عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 10-04-2019, 11:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي لبيد والذكرى المستديرة ( مرايا السيرة، وأصداء النص)

لبيد والذكرى المستديرة


( مرايا السيرة، وأصداء النص)



الدكتور


محمد سيد علي عبد العال





مقدمة:


من المعلوم أنه لا توجد كلمة على حالتها الطبيعية ما دامت قد وجدت في سياق يوفر لها حواراً داخلياً (Monolog) مع قريناتها داخله، وحواراً آخر خارجياً (Dialog) توفره لها ظلالها المستمدة من سياقات أخرى، بعضها مشع بطاقات إيحائية، ونسقية تضمن لها سرعة الحوار، والتواصل مع المتلقي، وبعضها مضمر تتفاوت الحوارات معه تفاوتاً بيناً بقدر ثقافة المتلقي، وقدرته على قراءة شفرة النص، وظلال الكلمة.
هذا الحوار الخارجي (الديالوج) يأتي من كون الكلمة؛ كما يرى ميخائيل بأختين (MikhilBakhtin)، تشق طريقها عبر تناغمها مع كلمات الآخرين التي تستدعي معها سياقاتهم ولحظاتهم ليصير موضوع الكلمة متجاوزاً الزمن الحاضر إلى الماضي المتحاور معه، والمستقبل الذي سيستمر مع قدرات المتلقي على غزل السياقات، وربطها، وإيجاد علاقات متخيلة، أو ممكنة لها؛ مما يجعل للنص مستقبلاً بما يحمله في أعماقه، وحواره مع نصوص أخرى لاحقة، فما من كلمة يمكنها أن تطرق موضوعاً إلا بعد أن تلتقي بكلمات الآخرين، وتدخل في حوار حي، ومتوتر، وتفاعل متبادل بينها(1).
ولعل هذه الفكرة –التي عرفت بحوارية باختين- هي التي ولدت فيما بعد ما صكته الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا (Julia Kristive) بالتناص (Inter Textuality)؛ فعولج من أطراف عدة، ولكن ظلت فكرة التركيز على المبدع المتأثر هي المسيطرة غالباً على الدرس الأدبي والنقدي، اللهم إلا بعض الدراسات التي اهتمت باستدعاء الشخصية في الشعر، وركزت على استدعاء شخصية شاعر معين في الشعر العربي الحديث؛ كتلك التي درست أثر عنترة وامرئ القيس، والمتنبي، والمعري خاصة على شعراء العصر الحديث بالتحديد(2).
وربما كان السبب في ذلك إشارة المرحوم علي عشري زايد في دراسته الرائدة عن استدعاء الشخصية التراثية، وتأكيده فيها أنها ظاهرة خاصة بالعصر الحديث "على نحو لم يعرفه شعرنا من قبل في أي عصر من عصوره حتى أصبحت سمة من أبرز سمات هذا العصر"(3).
ومع مكانة لبيد وعناية القدماء بشعره ومنزلته(4)، وهو من جلة الصحابة في الإسلام؛ فإن دراساتنا الحديثة أهملت لبيداً أو كادت(5).
ومع الكثرة النسبية للدراسات التي درست أثر شعراء الجاهلية في الشعر الحديث، لم تتوقف دراسة عند أثر لبيد بن ربعية خاصة، وظل أثر لبيد وشعره في المدونة الشعرية مغبوناً في الدرس النقدي، اللهم إلا ما جاء في إشارات سريعة عابرة بوصفه أحد الشعراء المخضرمين.
سؤال البحث:


ما مدى انعكاس سيرة لبيد وشعره في مرايا المدونة الشعرية العربية؟ وكيف ترددت أصداء نصوصه الشعرية في شعر الشعراء اللاحقين به؟ وليس مرادي، هنا، التأثير على مستوى تلقي السياقات الشعرية فحسب، بل على مستوى السياقات الثقافية والحضارية المحيطة بالنصوص؛ لمعرفة أطوار الشعرية العربية تلقيا وإبداعاً من خلال حوارات معاني الشعراء، وصورهم مع الشاعر بوصفه حكاية من ناحية، وكيفية اشتغالات معانيهم، وأخيلتهم مع شعره بوصفه شاعراً من ناحية أخرى، وأصداء ذلك على بنية نصوصهم الشعرية المتواشجة مع سيرة لبيد وشعره لغوياً وبلاغياً وإيقاعياً وفنياً، ومدى توفيقهم في ذلك.
تمهيد:


1. ومضة لسيرة طويلة:
يمكن تلخيص سيرة لبيد بن ربيعة باختصار اضطراري في أنه أحد شعراء المعلقات السبع، وأحد الخمسة الكبار المتفق عليهم بين حماد الراوية والقرشي، والشاعر الوحيد منهم الذي أسلم حقيقة، وحس إسلامه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم(6)، واقترن اسمه؛ شأن الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، بالدعاء له برضا الله عز وجل في كتب التراجم والأدب والتاريخ بوصفه صحابياً جليلاً رضي الله عنه(7)، وامتد هذا التقدير والإجلال إلى ابنتيه من بعده. وثبت في الصحيح أنه، وعدي بن حاتم، أول من وصف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأمير المؤمنين(8). وشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب: "أصدق كلمة قالتها العرب"؛ وهي قوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل(9)، الذي استحسنه، وأثنى عليه، واتخذ منه النقاد القدماء شاهداً على فضل الشعر(10).
طال عمره في حسن سيرة، ومات في إمرة عثمان رضي الله عنه بالكوفة، وهو ابن مائة وخمسين سنة، سنة اثنتين وأربعين، وعرف بالتقوى والورع؛ مما حدا بكثير من الرواة أن يذكروا أنه لم يقل في الإسلام سوى بيت واحد، اختلفوا عليه، والصواب أنه قال في الإسلام كثيراً من شعره ومراثيه في أربد أخيه خاصة بلا شك. ومهما اختلف الرواة حول نسبة بعض القصائد؛ فإن ثمة إجماعاً على إسلامية أكثرها، ويؤكد ذلك أثر القرآن الكريم والحديث الشريف في نسيجها، وروحها الإسلامية الخالصة(11).
كل ذلك كاف لأن يتأثر به بعض الشعراء، ولكن سيرة لبيد الثرية ذات التجارب الكبرى الأصيلة، وشاعريته الفريدة، وسمات شخصيته القادرة على التراسل مع موضوعات إنسانية لا تنفد، جعلت تأثيره قوياً في الشعرية العربية بشكل لافت لم تفرد له، فيما أعلم، دراسة من قبل.
2. لبيد وذكرى بروست:

وإذا كان لكل شخصية وهج في سيرتها يمكن أن يكون مفتاحها أو سر عبقريتها، فإن شخصية لبيد اتسمت ببعض التيمات المتوهجة والمغرية بالتأثر، حتى صارت ذكرى لبيد، في سياقات بعينها، كأنها الذكرى المستديرة التي يتحدث عنها الناقد الفرنسي رولان بارت (Roland Barthes 1915- 1980م) عن أثر قراءة الروائي الفرنسي مارسيل بروست (Marcel Broust 1871- 1922م) الطاغي في فلوبير (Gustvel Flaubert 1821- 1880م) وغيره من الأدباء بما يمكن أن نسميه الشخصية الأيقونية التي تعد دستوراً في الكتابة بما تمثله من مرجعية مشحونة بطاقات إيحائية؛ إذ تبث اللغة من روحها بما لا يمكن الفرار منه عند الكتابة الملتبسة بها، والمتقاطعة معها في الإبداع وصفاً، وإنشاءٍ. "ولقد قرأت في مكان آخر، ولكن بالطريقة نفسها: أشجار التفاح النورماندية المزهرة عند فلوبير، وذلك انطلاقاً من قراءتي لبروست، وإني لأتذوق سلطان الصياغات، وانقلاب الأصول، والمرح الذي يأتي بنص سابق من نص لاحق. وأني لأفهم أن مؤلفات بروست الأدبية، إنما هي مؤلفات مرجعية، هذا على الأقل بالنسبة إلي.
كما أفهم أيضاً، أنها نسق إنتاجي عام، ورسم تأملي لنشأة الكون الأدبي كله. وهكذا كانت رسائل مدام دي سي فينيه بالنسبة إلى جدة الراوي، وهكذا، أيضاً، كانت روايات الفروسية بالنسبة إلى دون كيشوت، الخ. وإن هذا الأمر لا يعني بتاتاً أني مختص ببروست: فبروست هو من يأتيني، وليس هو من أناديه. إنه ليس سلطة، ولكن مجرد ذكرى مستديرة. وهذه هي خاصية النص المتداخل: إنها استحالة العيش خارج النص اللامتناهي، ولا فرق في ذلك: أن يكون هذا النص هو بروست، أو الجريدة اليومية، أو شاشة الرائي: فالكتاب يبدع المعنى، والمعنى يبدع الحياة"(12).
وأستطيع بعد ذلك أن أقول: إن المناطق المتوهجة في سيرة الشاعر كلما كانت حادة، ومثيرة، ومتباينة إلى حد المفارقات، كانت أقوى تأثيراً، وأكثر إغراء بالتأثر، والاستلهام، والاستدعاء والحوار، وما يماثل هذه المصطلحات من أشكال التناص مع الشخصية الشعرية.
3. تيمات السيرة المتوهجة:


لست في حاجة إلى الإفاضة في ترجمة لبيد المتوافرة، والمتواترة في كتب الأدب والتراجم، يمكنني فقط أن أتوقف أمام بعض التيمات المثيرة والجذابة المغرية بالاستلهام في الشعرية العربية عبر نماذج دالة.
تتسم سيرته بسمتين في غاية الإغراء بالتأثر؛ هما الحدة في صفاء الصفة، وتمكنها من صاحبها؛ كالكرم الفياض، والإخلاص النادر لأخيه رغم جرمه، الثانية: وجودها قوية مع وجود غيرها؛ بما يوحي بالتناقض وثراء الشخصية، واختلاف وجهات النظر حولها؛ كالحكمة والجهل، أو الإسلام القوي والارتباط بأهل الشرك والوثنية؛ كعمه ملاعب الأسنة، وأهله الجاهليين، أو طول العمر مع الإشعار بالزهد في الحياة والحرص على مغادرتها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يرصد البحث تجاوز الشعراء سيرته إلى شعره، وكيف حاورت أشعارهم سيرته وشعره؛ فجاءت متواشجة معهما بكل صور التواشج عبر آليات مختلفة ومتنوعة؛ بالنقض، والتحوير، والتحويل، وقلبها للضد، ونقلها من معنى إلى آخر، ومن غرض إلى غرض مخالف، ومن عاطفة إلى أخرى، ومن سياق إلى آخر.
وقد تشغل شخصيته بعض الشعراء أكثر من نصه أو العكس، وقد يفلحون في الحوار مع النص الكلي الذي يصير لبيد نفسه جزءاً منه. وربما يخفقون في ذلك، وهو ما سوف يكشفه البحث عبر مراحله.

أولاً: مرايا السيرة:

1- الفحل الحزين:
أ- فحولة غامضة: لبيد أحد الأربعة الذين اقتسموا ناقة الشعر حسب شهادة الفرزدق (همام بن غالب ت110هـ) الذي دعته شاعرية لبيد إلى أن يسن سنة لم تسن لغير لبيد من شعراء الدنيا، وهي أن يسجد لشاعريته سجدة يسميها الفرزدق سجدة الشعر(13). ومع ذلك تناقضت الروايات حول شاعريته بشكل حاد؛ فالأصمعي (عبد الملك بن قريب ت216هـ) يصف شعره بالطيلسان الطبراني المحكم الصنعة، ولكن بلا رونق، ويصفه أبو عمرو بن العلاء (ت154هـ) برحى البزر لخشونته، وعدم حسنه في السماع، في الوقت الذي يراه ابن سلام الجمحي (ت231هـ) عذب المنطق، رقيق حواشي الكلام، ويقرن ذلك بصدقه وإسلامه(14).

وهناك روايات كثيرة تروى عن شاعرية لبيد، وأن العرب لم تكن تعدل به أحداً؛ وما زالت أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، تبدي إعجابها البالغ بشعره، وتدعو الله له حتى روت من شعره ألف بيت(15). ورأى طه حسين معلقته أنموذجاً للتماسك النصي، أو لما أسماة بالوحدة المعنوية والنظام الشعري المتسق البديع(16)، أن ما يحددها به محمد زكي العشماوي بوحدة الموقف الإنساني(17). ويرى كمال أبو ديب أن رؤياه للوجود تعد ركيزة أساسية في الشعرية العربية،(18) ورآه ذو الرمة (ت117ه) أشعر الناس(19). وهو عند النابغة الذبياني وبشار بن برد (ت168هـ) أشعر العرب، وعني اللغويون والرواة بشعره أيما عناية، حتى اندهش بعض الباحثين من هذا الإعجاب منقطع النظير لشعر لبيد لدرجة ترتفع به إلى منزلة التالية والربوبية(20)، ولكنهم لم يتوقفوا عند صدى سيرته وشاعريته عند الشعراء العرب قدامى ومحدثين.
وفي العصر الحديث ترجم (وليم ربولك) معلقته في مائة وسبع وسبعين صفحة عام 1974م، وأبى ألا تترجم إلا فوق حروف ذهبية منقوشة فوق النص العربي الذي رسم حروفه خطاط مصري موهوب. ويفسر سهيل بن سالم ذلك بأنه أبدع نصوصاً خالدة في أوضاع الإنسان ومأساته في الحياة، كانت في لمعان البرق الذي يخترق كبد السماء، ويمزق أوصال الظلمة، نصوصاً تترقب الحياة وهي تنفلت من بين أيدي الإنسان، والموت يختبئ خلف المجهول؛ فلبيد، كما يرى، في مقدمة شعراء الجاهلية الذين وضعوا نصوصاً إنسانية خالدة لها طابع العالمية(21).
من هنا كان يجب على هذه الدراسة أن تكشف أصداء هذا الفحل الحزين سيرة ونصاً.
ب- الشاعر المثال: أعجب الشعراء بشعر لبيد حتى جعلوه مضرب المثل في الشاعرية؛ فهو عند ابن الرومي (علي بن العباس بن جريج ت283هـ) مثال لأئمة الشعر(22):

فيك قالت أئمة الشعر ما قال لت بلا رؤية ولا لقيان

كامرئ القيس قرمهم وزهير وزياد أخي بني ذبيان
وكأوس فصيحهم ولبيد وعبيد أخي بني دودان
فلبيد، عنده، في ذرا الشعرية العربية، وصنو الفحول الكبار المشهورين(23)؛ ولذا فهو القمة التي يضرب بها المثل في صعوبة الوصول إليها. يقول ابن سناء الملك (550- 608هـ) مفتخراً بشاعريته، واضعاً لبيداً في القمة المستحيلة(24):
لو لم أكن أشعرها لم أطق نظماً لبيت ولو أني لبيد
وكان الإمام الشافعي (محمد بن إدريس ت204هـ) سباقاً إلى ضرب المثال في الشاعرية بلبيد حين علل ترفعه عن قول الشعر، مفتخراً بفصاحته أمام الذين أرادوا أن يتعالوا أمامه، رحمه الله، بفصاحة إمامهم أبي حنيفة (النعمان بن ثابت ت150هـ)(25):
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
ويستغل ابن قلاقس (ت567هـ) قصة الوليد بن عقبة، الذي حاول أن يساعد ابنتي لبيد على البر بقسم والديهما، والوفاء بنذره في الذبح وتوزيع اللحم كلما هبت الصبا؛ ويحاجج ممدوحه ياسر بن بلال بأنه إن لم يرق هو إلى قامة لبيد، فإن ممدوحه جدير بأن يرقى إلى منزلة الوليد بن عقبة(26):
وإن لم أغد فيك لبيد عصري فكن لي أنت وفقت الوليدا
فالوصول لقمة لبيد الشعرية مستحيل، أو في حكم المستحيل، في حين أن الوصول لقامة الوليد في كرمه وجوده ممكن ميسور. وبالرغم من قلة مدائح لبيد نسبياً، فإن الشاعر الأندلسي أبا عامر الأصيلي يرثي الوزير الفقيه أبا عبد الله محمد بن إبراهيم الفهري، مستبعداً أن يكون فيمن بقي بعده من يستحق مديح لبيد في قوة شاعريته وشاعرية المهلهل(27):
وفي من يحاك المدح جزلاً أنما أتى عن لبيد قوة مهلهل
ورأيي أنه لم يقصد بذلك المديح، بل الرثاء لما خلد به لبيد ذكر أخيه أزبد، والمهلهل ذكر أخيه كليب وائل، وهو ما نجد نظيره عند الشاعر الغزي (إبراهيم بن عثمان الأشهبي- ت523هـ) يمدح سديد الدولة ابن الأنباري الوزير الكاتب صاحب الحريري، وصاحب الرسائل المشهورة (ت558هـ)(28):
لملمومة لم يعيه صيد صيدها
مكارمه نقض لبيت لبيدها
إشارة وتلميحاً لبيت لبيد الذائع الذكر(29):
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
وكان لبييت لبيد تأثير كبير في الشعرية العربية، كما سيأتي الحديث عنه في موضعه، ولكن السؤال هنا: هل نستطيع أن ننسى الأوائل جملة كما دعانا الغزي؟ وهل استطاع هو أن ينساهم؟
الإجابة بالنفي قطعاً؛ لأنه بنى معناه، هنا، على نقض بيت للببيد؛ مما أكسب معناه ارتكازاً على أساس مرجعي قوي مما تركه له الأوائل.
وأبو العلاء المعري (ت449هـ) شديد الولع بلبيد، كما سيأتي مفصلاً؛ فهو عنده المثل الأعلى في الإفحام والحجاج والقدرة على هزيمة الخصم ودحره، وإسكاته بشعره، وأنه في ذلك في مقام الحطيئة (جروب بن أوس ت45هـ)، شاعر الهجاء الأشهر في عصره(30):
قضاء الله يفحمني وشيكاً ولو كنت الحطيئة أو لبيداً
فلبيد عند كثير من الشعراء الكبار هو الشاعر المثال، والقمة المستحيلة؛ كما سيظهر ذلك بتفاصيله في مواضعه.

ت- التوبة المدعاة، وخبر وفاة الفحل:
شاع عن لبيد أنه لم يقل في الإسلام إلا بيتاً واحداً؛ وتداولت بعض المصادر القديمة قرار توبته عن قول الشعر بعد إسلامه(31). وذكر ابن قتيبة الدينوري (ت276هـ) رواية تفيد ذلك، ونقلها عنه غيره. وتداول النقاد العرب النص كدأبهم في تداول النصوص كما يتداول الشعراء المعاني والصور والتراكيب والقوالب الفنية المختلفة. و"اختلف في بيته الإسلامي الوحيد بزعمهم، قال أبو اليقظان: هو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي حتى كساني من الإسلام سربالاً
وقال غيره: بل هو قوله:
ما عاتب المرء الكريم كنفسه والمرء يصلحه الجليس الصالح(32)
وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنشدني من شعرك، فقرأ سورة البقرة، وقال: ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران، فزاده عمر في عطائه خمس مائة درهم، وكان ألفين، فلما كان في زمن معاوية قال له معاوية: هذان الفودان فما بال العلاوة؟ يعني بالفودين الألفين، وبالعلاوة الخمس مائة، وأراد أن يحطه إياها، فقال: أموت الآن وتبقى لك العلاوة والفودان! فرق له معاوية، وترك عطاءه على حاله، فمات بعد ذلك بيسير.(33)"
وقد أثبتت الدراسات الحديثة خطأ هذه الرواية، وفند أكثر من باحث دعوى توبته عن الشعر في الإسلام، وفصلوا القول في الفروق الموضوعية والفنية بين شعره الجاهلي والإسلامي والمشكوك في نسبته إلى أي العصرين، ورأى أن الشعر الإسلامي أكثر من قسيميه الآخرين(34)، ومع ذلك فإن الشعراء تداولوا هذا المعنى كما تداوله النقاد. فأبو العلاء المعري يرى أنه إذا لم يوفق في قول ما يريده؛ فسيقع في الإثم الذي يضطره إلى اعتزال الشعر والتوبة عن قوله؛ توبة تشبه توبة لبيد عن قول الشعر بعد إسلامه(35):
إذا قلت شعراً لست فيه بحائب فما أنا إلا تائب كلبيد
ويؤكد أستاذنا حسين نصار في هوامش اللزوميات أن مرثية لبيد في أربد إسلامية(36) لا جاهلية، إنها توبة مدعاة.

ث- الهجاء العفيف:

لم يكن لبيد من الشعراء الهجائين، فلا يتفق ذلك وما عرف عن عفته، وخلقه الرفيع في جاهليته، وصدق صحبته في إسلامه. ولم يعرف عنه إلا هجاؤه اللاذع للربيع بن زياد خاصة، وإن أظهر فيه قدرته الفائقة على الحجاج والسخرية الكاريكاتورية، وانتصاره لقومه، واقتصاصه لهم من الربيع بعد أن فشلت كل أسلحتهم في النصر عليه، وانتزاع حقهم منه، وكما اتخذه الشعراء مثالاً على تسنم ذروة الشعرية في الحكمة والمديح والوصف والحجاج، والغوص وراء المعاني البعيدة المستحيلة، جعلوه أيضاً مثالاً للهجاء، مع أن هجاؤه قليل نادر؛ فطبيعة لبيد ذات عفاف، ووقار وتعقل وميل إلى المسالمة والموادعة، مما جعله بمنأى عن معترك الهجاء، ولاسيما بعد إسلامه وورعه، وما عرف عنه من تقوى وحسن صحبه(37). فإذا كان أبو العلاء قد قرن بينه وبين الخطيئة في قدرته على إفحام الخصم وإسكاته(38). فالفرزدق (همام بن غالب ت110هـ)، وهو من هو في هجائه وشاعريته المشهودة فيه، قد سبقه إلى ذلك حين قال(39):
ولم يستطع نسج امرئ القيس مثلها و أعيت مراقيها لبيداً وجرولاً
وهذا حكم له قيمته عندما يصدر من مثل الفرزدق؛ فإن مساواته بالحطيئة مساواة لها دلالة واضحة لما عرف عن الأخير من قدرات خاصة تميزه عن غيره في ذلك(40). على كل حال فقد كان الفرزدق شديد الولع بلبيد؛ وسيأتي بيانه في مواضعه، ولكنه أرسى الملازمة بين لبيد والحطيئة؛ مما وجدنا صداه بعد ذلك عند الشعراء؛ كما في قول البحتري (ت284هـ)(41):
ومعان لو فصلتها القوافي هجنت شعر جرول ولبيد
وأغرت هذه الملازمة العجيبة خيال الشعراء، حتى وجدنا صفي الدين الحلي (ت752هـ) يصر على ذلك، رغم اتساع البون بينهما(42):

هجنت شعر كل من عقد القاف جميعاً لا جرول ولبيد
والرأي عندي أن الجمع بين لبيد والحطيئة إنما جاء للمطابقة بين الهجاء العف الذي اتسم به لبيد في لجوئه النادر، أو القليل، إلى شيء منه، ولكنه هجاء المظلوم المضطر إلى الذب عن حياض أهله ضد الطغاة المستبدين الذين لا يرعوون، ولا يوفون بالعهود والمواثيق، ويستهينون بذوي الأخلاق؛ ويصيبهم صمت الآخرين ذوي المروءات بالغرور والكبر والعنجهية والبطر والغطرسة المستفزة(43)، على عكس الحطيئة الذي كان يبادر الآخرين بالهجاء الفاحش ظلماً وعدواناً، حتى تبارى وجهاء القوم وأشرافه في التلطف إليه بالهدايا والنعم خوفاً من أن يسبقهم لسانه(44).

ج- عبقرية لبيد وشعرية المفارقة:
المفارقة (Irnoy) في أوضح ما يمكن أن نميزها به هي تعبير يتطلب من المتلقي ازدواجية التلقي (Double Audience)؛ أي إن هناك اتفاقاً ضمنياً من أن هذا التعبير لا يصح أن نحمله على المعنى السطحي؛ لأنه مناقض تماماً للمعنى الذي يحدده السياق(45). وتتبدى المفارقة في التناقض والتعاكس بين طرفين؛ بين ما هو باطن، وما هو ظاهر، أو بين ما هو حق وما هو زائف، أو بين الجد والهزل، والمعقول واللامعقول، أو المنطق واللامنطق(46)؛ ولتوضيح ذلك أقول: لقد دأب الشعراء على المفارقة بين العبقرية والبلادة في أشعرهم؛ كما هو واضح في المدونة الشعرية العربية، ولكننا نجد أبا سعيد الرستمي (ت400هـ) ينعت لبيداً بالبلادة. ليس على معناها السطحي المستشعر من البنية السطحية، ولكن على وجه الادعاء الذي به يمكنه الفخر بنفسه وإثبات شاعريته قياساً إلى عبقرية لبيد الشعرية التي يستحيل بها أن يوصف بالبلادة، فالرستمي يفتخر بمعانيه الشعرية، ويرى أنها بلغت الغاية التي لا تبلغ، وآية ذلك أن لبيداً يقف أمامها بليداً(47):
قواف إذا ما رواها المشوق هزت لها الغانيات القدودا
كسون عبيداً ثياب العبيد وأضحى لبيد لديها بليداً
يحاول الرستمي أن يرفع مقامه في البلاغة، ليجبر أهل زمانه على الاعتراف بفضله، وجنيهم من ثمار بلاغته وشاعريته التي يدعى أنها فاقت شاعرية لبيد(48)، وقد جمع بين لبيد وعبيد مستغلاً الاتفاق الصرفي، مع القدرة على الاشتقاق من عبيد وقلب البنية في لبيد؛ ليحدث تناغماً دلالياً وإيقاعياً. ومن العجيب أن نجد العالم الدمشقي فتيان الشاغوري النحوي (ت615هـ) مفتوناً بهذه المفارقة لدرجة تجعله يكررها كثيراً(49):
خذ مدحة وافتك من مفوه بالأفوه الأودي جاءت تودي
ردت لبيداً كالبليد وانثنى عنها عبيد في ثياب عبد
ويضيف إلى لبيد وعبيد الأفوه الأودي ليشتق من اسمه مفوهاً ليزيد في البديع بالتجنيس.
ويفسر محقق ديوانه سبب هذا الانحطاط الشعري في عصره؛ هكذا" ولقد انحط الشعر في رأي الكثيرين من قرائه خلال هذه الفترة، وتحول عن غاياته الهامة التي كانت تنحصر في التعبير الصادق عن الهواجس والأحاسيس التي تتأثر بالطبيعة والحياة؛ فيصورها الشعر تصويراً صادقاً بعيداً عن التكلف والصنعة، إلى الصنعة التي تعين على تجويد الشعر وتقويمه وتهذيبه. والإجماع في رأي أصحاب الشعر على الانحطاط الشعري قد بدأ بعد أبي العلاء والشريف الرضي، ومن عاصرهما؛ أي منذ أوائل القرن الخامس للهجرة، وسبب هذا الانحطاط يرجع في الغالب إلى ولع الشعراء بالمحسنات اللفظية من جناس وطباق وتورية، واستعارة، وتشبيه (هكذا!!)، التي تحمل في طياتها المبالغة المستكرهة، والتكلف المستهجن، والصنعة الثقيلة التي تحول دون التعبير الشعري الصادق المحبب.
وعندي أن من أهم الأسباب التي دعت إلى هذا الانحراف الفني عند الشعراء في هذا العصر أن الملوك والممدوحين من الرؤساء والأمراء كان أكثرهم من أصل غير عربي، بل ربما كان الكثيرون منهم لا يجيدون فهم اللغة العربية فهماً فنياً صحيحاً بحيث كان الشعراء يضطرون إلى تبسيط أشعارهم، والتلاعب بألفاظهم لتعجب أولئك الممدوحين الذين أولعوا بالبساطة اللفظية، والمعاني السطحية التي قد تصل إلى حد التفاهة، وبالتلاعب بالمحسنات اللفظية التي كنا نعجب بها، ونصفق لها أول عهدنا بقراءة الشعر، وهو عهد البساطة والطفولة الفكرية(50)".
قق أحمد الجندي بعد كل ما ذكره من أسباب الضعف أن يستثني فتيوحاول المحان الشاغوري لأنه عالم بالنحو والأدب، وهذا تعصب ليس في موضعه؛ والدليل قائم على عكسه؛ فماذا يقول عن شاعره الذي حاول الإبداع فلم يجد إلا هذه المجانسات اللفظية؟، ومع قبولنا لها مرة فكيف نحتملها تارة، وتارة؟ حين يكرر(51):
إن لبيداً للبليد الذي شعرك لا يحسن إحساناً
كذا عبيد لك في شعره أضحى عبيداً حيثما كانا
فليست هناك إضافة تذكر؛ فلا حيلة نستشعرها، ولا لطف نمتدحه، ولكنه لا يفتأ يكرر(52):
اسمع قريضاً عند إنشادي له في الناس يجعل في العبيد عبيداً
جزل رقيق النسج راق فصاحة يثني لبيداً في القريض بليداً





ونلحظ أنه لا يحتاج من اسم عبيد بن الأبرص سوى الاشتقاق اللفظي الذي استبدل به كلمة (العبيد) للمجانسة الساذجة المكررة المملة، وادعى بعد ذلك لشعره رقة النسج والفصاحة التي ترد لبيداً بليداً، ومع ذلك لم يمل هو من تكرار هذه المفارقة المبتذلة(53):
لبيد بليد إن روى الشعر منشداً أجل وعبيد ثم أصغر من عبد
وكأنه شعر في النهاية أنه مل وأمل؛ فحاول أن يضيف إلى مبالغته اسم التفضيل (أصغر)، الذي لم يزد ابتذاله إلا فجاجة، ولا أرى أصغر من هذه الموهبة الشعرية التي لا تفتأ تكرر وتبتذل حتى الملل.
ويأخذ صفي الدين الحلي (ت752هـ) المفارقة ليصف عبقرية ممدوحه، وأنه بلغ المدى في الذائقة الشعرية، حتى لم يعد يطربه مديح إلى الدرجة التي يصير فيها لبيد بليداً لو مدحه(54):
يرنحه سمع المديح تكرما وإن لبيداً عنده لبليد
ومن المعلوم أن في تكرار المعاني دليلاً واضحاً على الضحالة الشعرية لهذا العالم النحوي، بل دليلاً أوضح على عجزه عن الابتكار، فضلاً على أن تكرار المعاني، أو الصور الشعرية للشاعر كسل فكري فاضح. فبدلاً من أن يحاول توليد معاني جديدة واختراع صور فنية، يعيش عالة على معاني غيره وابتكاراته؛ فيبتذلها(55)، ويسفهها. بل ربما ابتكر هو نفسه معنى ما أو صورة ما، ثم يعود فيجترها، ثم يزيد ويعيد من هذه الصور والمعاني المدخرة الجاهزة مرات ومرات، كما لاحظنا، متى دعته الضرورة أطل بخياله الكسول إلى تلك المعاني والصور الجاهزة؛ فيقتلها ويقضي على قدرتنا على الاستمتاع بشعره، أو إحساسنا بدهشة التلقي في القصيدة الجديدة. وقد يعمد إلى شيء يسير من التغيير الباهت مراعاة لوزن القصيدة الجديدة وقافيتها.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]