عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 28-02-2020, 11:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,971
الدولة : Egypt
افتراضي أتعجبون من دقة ساقيه؟!

أتعجبون من دقة ساقيه؟!

















بكر البعداني




الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:



فعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أجتني [وفي رواية لابن حبان رقم (7194): كان يحتزُّ] لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواكًا من الأراك، فكانت الريح تكْفؤُه، وكان في ساقه [وفي رواية لابن حبان رقم (7194): ساقيه] دقَّة، فضحك القومُ من دِقَّة سَاقي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما يضحككم؟)) قالوا: من دقة ساقيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد))[1].







وفي حديث علي رضي الله عنه قال: "أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنَ مسعود فصعد على شجرة - أمره أن يأتيه بشيء..."[2].







وبادئ ذي بدء، فيظهر لنا من سياق هذا الحديث النبوي الكريم أن ما عَنونا به لهذا المقال، هو مقتبَس من معنى هذا الحديث الشريف، لا من لفظه؛ إذ شتان بين قولنا: أتعجبون من دقَّة ساقيه؟! وبين ما ورد في هذا الحديث؛ ولذلك أرى لزامًا عليَّ، وقبل أن أشرع فيما أريد ذكره، أن أنوِّه على أمرين اثنين:



الأول: هو أن ما عنونت به لهذا الحديث، وهو قولي: أتعجبون من دقَّة ساقيه؟! قد تتابع كثيرٌ من العلماء على ذكرهم لهذا الحديث بهذا اللفظ، وأذكر منهم الآن - وعلى عجالة -: ابن كثير[3]، والقاسمي[4]، والصابوني في مختصره[5]، والإثيوبي[6]، وحافظ بن أحمد الحكمي[7]، والسلمان[8]، وغيرهم كثير رحمهم الله أجمعين.







والثاني: أن هذا اللفظ المذكور لم أره - ومع كثير بحث - في شيءٍ مما بحثت فيه من دواوين السنة، مما طالته يدي أو وقفت عليه، بل لم أرَ - أيضًا - أحدًا من المحققين - ولا سيما من أهل الحديث - نصَّ على وجوده بهذا اللفظ، فضلاً عن تصحيحه، وكل ما وقفت عليه منه هو لفظ: ((أتضحكون من دِقَّة ساقيه؟))، كذا عند المتَّقي الهندي في كنز العمال[9]، ولفظ: ((ما تضحكون؟))، في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي[10]، ولفظ: ((ما يضحككم؟)) عند أبي يعلى في مسنده[11]؛ ولذلك وجب التنويه، والله أعلم.







وبعد هذا التنبيه أقول:



لقد أراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يستغلَّ هذه الحادثة؛ حتى يبيِّن ويعلِّم الصحابة رضي الله عنهم ويضع نصبَ أعينِهم منهجًا لهم - ولغيرهم من بابِ أولى - لأمرٍ مهمٍّ تدعو الحاجةُ إليه - تصحيحًا وتقويمًا - ولا سيما في مثل هذه الأزمنة التي انقلبَت فيها المفاهيم، وتبدلَت الأحوال، واختلفت الرؤى - كما سيأتي بيانه - لكنه بهذا الأسلوب النبوي الحصيف والحكيم أثار كمًّا - كبيرًا وكثيرًا - من التساؤلات؛ كمثل:



كيفية التعامل والتعاطي مع الأمور في مثل هذه المواقف.



وما هو المنظور أو النظرة التي لا بدَّ أن تسودَ في مثل هذه المواقف؟



وأين يكمن حجرُ الزاوية الذي يُسهِم وبشكل فعَّال وفاعل في بناء نظرية سويَّة عن الشخص الماثل أمامنا؟



وما هو المفهوم الصحيح والميزان الحقيقيالذي يقاس به العبد؟



وما هو المعيارُ السليم والشرعي الذي يُرفع به الواحد منا ويوضع؟



وبأي شيء يقاس الواحد منا؟



وما هو الذي يجب أن ننظر إليه عند تقييمنا لشخصٍ ما؟



وما هو المنهجُ المنضبط والأصول التي يُرجع إليها للتعامل مع التخطئة والتصويب؟



والأمر الأهم من ذلك كله: ما هي المعايير والرؤى الشرعية في نظر الشارع لذلك كلِّه؟







كل هذه الأسئلة كانت إجابتها واضحة وضوح الشمس في رائعة الضحى أو في رائعة النهار[12]، ودون لجلَجة أو هَمهَمة، في هذا الحديث النبوي الشريف، رغم اختصاره، وقلة كلماته.







إنها وبدون أدنى عناء، أو لَبْس أو خَفاء: ((والذي نفسي بيده، لهما أثقلُ في الميزان من أُحُد)).







وحتى يتضح الأمر: فإن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ذلك الصحابي الذي كانت ساقاه كما علمتَ من هذا الأثر، والذي جاء في ترجمته أنه - أيضًا - كان[13]: رجلاً نحيفًا، قصيرًا، شديد الأُدْمة، أحمش الساقين، لطيف الجسم، ضعيف اللحم، كما ذكروا أنه كان نحيفَ الخَلق، وكان إذا مشى يُسَامِت الجلوس[14]، أو يوازي بقامته الجلوس[15]، إلا أنه ومع كل ذلك ساقاه فقط رضي الله عنه في نظر الشارعِ وميزانه أثقلُ من جبل أُحُد، فكيف بما سواهما؟! وكل ذلك لأن نظرَ الشارع لم يكن - أبدًا - إلى تلك الصفات الموسومة في ذلك الصحابي والظاهِرة عليه، ولم يكن - أيضًا - من خلال تلك الأوصاف التي قد تبدو عند أهل النظرِ القاصِر من العيوب[16]، ولا إلى ذلك الجسد الموصوف بجميعِ تلك الصفات السابقة والبادية للرائي لأوَّل وَهْلَة، بل إلى شيء آخر تمامًا - يغفل عنه الكثير - ولأن هذه - أعني: النظرة إلى الشكل الخارجي والاكتفاء بها - والاستدلال بتلك الأمور الظاهرة "الخَلقية" على الأمورِ الباطنة الخفيَّة، إنما هي نظرةٌ قاصرة لذوي النظرات السطحية، التي يترفَّع عنها الشارعُ الحكيم، ويبرأ منها الإسلامُ الحنيف، والدين القويم.







ذلك لأن الله عز وجل إنما ينظرُ إلى قلوب العباد وأعمالهم، وبقدرهما تكون موازينُ أجسادهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله لا ينظرُ[17] إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالِكم))؛ أخرجه مسلم[18].







وفي رواية في الحلية[19]: ((إن الله لا ينظر[20] إلى صوركم ولا إلى أجسامكم)).







وقد ذكره الشيخ الألباني بلفظ: ((إن الله لا ينظر[21] إلى [أجسادكم ولا إلى] صوركم وأموالكم، ولكن [إنما] ينظر إلى قلوبكم [وأشار بأصابعه إلى صدره] وأعمالكم))[22].







ويقول صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر - أيضًا -: ((... التقوى ها هنا، التقوى هَا هنا، التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاثَ مرات، صلى الله عليه وآله وسلم))[23]، وفي رواية للطبراني[24] وغيره: ((وأشَارَ بيده إلى القَلْبِ)).







فالعبرة إذًا: ليست بكِبَر الجسم وثقله، أو حسن الصورة وعدمها يوم القيامة، بل بما جئتَ تحمله معك من أعمال صالحة؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وهذه الآية هي - في الحقيقة - كما قيل: الجامعة الفاذَّة، وهي تدلُّ على أن المعوَّل على العمل وحسب، "وهذا شاملٌ عام للخير والشر كلِّه؛ لأنه إذا رأى مثقالَ الذرة، التي هي أحقرُ الأشياء، وجوزي عليها، فما فوق ذلك من بابِ أولى وأحرى، وهذه الآية فيها غايةُ الترغيب في فعل الخير ولو قليلاً، والترهيب من فعل الشرِّ ولو حقيرًا"[25]، ولك أن تتأمَّل معي في هذه الآية أمرين اثنين:



الأول: قوله عز وجل: ﴿ فَمَن ﴾ وهي من صِيَغ العموم؛ فليس لأحدٍ أن يخرج عن هذا ألبتة، وكيفما كان جسدُه أو حاله ووصفه.







والثاني: في صيغة ﴿ يَعْمَل ﴾؛ لأنها صيغةُ مضارع، وهي للحَالِ والاستقبال، وهي من باب الالتفات؛ حيث كان السياقُ أولاً من أوَّل كما يقال؛ وذلك لأن جميع السورة في معرضِ الإخبار عن المستقبل، ثم جاء الالتفاتُ بعد ذلك بمخاطبتِهم على سبيل التَّنبيه والتحذير؛ بقوله عز وجل: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ ﴾ والمعنى: الآن في الدُّنيا.







ويؤيِّد الاستدلالَ بهذه الآية قولُه عز وجل: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [فصلت: 46]، وقوله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ﴾ [الانشقاق: 6]، وقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الطور: 16]، وقوله عز وجل: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ [الأنعام: 132]، والأدلةُ لمثل هذا كثيرة وكثيرة جدًّا، وجميعها تدلُّ على: ﴿ وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ﴾ [النجم: 40، 41]، بقطعِ النظر عن شكلِه وصورته وجسده في ذلك اليوم: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30].







إذًا: فلا يمكن بحالٍ أن نعمل - في هذا الباب - بالحكمةِ القديمة التي تقول: "يغنيك عن المكتوب عنوانه"، أو "المكتوب يظهر من عنوانه"؛ كما يقول البعض، ثم نترك هذه النصوص والقواعد العلمية والأصول المرعية؛ لأنه - وببساطة - العبرة بما في القلب ويدلُّ عليه العملُ؛ ولذلك فقد يَعظم في الميزان النَّحيل، ويخفُّ فيه السَّمين، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إنه ليأتي الرجل العظيم السَّمينُ يومَ القيامة لا يَزِن عند الله جَناحَ بعوضة، وقال: اقرؤوا إن شئتم[26]: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]))[27].







قال الشنقيطي: "وهو يدل - أي هذا الحديث - على أن نفْسَ الكافر العظيم السَّمين لا يَزن عند الله جناحَ بعوضة، وفيه دلالة على وزن الأشخاص"[28]، وقال القرطبي: "وفي هذا الحديث من الفقه ذمُّ السِّمَن لمن تكلَّفه"[29].







وقوله عز وجل: ﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾؛ المعنى[30]: أنه لا قَدْر لهم عند الله عز وجل بسبب كفرِهم، فهم أذلاَّء صاغرون حقيرون، وبالتالي فليس لهم حسنات تُوزن، فلا ميزان لهم، وهذان وجهان في تفسيرها، ولعله لذلك قال الشيخ العثيمين رحمه الله في بيان معنى هذه الآية - في بعض دروسه -: "لا قَدْر لهم عندنا ولا ميزان، وهو كنايةٌ عن سقوط مرتبتهم عند الله".







فسبحان الله! فهذا ابن مسعود رضي الله عنه نحيف الجِسم، ورجلُه أثقلُ من جبل أُحُد، وذاك عظيمٌ سمين، لكنه لا يزن عند الله عز وجل جناح بعوضة، فسبحانه كيف حكم حكمًا لا يسع ذوي العقول السليمة إلا أن يشهدوا بصحته، ويسلموا له تسليمًا؟!







عدم الاغترار بالمظاهر:



وهذا يجرُّنا إلى أمرٍ آخر أحببتُ التنبيه عليه، وهو: إياك أن تغترَّ بالمظاهر؛ فإنها قد تكون خادعةً ومخادعة، وتُظهر لك خلاف ما في باطنها، وما هذا إلاَّ لأنه قد تكون هذه السِّمات الظاهرة والعلامات السطحيَّة تحمِل في باطنها خلافَ ما قد يظهر للرائي.







ولذلك نرى النصوصَ - هذه النصوص الشرعية وغيرها - تجمع على "إبطال التأثُّر بالمظاهر التي تستجلبُ النفوس إلى مراعاتها، فيتمحَّض نظرها إليها، وتغضي بسببها عن تميِيز الحقِّ من الباطل، وتذهل عنه"[31].








ولقد أحسن من قال[32]:





ترى الرجلَ النحيف فتزْدَريه

وفي أثوابهِ أَسدٌ هَصورُ



ويُعجبُك الطَّريرُ إذا تراهُ

فيُخلفُ ظنك الرجلُ الطَّريرُ



بُغاثُ الطيرِ أطولُها رقابًا

ولم تَطُلِ البُزاةُ ولا الصُّقورُ



خَشاشُ الطَّير أكثرُها فراخًا

وأمُّ الصقر مِقْلاتٌ نَزورُ



ضعافُ الأُسْد أكثرُها زَئيرًا

وأَصرمُها اللواتي لا تَزيرُ



وقد عظمُ البعيرُ بغيرِ لبٍّ

فلم يَسْتغنِ بالعِظَم البعيرُ



يُنَوَّخُ ثم يُضرب بالهراوى

فلا عُرفٌ لديهِ ولا نَكيرُ



يُقوِّدُهُ الصَّبيُّ بكل أرضٍ

وينْحرهُ على التُرْب الصغيرُ



فما عِظَمُ الرِّجالِ لهم بزينٍ

ولكنْ زينُهمْ كرَمٌ وخِيرُ[33]










تنبيه:



نعم ليس هذا على إطلاقه؛ فقد تكون زيادةُ الجسم مما يهيب العَدو، ويُحمد في جملة من المواقف، لكن هذا لا يعني أبدًا أن هذا هو المقياس الذي يعوَّل عليه دائمًا، ويرجع إليه أبدًا في الحُكم على الأشخاص، ألا ترى أن هذا الصحابيَّ عينَه سيدنا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه والموسوم بدقة ساقيه، وأنه كان قصيرًا نحيفًا...إلخ - هو من كان رابع أربعة، لم يبقَ مع رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم أحَدٌ سواهم في يوم أُحُد، فكان منهم، يدافع عنه ويذود عنه صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما[34].







وهو هو من اعتلى صدرَ أبي جهل - فرعون هذه الأمة - ليقطع رقبته، ويحزَّ رأسه، واسمع له وهو يقصُّ علينا قصَّته، قال عبدالله رضي الله عنه: "أدركت أبا جهل يوم بدر صريعًا، قال: ومعي سيفٌ لي، فجعلتُ أضربه ولا يحيك فيه - ومعه سيف له - فضربت يده فوقع السيف فأخذتُه، ثم كشفتُ المغفر عن رأسه فضربتُ عنقه، ثم أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته، فقال: ((آلله الذي لا إله إلا هو))، قلت: آلله الذي لا إله إلا هو، قال: ((آلله الذي لا إله إلا هو))، قلت: آلله الذي لا إله إلا هو، قال: ((انطلِق فاستَثبِت))، فانطلقتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن جاءكم يسعى مثل الطير يضحك فقد صدَق))، فانطلقتُ فاستثبت، ثم جئتُ وأنا أسعى مثل الطائر أضحكُ، أخبرتُه، فقال: ((انطلق فأرني مكانَه))، فانطلقتُ معه فأريتُه إياه، فلمَّا وقف عليه حمِد اللهَ، ثم قال: ((هذا فرعون هذه الأمة))"[35]، وفي رواية أخرى أنه: (وضع رجلَه عَلى عُنُقه وأخذ لحيتَه ليحتزَّ رأسَه، وقال: هل أخزاك اللهُ يا عدوَّ الله؟! قال: وبماذا أخزاني؟ أأعمد من رجل قتَلتُموه؟ أو هل فوق رجل قَتلتموه؟ وقال: فلو غير أكَّارٍ[36] قتلني، ثم قال: أخبرني لمن الدائرةُ اليوم؟ قال: للهِ ورسولِه، ثم قال لابن مسعود - وكان قد وضع رجلَه على عنقه -: لقد ارتقيتَ مرتقًى صعبًا يا رُوَيعي الغنم، وكان ابنُ مسعودٍ من رعاة الغنم في مكة، وبعد أن دار بينهما هذا الكلامُ احتزَّ ابنُ مسعود رأسَه، وجاءَ به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...)[37].







وقديمًا قيل: بالمعاني يحصل الامتيازُ، لا بالمباني؛ ولذلك كانت نظرةُ فقهاء الصحابة وعلمائهم إليه - أعني: عبدَالله بن مسعود - أخرى تمامًا على غير ما تقدَّم من أولئك رضي الله عنهم أجمعين؛ وهذه بعضها:



فهذا عمرُ رضي الله عنه يقول - وقد أقبل عبدُالله رضي الله عنه ذاتَ يومٍ وعمر جالس -: "كُنَيِّفٌ مُلِئ علمًا"[38].







وهذا حذيفةُ رضي الله عنه يقول: "لقد علم المحفُوظُون من أصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم أن عبدَالله بن مسعود مِن أقربِهم عندَ الله وسيلةً يومَ القيامة"[39].







إذًا: فالمعول عليه دائمًا: هو الإيمان، فإيَّاك ثم إياك أن تعجبَ بِبَدانة شخصٍ، ولا بضخامة جسمه، أو حسنه، أو أن تزدري آخر لخلاف ذلك، ألا ترى أن أهل النفاقِ وُسِموا بأنَّهم ذوي أجسامٍ حسنة، وهيئات جميلة، وأقوال حسنة؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾ [المنافقون: 4]، والمعنى[40]: أي: وكانوا أشكالاً حسنة ورجالاً أجملَ شيء، وذوي فصاحة وألسنة، وإذا سمعهم السامعُ يصغي إلى قولهم لبلاغتهم، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخَوَر والهلَع والجزع والجبن.







وبعبارة أخرى[41]: أجسامُهم وأقوالهم معجبة، ولكن ليس وراء ذلك من الأخلاقِ الفاضلة، والهدى الصالح شيء، والخلاصة[42]: لهم صُوَر وليس لهم قلب.







إذًا: فلا بد أن تكون أوزانُ الناس في أعيننا وقلوبِنا ومقاديرُهم على حسب ما عندهم من إيمان، وما يملِكون من تقوى لله عزَّ وجل؛ يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13].







فاتَّضح من هذا أن الرفعةَ والفضلَ والكرم إنما هي بتقوَى الله عزَّ وجلَّ لا بغيره من الأشكال أو الصُّور أو الأجساد، أو حتى من الانتساب إلى القبائل، ولقد صدق من قال:





فقد رفعَ الإسلامُ سلمانَ فارس

وَقد وضع الكفرُ الشريفَ أبا لهب










فهذه هي الرفعةُ، وهذا هو الشرفُ، ولنعلم أنه من يذله اللهُ عز وجل فليس لأحدٍ أن يُواليه، ومن يعزه فمن ذا يعاديه، ومن يرفعه فمن يخفِضُه، ومن يخفضه فمن يرفعه وهكذا...، فليست المسألةُ - أبدًا - متعلقة بقوة البدن، أو بضعفه، وحسنه أو قُبحه، بل القوةُ المقصودة والحقيقية وكذلك الحسن: هي قوةُ القلب وقوة العمل، وحسنهما، ولنتذكَّر بأنه لأن يأتيَ أحدُنا ربَّه عز وجل يوم القيامة وقد ابتُلي في بدنه: خيرٌ والله وأهون له ألف مرة من أن يوافيه عزَّ وجل وقد ابتُلي في تقواه أو قلبه؛ لأن حياةَ القلب هي الحياةُ الحقيقية، ولطالما كان القلبُ يستمدُّ حياتَه من المحن والابتلاءات، ولما كان الأمرُ كذلك جعل اللهُ عزَّ وجلَّ البلاءَ من نصيب أنبيائه وأوليائه، فيبتليهم في أبدانهم، ثم يُلهمهم الصبرَ على البلاء، كل ذلك لتحيا قلوبُهم وتقوى ولا تموت.







فالحمد لله أولاً وآخرًا، وصلى الله على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.







[1] أخرجه أحمد (1/ 420-421)، والطيالسي رقم: (355)، وابن سعد (3/ 155)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 127)، وابن حبان رقم: (7194)، من طرق عن حماد عن عاصم، عن زر بن حبيش، عنه، قال الألباني: "وهذا سند حسن"، انظر: إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (1/ 104)، وحسنه شعيب الأرناؤوط، وله شواهد؛ ولذلك قال في السلسلة الصحيحة (6/ 570) رقم: (2750): "وهو صحيح بطرقه الكثيرة"، وانظر - أيضًا -: الصحيحة رقم: (3192).



[2] أخرجه أحمد (1/ 114)، وابن جرير (162/ 19 و20)، وأبو يعلى (1/ 409 و446)، ومن طريقه الضياء (2/ 421)، وابن أبي عاصم في الوحدان، والطبراني في الكبير (9/ 97/ 8516)، وقال ابن جرير: "إسناده صحيح"، قال الألباني: "ولعله يعني: صحيح بما قبله من الشاهدين، وإلا فقد أعله هو بعلتين اثنتين ..."، السلسلة الصحيحة (6/ 571).



[3] تفسير القرآن العظيم (2/ 247).



[4] محاسن التأويل، ويظهر لي أنه نقله عن ابن كثير، والله أعلم.



[5] وهو بهذا متابع لابن كثير، كما هو ظاهر.



[6] في شرح سنن النسائي المسمى: ذخيرة العقبى في شرح المجتبى (21/ 387).



[7] أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة (ص: 155).



[8] مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية (ص: 83).



[9] (13/ 434).



[10] (9/ 250) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى، وهي ثقة".



[11] (9/ 247) رقم: (5365).



[12] ويقال - أيضًا -: في رابعة النهار، انظر: تاج العروس من جواهر القاموس (40/ 578).



[13] سير أعلام النبلاء (1/ 416-426).



[14] البداية والنهاية (5/ 336).



[15] البداية والنهاية (7/ 163).



[16] ومن المعلوم قطعًا أن الصحابة رضي الله عنهم غير داخلين أصلًا في مثل هذا؛ لأنهم لم يقصدوا هذا - جزمًا ويقينًا - وإنما كانوا يقصدون أمرًا آخر، ولكني أعني بما قلت صنفًا آخر بات اليوم معروفًا ومشهورًا! لكن من باب: ((إنها صفية)) أحببتُ التنبيهَ على هذا، حتى لا يقوِّلَنا قائل غير ما أردنا، والله المستعان.



[17] انظر للفائدة: مقالاً لي بعنوان: من هم الذين لا ينظر الله (عز وجل) إليهم يوم القيامة؟



[18] رقم: (2564)، وأحمد (2/ 284).



[19] حلية الأولياء (7/ 124).



[20] انظر للفائدة: مقالاً لي بعنوان: من هم الذين لا ينظر الله (عز وجل) إليهم يوم القيامة؟



[21] انظر التعليق السابق.



[22] السلسلة الصحيحة؛ (6/ 328) رقم: (2656).



[23] أخرجه مسلم رقم: (6706)، وأحمد (2/ 360) عن أبي هريرة رضي الله عنه.



[24] المعجم الكبير (22/ 74).



[25] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 932) للسعدي.



[26] قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/ 426): "القائل يحتمل أن يكون الصحابي، أو هو مرفوع من بقية الحديث".



[27] أخرجه البخاري رقم: (4452)، ومن طريقه مسلم رقم: (2785).



[28] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 353).



[29] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 353).



[30] مفاتيح الغيب (21/ 502) للرازي، وزاد المسير في علم التفسير (5/ 198) لابن الجوزي، وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (3/ 352).



[31] تفسير ابن عاشور (4/ 277).



[32] يقال: إنها للعباس بن مرداس، وقيل: لمعاوية بن مالك، أخي (ملاعب الأسنة) عامر بن مالك، وانظر: الأعلام (7/ 263) للزركلي، وهذا ما اختاره البكري وصححه في اللآلي في شرح أمالي القالي (1/ 190).



[33] انظر: الأمالي لأبي علي القالي، والذخائر والعبقريات (2/ 34) للبرقوقي.



[34] سير أعلام النبلاء (1/ 416).



[35] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (3/ 488).



[36] الأكَّار: الزَّرَّاع، أراد به احتقارَه وانتقاصَه كيف مثله يقتل مثلَه؛ النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 143).



[37] انظر: أُسد الغابة وغيره.



[38] أخرجه أحمد في فضائل الصحابة رقم: (1550)، والحاكم (3/ 318) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.



[39] أخرجه أحمد في مسنده (5/ 394)، والحاكم (3/ 315) وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وفيه: أحمد بن عبدالجبار ضعيف، لكنه قد تُوبع عند غيره؛ فهو صحيح.



[40] تفسير القرآن العظيم (4/ 442 - 445).



[41] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (ص: 864).



[42] مفاتيح الغيب (28/ 150).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]