُها بأمشاط الحديد وقد ذاقتْ حلاوة الإيمان، وإمَّا أن تعود لبيْت أبيها بمكَّة، ولم يزل قلعة للشِّرْك لتعيش مغلوبة مقهورة، وإمَّا أن تبقى في بلاد الغُرباء وحيدةً شريدةً، هولٌ به باتت الأهوال تحتقر، فاختارتْ رضا الله على ما سِواه وقرَّرت الفِراق والبقاء في أرض الغرباء كالقمَّة الشمَّاء.





والنَّار في الأعماق لكن ما أروعَ الإصرارَ رغم الظما! علِم رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - خبَرَها فخطبَها وتزوَّجها، فعادت بخير ما عادتْ به امرأةٌ على وجْه الأرض؛ كانت زوجًا لفرْدٍ وارتدَّ فصارت زوجًا لخاتم النَّبيين، كانت أمًّا لحبيبةَ، فصارتْ أمًّا لجميع المؤمنين.





وَاسْتَقْبَلَتْ رَمْلُ عَهْدًا لا نَظِيرَ لَهُ فِي كُلِّ مَا سَجَّلَ التَّارِيخُ مِنْ حِقَبِ



ويَموت أبو سلمة - رضِي الله عنْه - مُجاهدًا في سبيل الله معه، فيخلفه في أهلِه وولدِه ويتزوَّج أمَّ سلمة - رضِي الله عنها - ويقول مقالةً بشمائلَ أحلى من السلْسالِ: ((عيالُك عيالي)).





فَنَالَتْ بِهِ فَوْقَ مَا تَرْغَبُ وَمَا مِنْ لِسَانٍ لَهَا يُعْرِبُ



ويفِي لجعفرٍ - رضي الله عنْه - في حياته وبعد مماتِه، فحين استشهد بمؤتة حزِن عليه النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وطلب أبناءَه فشمَّهم، وذرفت عيناه عليْه، وأوصى أصحابَه ألا يغفلوا عنهم وأن يصنعوا الطَّعام لهم، فقد أتاهم ما شغلهم، ثمَّ جاءهم بعد ثلاثٍ فقال: ((لا تبْكوا على أخي بعد اليوم))، ودعا بني جعفر فجاؤوا كالأفراخ، فأمر بِحلقِ رؤوسِهم ثمَّ دعا لهم: ((اللَّهُمَّ اخلف جعفرًا في أهلِه، وبارِكْ لعبدالله بن جعفر في صفقة يمينِه))، وقال لأمِّهم لما ذكرتْ يُتْمَهم وجعلت تحزنُه عليهم: ((العيلة عليهم تَخافين وأنا وليُّهم في الدنيا والآخرة؟!)).





وَفَاءٌ عَظِيمٌ قَدْ تَضَوَّعَ رِيحُهُ نَسِيمَ الصَّبَا هَبَّتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
عَلَيْهِ صَلاةُ اللَّهِ مَا قَالَ قَائِلٌ قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ




كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوْفى النَّاس.





وَفَاءٌ كَوَجْهِ الصُّبْحِ مَا دَرَّ نُورُهُ عَلَى مُدْلَهِمِّ الخَطْبِ حَتَّى تَبَدَّدَا
فَحَامَتْ قُلُوبُ النَّاسِ فِي رَوْضِهِ كَمَا تَحُومُ عِطَاشُ الطَّيْرِ أَبْصَرْنَ مَوْرِدَا




أبو بكرٍ - رضي الله عنْه - أحبُّ الرِّجال إليه صاحبه في الغار شيْخ المهاجرين والأنصار.





مَنْ قَالَ قَوْلَتَهُ الغَرَّاءَ يَرْفَعُهَا كَالسَّيْفِ فِي وَجْهِ مَنْ خَارُوا وَمَنْ ثَارُوا
الدِّينُ كُلٌّ وَلَيْسَ الدِّينُ تَجْزِئَةً بَعْضٌ صَحِيحٌ وَبَعْضٌ مِنْهُ أَصْفَارُ
أَعَادَ لِلمُسْلِمِينَ الفَجْرَ مُبْتَسِمًا مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَمْحُو الفَجْرَ فُجَّارُ




يفي له - صلى الله عليْه وسلَّم - ويبين للأمَّة مكانته؛ ليعرفوا قدره ومنزلَتَه، حيث قالَ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((ما لأحدٍ عندَنا يدٌ إلاَّ وقد كافَأْناه بها، ما خلا أبا بكرٍ فإنَّ له يدًا يُكافِئُه الله بها يوم القيامة، ومَا نفعنِي مالٌ قطّ ما نفعنِي مالُ أبي بكْر، ولو كنتُ متَّخذًا خليلاً لاتَّخذتُ أبا بكرٍ خليلاً)).





مَكَانٌ مَا ارْتَقَى أَحَدٌ إِلَيْهِ وَمَا بَلَغَتْهُ هِمَّةُ ذِي ارْتِيَادِ



كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أوفى الناس.


وفاؤه فاح وفاق العرار لازال ممدود الأيادي، وفي اليمين يمنٌ واليسار يسار.





وفى - صلَّى الله عليْه وسلَّم - للأنصارِ حين بايعوه بيعة العقبة، وخشِي بعضُهم إذا ظهر أن يعود لقومه، فتبسم - صلى الله عليْه وسلَّم - وقال: ((بل الدَّم الدَّم، والهدم الهدْم، أنا منكم وأنتم منِّي، أحاربُ مَن حاربتم وأُسالِمُ مَن سالمتُم)).





يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 52.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 52.15 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.19%)]