عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 11-04-2019, 12:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,026
الدولة : Egypt
افتراضي رد: لبيد والذكرى المستديرة ( مرايا السيرة، وأصداء النص)

لبيد والذكرى المستديرة


( مرايا السيرة، وأصداء النص)



الدكتور


محمد سيد علي عبد العال

  • شعرية الامتصاص ونص الألفة:
الخطابات الشعرية بين النصوص المتداخلة والمتعالقة يعطيها إمكانات جوهرية فلسفياً وشعرياً وثقافياً وتداولياً أعمق تأثيراً من إمكانات النص الواحد المتاحة؛ فتفتح آفاق النص؛ ويخرج عن عزلته، ووحدته الموضوعية واللغوية والإيقاعية إلى نص مفتوح على آفاق بنائية وأسلوبية، وأخرى فلسفية تمنحه بعداً قرائياً لا يتوافر له في عزلته التي تمثل لغة واحدة، وأسلوباً واحداً، أو عقلاً واحداً. والشاعر لا يخاطب شخصاً بعينه، وإن كان هناك قارئ مباشر أحياناً أو متلق مباشر أحياناً، فهو، بلا شك، يتجاوزه إلى أكبر عدد يمكن أن يجذبه إلى نصه بالتلقي، وأن يثيره بشتى المثيرات الفنية والموضوعية المتاحة، ولذا يأتي رهانه على شخصية لها مرتكزات أسلوبية وفكرية أخاذة تثير الأسماع والقلوب والأفهام إلى نصه، وتجذبهم إليه في صورة جدلية تشبه الجدل الذي يولده نصه المزيج من نصوص يراهن على طاقتها الشعرية، وبخاصة تلك الخطابات المضمونة التي سبق من قبل مناهضتها، أو الإعجاب المتزايد بها، أو الدهشة التي خالفت بها آفاق التوقع عند تلقيها، أو وجدت موافقة لما في الصدور.
والنص المنصهر مع نصوص أخرى مثيرة يضمن لنفسه الاستمرارية والحيوية والتعبير عن فئة واسعة من المتلقين. إن هناك مصدر إشعاع مضموناً، وعليه أن يوجهه، ويكسر آفاق التوقع القديمة المرتبطة بذاكرة المتلقي، مغيراً اتجاهه؛ فيتبعد عن المحاكاة الفاترة، والحرص على بنية الخطاب الأول، مهما بلغ من الاتساق أو الضيق، وأن ينوع الإيقاعات الموسيقية القديمة، ويضيف نبراته الخاصة، وروحه التي تنعكس على النص مشعة ألواناً جديدة من التصوير، راسمة تفاصيل وخطوطاً لافتة، ربما عكست فيضاً من روحه على صفحة التلقي أكثر وضوحاً وتأثيراً من النص الأول وخطابه، بل ربما صححت مساراته. وبذا يتحول نصه من السياق المحدود والدينامية المغلقة إلى الديناميكية والسياقات المفتوحة القابلة للتوالد بقدر يفتح الدلالات عبر الحوارات المنسوجة. ولكي يجتاز الخطاب المنصهر طريقه إلى المتلقي لابد أن يكون على وئام مع عناصره المستعارة، وأن تحدث سيرورة الحوار في النص كله بنبرة أسلوبية وإيقاعية ودلالية متناغمة لا يشعر فيها المتلقي بأي خلل أو شذوذ.
ويتجلى ذلك خاصة عند تشكيل الصورة، فعندما يرجع المتلقي إلى صورة بينه وبينها ألفة، فإن هذه الألفة تنعكس على النص الجديد بالتبعية، وتكسبه دهشة فوق دهشته، فإذا ما تشابكت كلمات الألفة مع كلمات المبدع الجديدة في علاقات متطورة وغنية، خرج النص من سياقه المتوقع إلى سياقات أخرى غير متوقعة. وربما نسي التاريخ الخيالي أو المفهومي للصورة القديمة لصالح الصورة الجديدة في طرافتها وقدرتها الجدلية على الحوار، بحيث تكتسب بكارة جديدة؛ فتصير جنيناً نابتاً من تزاوج النص الجديد مع نص الألفة؛ وهو ما يكسب النص تفاعلية وحواراً عابراً للأجيال، فيثير نوستالجيا (NostalGia) تلقي النصوص القديمة، ويخلق دهشة الحديث لأنه وضعها في ثوب جديد تجاوز الإطار المحفوظ؛ فتضمن لنفسها وجوداً مشعاً يشبه إشعاع السابقين، ويجاوره، وربما تفوق عليه بما أتيح لإكسير إبداعه أن يمتص من سرجهم المتوهجة عبر الزمن. ولكنه بعد فترة يمتص هذه النصوص وتتسرب إلى إبداعه بتلقائية.
وهناك ما يشبه الديالوج المهموس بين هذه النصوص، ليس على مستوى الطبقة السطحية للأسلوب، بل على مستوى الطبقات العميقة للمعنى. إنها طاقة سحرية لا تتجلى في استعارة لفظية أو أنماط تركيبية، بل تمثل ثراء وغناء للنص؛ إذ يتجرأ الناص، بعد ممارسات عدة في هذه التواشجات على تجاوز النماذج القديمة والخروج من سلطانها بالحذف والعكس وتمزيق العلاقات القديمة؛ فتتسرب إشعاعاته الخاصة لتنعكس صفحة روحه على صفحة النص؛ فتتسلل إلى وجدان المتلقي ووعيه؛ فيطرب لأسلوبه الخاص ومعانيه المدهشة وعواطفه الصادقة التي تشكلت مجتازة منطقة لاوعي إلى اللاوعي عبر عدد كبير من نصوص قديمة، يحتاج المتلقي النموذجي إلى جهد في استخراجها، ويظل في شك وحذر بين فكرتي التوارد والاستلهام.
لم تعد القضية، إذا، هي قضية السرقة القديمة التي شغلت نقادنا فترة خصيبة من تراثنا، بل هي طاقات محفزة ونماذج عليا تثير القريحة، وتدفعها حتى تأتي لحظة التسامي؛ فتحلق وتتجاوزها، أو تكتفي بالطموح إلى ذلك، وقد تعجز عن أن تسمو إليها(341).
والشاعر المستلهم يعلم أنه يستخدم نصاً قديماً له سياق اجتماعي وسياسي وثقافي متسق أو مختلف، ولكنه يرجعه إلى أرض أجنبية، فينبغي عليه ألا يقع في أسره؛ فيكون أضحوكة كمن يرتدي جزءاً من ثياب عصره، ويكمل بثياب أجداده؛ فيصير كالبهلوان المضحك الذي يثير السخرية والاستهزاء، أو –كما يقول عز الدين المناصرة- تصير قصيدته "رعوية في أثواب باريسية(342).
إن الجهد الأصعب الذي يقوم به الشاعر هو القدرة على التشابك مع النصوص تشابكاً دقيقاً وأن يكون تضافره معها ممتزجاً ومنصهراً، بحيث لا يتألف نصه من خطوط متوازية بل من خطوط متشابكة ومتضافرة؛ ولذا فذكر لبيد يستلزم تمهيداً وتعليقاً وتبريراً سياقياً وأسلوبياً يسمح بالالتحام والحوار الداخلي والخارجي؛ بحيث يعيش الخطاب –كما يقول باختين- على حدود سياق الآخرين(343).
ولأن الإيقاع –كما يرى باختين، اختيار للشاعر، فإن اختيار الإيقاع الذي اختاره المبدع الأول يمكنه من امتصاص النص المنصهر فيه من خلال النبر والوحدات الإيقاعية الأكثر مباشرة واتساقاً مع النص الملهم(344)؛ وهو ما نجد مثاله عند مهيار الديلمي يصف شدة زمانه، ويعرض بفقد صنعة الشعر مع موت الشريف الرضي وابن نباتة، ولم يبق إلا ما يسمع منه(345):
لكل هوى من رائد الحزم رادعوحبكم ما لم يزع عنه وازع
إلى أن يصل إلى قوله(346):
فيا عجبي حتى فؤادي بوده مداج وحتى ماء عيني مصانع
أبي طبع هذا الدهر إلا لجاجة وأتعب شيء أن تحال الطبائع
يعز حصاً المعزاء والدهر هين ويشبع عير السرح والليث جائع
وأودعته عهداً فعدت أرومه (ومن دينه ألا ترد الودائع)
وأقسم لا استرجعته ولو أنه (قضى من شبابي أنه لي راجع)
هنا المانعين اليوم أن سؤالهم (منى ما أملتها علي المطامع)
وإني بعنفي من يد المن مفلت (وما المن في الأعناق إلا جوامع)
وواضح أنه نسجها على منوال لبيد وزناً وقافية ومعنى وتراكيب، وما بين الأقواس، يكشف ذلك الاستدعاء التلقائي الفني في الوقت نفسه؛ فبعد أن سيطر عليه إيقاع القصيدة تسللت إليه ألفاظها وتراكيبها، ومن ثم معانيها، حتى لتبدو كأنها معارضة لقصيدة لبيد في رثاء أربد(347):
1- بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
2- وقد كنت في أكناف جار مضنة ففارقني جار بأربد نافع
3- فلا جزع إن فرق الدهر بيننا وكل فتى يوماً به الدهر فاجع
4- فلا أنا يأتيني طريف بفرحة ولا أنا مما أحدث الدهر جازع
5- وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وغدواً بلاقع
6- وما المرء إلا كالشهاب وضوئ هيحور رماداً بعد إذ هو ساطع
7- وما البر إلا مضمرات من التقى وما المال إلا معمرات ودائع
8- وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوماً أن ترد الودائع
9- ويمضون أرسالاً ونخلف بعدهم كما ضم أخرى التاليات المشايع
10- وما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
11- فمنهم سعيد آخذ لنصيبه ومنهم شقي بالمعيشة قانع
12- أليس ورائي إن تراخت منيتي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
13- أخبر أخبار القرون التي مضت أدب كأني كلما قمت راكع
14- فأصبحت مثل السيف غير جفنه تقادم عهد القين والنصل قاطع
15- فلا تبعدن أن المنية موعد عليك فدان للطلوع وطالع
16- أعاذل ما يدريك إلا تظنيا إذا ارتحل الفتيان من هو راجع
17- تبكي على أثر الشباب الذي مضى ألا إن أخدان الشباب بالرعارع
18- أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى وأي كريم لم تصبه القوارع
19- لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
20- سلوهن إن كذبتموني متى الفتى يذوق المنايا أو متى الغيث واقع
استغل مهيار طريقة المفارقات المتوازنة التي أجملها لبيد ووزعها على قصيدته بطولها بشكل يحمل روحه، وينسجم مع تجربته بحيث أغرتنا قصيدته بالقراءة والتلقي والدرس، سواء أكانت مشتبكة مع نص لبيد أم لم تشتبك؛ فنص لبيد قد انصهر في تجربته؛ وهو أمر متكرر في ديوان مهيار، وقد توقف محمد داناي في دراسته الموسعة عن شعره، أمام شيء يسير من هذا التناص(348)، ولكنه لم يفطن إلى أنه امتص شعر لبيد حتى صار جزءاً من إبداعه، يتشكل في اللاوعي، ويخرج نصاً جديداً يحمل روح مهيار، وخصائصه الفنية المميزة.
يمكننا أن نقول: إنه نوع من التعالق النصي، أو التناص الإيقاعي بتعبير علوي الهاشمي(349)، أو التناص الشكلي بتعبير أحمد الثقفي(350)، ولكنه في الحقيقة نوع من التناص الذي يستخدم فيه الشاعر المتناص كل آليات التناص، فالنص الأول لا يمكنه أن يحضر شكلاً، ويغيب مضموناً، والدليل على ذلك هو ما نجده في قصيدة "مرثية الآلهة" للشاعر بدر شاكر لسياب (ت1964م) التي اضطر إلى ذكرها كاملة لمعرفة مدى التناص بينها وبين قصيدة لبيد السابقة التي أوردتها كاملة للسبب ذاته(351):
1- بلينا وما تبلى النجوم الطوالعو يبقى اليتامى بعدنا والمصانع
2- ويبقى كرب الجالب الكرب: كالصدى يغص المنادى بالردى وهو راجع
3- كأن الأميبي توأم وهو توأم لها، فهو في منجى من الموت قابع
4- ولكنه الفرد الذي يزحف الورى إلى حيث ترمي مقلتيه المطامع
5- أعنقاء من صحراء نجد تقحمت بها مغرب الشمس البعيد الزعازع
6- أم انسل من أهرام فرعون هاج عوقته انتقاص الدود منه المباضع
7- ومن ليس يحيا لن يرى وهو مالك فلو كان يحيا ما عدته الفواجع
8- وما كان إلا اسماً كرب ابن مثله به يدمغ اثنان: الورى والبضائع
9- ولكنه اسم بالأسامي يغتذي تهجاه زفار اللظى والمدافع
10- تمنيت أني آلة لا يصيبها كلال ولا وقت بها مر ضائع
11- لها من دماء الناس قوت وخلفها من المال عن أن ينفد القوت مانع
12- وما تخطئ الآلات في الجمع تارة وفي الطرح إن يخطئ من الناس جامع
13- ولا عاقبتها عصبة من ورائها علينا عقاب برئوا منه واقع
14- ألا كم رفعنا من إله وكم هوى إله، وأضحى ثالث وهو رابع
15- فما جاوزتنا صورة منه خطها على غفلة منا مجيع وجائع
16- وما كان معبوداً سوى ما نخافه ونرجوه، أو ما خيلته الطبائع
17- فتموز مثل اللات والرعد ما رمى بغير الذي تطوى عليه الأضالع
18- وكم أله التمر التهامي معشر لما ليس يحيا دونه الناس راكع
19- فلما شكا بعد الأثافي قدرها وضنت على الشدق الحفي المراضع
20- كفى كل ثغر كان يدعوه جوعه إله أحاطته المدى والأصابع
21- دمى هذه الخمر التي تشربونها ولحمي هو الخبز الذي نال جائع
22- ولما تشظى قلب نرسيس وانثنى يلم الشظايا منه شار وبائع
23- وغذى بها القلب الذي حين ذاقها نما فيه نابا كوسج فهو قاطع
24- هوى كل عال من إله وسافل إلى حيث ما من راحل ثم راجع
25- وأفضى إلى العرس السديمي معدن بما أمتاح من أحداق ميدوز لامع
26- هو الشمس إلا أن في زمهريره من الموت ظلاً حجيته البراقع
27- جزى أمه الأرض التي من عروقها ربا واعتذى في جوفها وهو هاجع
28- بشر الذي يجزى به شر من عذا وأروى ويجزاه العدو المنازع
29- فأدمى بنيها وارتعى من بناتها حقولاً تزجى فهي شوه بلاقع
30- كقابيل يغتال الأشقاء راكل كأوديب للخبز الإلهي صافع
31- وهذا الإله الأملس الفظ ما جلا لنرسيس يجثو عنده وهو خاضع
32- سوى وجه نرسيس الرخامي شابه شحوب يهوذي التلاوين ناقع
33- وأوفى من الأرباب جيل يئمه على قمة الأولمب رب مخادع
34- ترى فحم إذ يلقاه يلقاه راجف وفولاذ من تلماح عينيه مائع
35- ويا عهد كنا كابن حلاج واحداً مع الله إن ضاع الورى فهو ضائع
36- أكل الرجال الجوف أن يملأوا به خواء الحشا هذا الإله المضارع
37- فعاد الفقير الروح من ليس كاس ياًبه ظاهراً منا فحل التنازع
استعار السياب هنا القالب الإيقاعي؛ كما نلاحظ لقصيدة لبيد، وامتص نص لبيد وتناص معه عبر آليات عدة منها:
1- التضمين والاستبدال: البيت الأول هو عينه بيت لبيد ولكنه استبدل بكلمة (الجبال) كلمة (اليتامى).
2- إيقاع البحر الشعري: القصيدتان كلتاهما من بحر الطويل، وهي القصيدة الوحيدة للسياب التي كتبها موزونة مقفاة من هذا البحر في ديوانه الشهير "أنسودة المطر"(352).
3- كلمات القافية المشتركة بينهما واضحة، وجاءت كالآتي:
قافية لبيد
رقم البيت
قافية السياب
رقم البيت
والمصانع
1
والمصانع
1
بلاقع
5
بلاقع
29
الأصابع
12
الأصابع
20
راكع
13
راكع
18
قاطع
14
قاطع
23
راجع
16
راجع
2.24
واقع
20
واقع
13
هذه التماثلات في كلمات منطقة القافية، أو الروي، ما يقترب من نصف كلمات منطقة القافية في قصيدة لبيد تقريباً، علماً بأن السياب كرر كلمتي (جائع، وراجع) في منطقة القافية، وإذا أضفنا التصحيف بين (الزعازع)، (الرعارع)، تجاوزنا النصف.
الاتفاق الاشتقاقي بين الصيغ الصرفية (فاعل- فعالل- مفاعل- فعائل- فواعل) بالتناوب، والترتيب، هنا، يمثل نسب التكرار المتماثلة تقريباً.
المجانسة بين كثير من الكلمات في منطقة القافية أيضاً؛ فنجد الكلمات: (قابع، جازع، نافع، فاجع، صانع، قانع، صانع) عند لبيد، تقابلها الكلمات الآتية عند السياب (قانع، جامع، نافع، هاجع، صافع، ناقع، مانع).
ويشير سيد البحراوي في دراسة مستقلة عن الإيقاع في شعر السياب أن هذه القصيدة أخذت تميزها النبري المميز المحدد من خلال مقاطع الأضرب الخاصة؛ فأبرزت المفارقة التهكمية عند السياب(353).
وموضوع القصيدتين واحد هو الرثاء، وإذا كانت قضية الموت هي منبع معظم تجارب السياب(354) فالموت هو قضية لبيد من قبله بقرون عديدة؛ ولذا اتفقت الأرواح. ويمكنا أيضاً أن نلمح مدى التواشج من خلال مقارنة الطرائق الأسلوبية للجملة الشعرية عند الشاعرين بما يحتاج إلى دراسة مستقلة؛ فقد أفاد السياب من بعض طرائق لبيد في الشرط، والاستثناء، والتوشيع، والإنشاء الحواري حتى إننا نشعر بهذا التماثل أحياناً، بين طريقة بناء الاستعارة عند لبيد (تحنى عليها الأصابع)، ومثيلتها عند السياب (تطوي عليه الأضالع)، وكذا طريقة الوصف بجملة الحال الاسمية في ذيل البيت؛ فما نجده عند لبيد: (يغص المنادى بالردى وهو راجع)، نجد مثيله عند السياب: (واغتذى في جوفها وهو هاجع)، وكذا طريقة البناء الدرامي في القصيدتين ومع ما يقال في حسم وتسفيه آراء المعارضين من: "أن السياب هو الثورة الأولى على الشكل الكلاسيكي رغم كل ما يقال"(355) فالسياب هنا ينهل من بحر لبيد، ويعيش متبتلاً فنياً في محرابه. ولكن المدهش له حقاً أنه استطاع تضفير هذا القالب العربي التقليدي القديم بمجموعة من الرموز اليونانية والأساطير الإغريقية حتى قال محمود أمين العالم حين قرأها: إنها "مثقلة بكثير من الأفكار غير المتمثلة تمثلاً فنياً، ويصوغ الشاعر مضامينها صياغة تكاد تقضي نهائياً على إنسانية هذه المضامين: فهي مزدحمة بالصور غير المترابطة، ولقد فرض الشاعر على بنائها حشداً ضخماً من الأساطير والثقافات، والمعاني غير المهضومة، وظل ما فرضه على القصيدة قائماً من خارج القصيدة كعمل سياسي موحد. فهي حشد من الدلالات التي لم تنجح في أن تتناسج في داخل العمل الفني، بل ظلت مضافة إليه"(356).
أقول: ومع كل ذلك صارت القصيدة تحمل ملامح السياب، وطرائقه في التصوير، بل رأى على البطل أن السياب استطاع، بعد لأي، أن يصل إلى الشكل الفني الملائم لروح العصر(357)، وإن تأثر شكلاً ومضموناً بلبيد؛ الأمر الذي جعل كل الدراسات التي وقفت عليها لم تنتبه إلى هذا التناص، ولم تشر إليه على كثرتها، بل في تلك التي أولت عناية خاصة بدرس الشكل العمودي القديم(358)؛ وما وددت التأكيد عليه من خلال تلك النماذج التي مثلت بها أن الشاعر الموهوب يمكنه دائماً أن يستلهم ويتأثر، ويستعير ولكنه في النهاية شاعر آخر لابد أن يخرج تجربته الخاصة التي تحمل شخصيته المتفردة.

  • خصوصية التجربة والغرق في نهر ليتي:
يعبر الشاعر عن نفسه تلقائياً بدون وسائط في الغالب؛ أي دون حاجة إلى شريك خارجي يساعده ويقاسمه. وهو في سبيل ذلك قد يتألم آلاماً إبداعية في أثناء ملاحقة اللغة بحيث تصير ذاتية مستقلة معبرة عن وجوده وألمه ووعيه وتجربته الخاصة، ولكنه يدخل تجربته مضاء بخطاب واضح في البداية وانفعال معين لا يمكن دحضه إلا عن طريق استفراغه في نص يحمل روحه ولغته الخاصة، تلك اللغة التي يتحمل مسئوليته الكاملة عنها، وعن عناصرها ونبراتها وتكويناتها. أي تنبع اللغة من داخله، وتنبثق من نواياه ومشاريعه الخاصة فكرياً ووجدانياً. ولكن اللغة نفسها خادعة، ولها مخزون استدعائي قد يجره إلى الاستعانة بالنصوص المميزة، ويقع المونولوج الذي قد ينتبه إليه بعد ذلك أو يحذفه في التنقيح.
وربما دفعته عاطفته نفسها إلى استحضار عاطفة أخرى لآخر سكنته هذه العاطفة في صدق وحميمية وامتزاج، وتتجاوب مع عاطفته في الوقت نفسه، وسبق للآخر أن عبر بنجاح عما يصبو هو إليه؛ فيقع بقصدية، أو بلا قصدية تحت تأثير هذا الأنموذج المثالي الأخاذ. ولكنه سرعان ما يضيق بفعل الحرص على الاستقلالية والتميز والوجود الشعري المنفرد والمتفرد، فيسعى إلى تلوين هذه العاطفة بلون عاطفته هو؛ إما بتكثيفها، أو بتبرير دوافعها، أو بتفصيلها، أو بتحويلها. بل قد يندفع إلى السخرية منها إذا ما اجتاز مرحلتها، وانتقل إلى مرحلة أخرى تالية لها، وبخاصة عند الاستدعاء اللغوي الذي لا يستدعي اللغة مجردة بمعانيها وشحناتها العاطفية الخاصة، بقدر ما يستدعي وعيها التاريخي والأيديولوجي والعاطفي في نصوص أخرى مخزونة في ذاكرة المبدع، وتلح عليه بالاستعانة والحوار والتنضيد مع لغته الخاصة وإخضاعها للظرف الاجتماعي والتاريخ والثقافي الذي يسيطر عليه، وبخاصة عندما يكون لهذه العاطفة أو لهذا التركيب اللغوي حضور مميز وطاغ في الثقافة حتى لو كان يرفضها، أو له منها موقف يستدعي السخرية أو التعالي أو الرفض، ولكنه في كل الأحوال لن ينجو من إلحاحها.
وهذا كله في النص المميز، وليس في النصوص الصغرى التي تحاول أن تنشأ وتنبني على أساس من نصوص كبرى صارت قارة ومشعة. وينبغي في النهاية أن ينجح الشاعر في صهر كل ما يدخل في نصه الخاص(359) ولا يغرق في نهر السابقين، أو على حد قول باختين: "إن كل ما يدخل في العمل الشعري، عليه أن يغرق في مياه نهر ليتي(360). "فكما تجاوز لبيد البيئة الزمانية؛ رأينا تجازو البيئة المكانية؛ فقد أثرت حكمته في رثائه أربد في شعراء الأندلس؛ فالصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن الكلابي (ت142هـ) كان أن يشتبك من أجل ماله مع طيء، ولكن حكمة لبيد فرضت نفسها وامتصت ثورته؛ فصاغ معناه في نتفة تمزج بين الحدة الشخصية والانفعال التلقائي والحكمة العاقلة(361):
ألا إن مالي عند طي وديعة ولابد يوماً أن ترد الودائع
سلوا يمناً عن فعل رمحي ومنصلي فإن سكتوا أثنت على الوقائع
ومن ذلك ما نجده عند ابن سناء الملك (ت608هـ) الذي امتص بيت لبيد في بائيته:
وفارقته والود بيني وبينه بحسن الثناء من وراء المغيب(362)
وفي تجربة غزلية رقيقة يحاول ابن سناء الملك أن يساوي بين موقفه وموقف حبيبه الذي ودعه، فتفرض الذكرى المستديرة نفسها؛ وينسج على موسيقى البيت ومعناه تجربته، وربما تم ذلك عن طريق اللاوعي؛ فبسط بيت لبيد في قصيدة كاملة؛ لما في هذا البيت من كثافة شعورية وامتلاء بالمعاني، ولبيد نفسه بنى تجربته ومعاناته، وحكمته التي خرج بها في حياته الطويلة. فيقول ابن سناء الملك في مطلع قصيدته(363):
تركت حبيب القلب تهمي جفونه علي كما تهمي عليه جفوني
وفارقته والوصل يبدي حنينه إلي كما يبدي السرور حنيني
وقاطعته طوعاً وكرهاً ولا أرى كأعجب من سمح به وضنين
ومن ذلك ما جعله ابن بسام النحوي من سرقات المتنبي؛ وهو قوله:
وإن نقع الصريخ إلى مكان نصبن له مؤللة دقاقاً
ورآه من قول لبيد(364):
فمتى ينقع صراخ صادق يحلبوه ذات جرس وزجل
وهو ليس بالسرقة ولا شبيهاً بها، وإنما هي الذكرى المحتومة التي تسربت من شعرية لبيد بوصفه أحد صانعي دساتير الكتابة الشعرية إلى غيره من شعراء العربية على مر العصور والأصقاع في موضوعات بعينها؛ الأمر الذي جعل الشاعر الكويتي عبد الله العتيبي (ت1995م) يقرنهما معاً في قصيدته "بين يدي أبي العلاء" من ديوانه "مزار الحلم" بوصفهما نموذجاً للحكمة الصادقة، والحزن العميق في كبريائهما وانكسارهما أيضاً(365).
ومن حكمه التي تمثل بها عمرو بن العاص في رده على ابن عباس، رضي الله عنهما وقت مناظرته مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في محاولة من عمرو أن ينبه معاوية على أن ابن عباس رضي الله عنه يخدعه بلسانه، وقال: والله ما أحبك طرفة عين قط، وإنكن وإياه لكما قال لبيد(366):
وقد كنت جلداً في الحياة مرزاً وقد كنت أنوي الخير والفضل والذخر
وتسلل منطق البيت إلى شعراء الغزل للتعبير عن آلامهم بعد فقد أحبابهم؛ فها هو ذا أحدهم يصرخ ملتاعاً في حوار شعري يبث من خلاله آلام الهوى ولوعة الفراق(367):
وقائلة لما رأتني مدلها أناديك تارات وأبكيك تارات
لقد كنت جلداً للرزيات قبلهافقلت لها ليست كإحدى الرزيات
أصاب بك الدهر الرزية واشتفى بيومك من أيام لهوي لذاتي
ومن يطالع قصيدة صالح بن عبد القدوس(368):
المرء يجمع، والزمان يفرق ويظل يرقع والخطوب تمزق
ولئن يعادي عاقلاً خير له من أن يكون له صديق أحمق
فاربأ بنفسك أن تصادق أحمقاً إن الصديق على الصديق مصدق
وزن الكلام، إذا نطقت، فإنما يبدي عقول ذوي العقول المنطق
ومن الرجل إذا استوت أحلامهم من يستشار، إذا استشير، فيطرق
حتى يحل بكل واد قلبه فيرى ويعرف ما يقول وينطق
لا ألفينك ثاوياً في غربة إن الغريب بكل سهم يرشق
ما الناس إلا عاملان: فعامل قد مات من عطش وآخر يغرق
والقصيدة وإن كانت في جملتها جذابة بتوالي حكمها وقالبها الموسيقى في إطار بحر الكامل وقافية القاف برصانتها؛ فإنها تذكرنا، لا محالة، بقصيدة لبيد العينية المشهورة، وبخاصة في طريقة بنائها اللغوي والتركيبي ومعانيها الحكمية369)
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وقد كنت في أكناف جار مضنة ففارقني جار بأربد نافع
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا وكل فتى يوماً به الدهر فاجع
فلا أنا يأتيني طريف بفرحة ولا أنا مما أحدث الدهر جازع
وما الناس إلا كالديار وأهلها بها يوم حلوها وغدوا بلاقع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وما البر إلا مضمرات من التقى وما المال إلا معمرات ودائع
وما المال والأهلون إلا وديعة ولابد يوماً أن ترد الودائع
ويمضون أرسالاً ونخلف بعدهم كما ضم أخرى التاليات المشايع
وما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
إنه سحر النزول في نهر ليتي، الذي نجد مثاله في قول علي بن الجهم (ت249هـ):
قومي أولئك إن سألت وإنمايجلو العمى عنه اللبيب السائل(370)
فهي وإن خالفت في الإيقاع الموسيقي، فإنها لا شك تردنا إلى قول لبيد:
أولئك قومي إن سألت بخيمهم وقد يخبر الأنباء من كان جاهلاً(371)
وواضح جداً أن ابن الجهم قد مر بنهر لبيد وغيره قبل إبداع هذه القصيدة، وهو ما نكشفه من بداية مطلع هذه القصيدة التي يأتي على هذا النحو:
إن كنت جاهلة بقومي فاسألي أين النبوة والقضاء الفاصل(372)
وهو يقع في إطار عجز بيت لبيد، وإن كان المعنى معروفاً عند غيره، ولكن سيطرة سحر لبيد على علي بن الجهم في شعره، تجعلنا نتوقف عند صورة لبيد التي تختفي وراء هذه الصور، وهي صور خفية دقيقة، يمكن أن تحضرنا أو لا تحضرنا، بخلاف ما ينقله لنا أبو علي القالي، مما قرأه لعبد الرحمن بن زيد:
غشوم حين يبصر مستقاد وخير الطالبي الترة الغشوم(373)
وهي قصيدة حكمية يمدح فيها الأخوة المتجسدة في أحد من يعرفهم من الموتى المتمسكين بأصول الأخوة، وواجباتها، وما تتطلبه من دفاع عنها، وموقفه مع صديقه عند افتراض الواقع معكوساً؛ فإنه لم يكن لينام ولا أن يستريح إلا بعد أن يأخذ بثأر صديقه، وينتقم من قاتليه، ثم يأتي هذا البيت في الختام متوجاً نصائحه وتجربته، وكونه من قول لبيد:
غضبنا للذي لاقت نفيل وخير الطالبي الترة الغضوب(374)
فأثر لبيد واضح لا يحتاج إمعان نظر من متلقٍ خبير؛ إنه الغرق في نهر ليتي؛ أو الغرق في نهر لبيد.
  • التناص والسيميائية:
النص في تعريف كريستيفا في المجمل هو فسيفساء من نصوص مختلفة، أدمجت بآليات مختلفة بحيث امتص النص نصوصاً أخرى منسجمة مع فضائه البنائي ومقاصده، بما يمكننا أن نقول: إن النص يستخدم علامات رمزية مركوزة سلفاً في الوعي الجمعي. وهو ما دفع جوليا كريستيفا نفسها أن تربط بين العلامات اللغوية القائمة في النص والعلامات المستعارة الدالة على التشابك بين النصوص(375). ومن هذه الآليات التناصية التلميح؛ وهو: أن يشير الشاعر في فحوى الكلام إلى قصة أو شعر، أو مثل سائر، أو نكتة مشهورة، أو بيت شعر حفظ لتواتره، أو إلى مثل سائر يجريه في كلامه على جهة التمثيل، وأحسنه، وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود. وسماه قوم: التمليح، بتقديم الميم، كان الشاعر أتى بنكتة زادته ملاحة(376)، ويدل أيضاً على الإطار الثقافي والشعري للشاعر، وكثرة مصادر شعره، ومدى إفادته منها في إبداعه الشعري. ومن التلميح اللافت قول أبي نصر الكاتب، ناقلاً موقف لبيد من أربد إلى موقفه من محبوبته كعادتهم في نقل المعنى من غرض إلى آخر(377):

وما أنس إذ ودعتها يوم أقبلتك بلقيس حيري وسط صرح ممرد
وأدمعها تحكي دموعي، وأدمعي دموع لبيد عند فقدان أربد
يمكننا أن نحمل هذا التلميح، بالاصطلاح القديم، على المصطلح الجديد السيميائية الذي يهتم بدراسة حياة العلامات داخل الحياة الاجتماعية، ولم يكن الالتفات إليه وليد العصر الحديث، بل هو مفهوم يضر بجذوره في التاريخ، كان له إرهاصات قديمة ثم تطور حتى وصل إلى صورته الحالية؛ فله جذور في الآداب الأوربية والعربية القديمة منذ أفلاطون وأرسطو، ومحاولات الرواقيين (stoiss) في القرن الثالث قبل الميلاد، وما ذكروه عن العلامة بجانبيها: الدال (signifa) والمدلول (signifie)، وصياغة فيلسوفها إينيسيديموس (AeneSidemus) في القرن الأول قبل الميلاد، حول تحليل العلامات، وتصنيفها عد الناقد البلاغي شيشرون (Cicero) حيث ميز بين العلامة العامة والعلامة الخاصة، والفيلسوف سيكتوس أمبريكوس (Sextus Empiticus) في القرن الثاني الميلادي بتصنيف العلامات المستترة، كما قام جالنيوس (Galen) أيضاً بالتمييز بين العلامات العامة والعلامات الخاصة التي اهتم بها شيشرون، ونجد في كتابات القديس أوغسطين (354- 430م) تعريفات للعلامة ضمن أبحاثه في التأويل إلى أن قام جوتفرد لاينتز (Gottfried Leibniz)، بكشف دور العلامات في المنهج العلمي(378) ولا عجب بعد ذلك أن نجد الشاعر العربي القديم المكني أبو علي محمد بن الفرج بن الأخوة، أحد شعراء الخريدة حين ينقل معنى الحزن على أربد من الرثاء إلى الغزل بإجادة(379):
أقول لأحبابي وللعيس وقفة وللبين فيما بيننا نظر شزر
هبوني لعين مات فيكم رقادها فليس له فيها حياة ولا نشر
لقد بلغت منا النوى ما تريده وفرق ما بيني وبينكم الدهر
بكيت على عصر الشباب الذي مضى بكاء لبيد ضم أربده القبر
فأثمر دمعي بالغرام كأنما عليه لسيما دمعه ورق خضر
يشير إلى أن بكاء لبيد صار سيميائية دالة في الإطار الثقافي الشعري على الحزن الصادق العميق، وليس هذا البيت شاهداً يتيماً للتدليل، وإنما المقصد أن لبيداً نفسه تحول من شخص إلى سيميائية دالة على معان بعينها في الشعرية العربية عبر تاريخها الطويل الممتد.
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.96 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]