عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 25-02-2020, 05:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,915
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النقد الحديثي بين الفقهاء والمحدثين



2) الإسلام:

اشتَرَط الجمهورُ لقَبول الخبر أن يكون راويه مسلِمًا، فلا تُقبَل رواية الكافر؛ قال الرازي في "المحصول": (أجمعت الأمَّةُ على أنه لا تُقبَل روايتُه، سواءٌ علم مِن دِينه الاحتراز عن الكذب، أو لم يعلم)، فلا تقبل رواية كلِّ كافر، سواءٌ كان يهوديَّا، أو نصرانيَّا، أو غير ذلك؛ احترازًا لدِين ربِّ العالَمين مِن أن يدخلَ فيه ما ليس منه.



3) العدالة:

اشترط الفقهاء في الراوي للحديثِ أن يكونَ عدلًا، وقد عرَّف الرازي العدالةَ مبيِّنًا أركانها التي تنبني عليها بقوله: (هيئةٌ راسخةٌ في النفس، تحمِل على ملازمة التقوى والمروءةِ جميعًا، حتى يحصل ثقةُ النفس بصدقِه، ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر، وعن بعض الصغائر؛ كالتطفيفِ بالحبة، وسرقة باقةٍ مِن البقل، وعن المباحات القادحة في المروءةِ؛ كالأكلِ في الطريق، والبول في الشارع، وصحبة الأرذال، والإفراط في المزاح، والضابط فيه أن كلَّ ما لا يؤمَنُ "معه" جراءتُه على الكذب يرُدُّ الروايةَ، وما لا فلا)[28].



وهذا الشرط مُخرِج لمجموعة مِن الرواة ممن لم يتوفر فيهم هذا الشرط؛ كالفاسق والمبتدِع، وأما المجهولُ فقد اختلف فيه الفقهاء، فذهب الإمام الجويني إلى التوقُّف في خبره إذا روى التحريم، هذا في مجهول الحال، وأما مجهول العين "وهو مَن لم يشتهر، ولم يروِ عنه إلا راوٍ واحدٌ - فذهب جمهورُ أهل العلم أنه لا يُقبَل، ولم يخالف في ذلك إلا مَن لم يشترط في الراوي إلا مجردَ الإسلام".

وهذا الشرطُ كذلك هو شرط عام، لا يرتبط براوٍ معيَّن، مما يبيِّن أن الفقهاءَ لهم طريقة خاصة في التعامل مع الرواةِ ومرويَّاتهم.



4) أن يكونَ الراوي ضابطًا لِما يرويه:

أكَّد الفقهاءُ تبَعًا للمحدِّثين على ضرورة الضبط في الراوي، وهذا القيدُ مُخرِجٌ لكل وصفٍ ينافي الضبط، قال الرازي: (وذلك يستدعي حصولَ أمرين؛ أحدهما: أن يكونَ ضابطًا، والآخر: ألا يكونَ سهوُه أكثرَ من ذِكره، ولا مساويًا له، أما ضبطُه فلأنه إذا عُرف بقلة الضبط لم تؤمَنِ الزيادةُ والنقصان في حديثه، ثم هذا على قسمين؛ أحدهما: أن يكون مختَلَّ الطبع جدًّا، غيرَ قادر على الحفظ أصلًا، ومثل هذا الإنسان لا يُقبَل خبرُه البتة، والثاني: أن يقدِرَ على ضبط قِصار الأحاديث دون طِوالها، وهذا الإنسان يُقبَل منهما عُرف كونه قادرًا على ضبطه دون ما لا يكون قادرًا عليه، أما إذا كان السهو غالبًا عليه لم يُقبَل حديثُه؛ لأنه يترجح أنه سها في حديثه، وأما إذا استوى الذِّكر والسَّهو لم يترجَّح أنه ما سها، والفرق بين ألا يكونَ ضابطًا وبين أن يعرض له السهوُ: أن مَن لا يضبِط لا يحصِّل الحديثَ حال سماعه، ومَن يعرض له السهو قد يضبط الحديثَ حال سماعِه وتحصيلِه، إلا أنه قد يشِذُّ عنه بعارض السهو).



وما ذكره الرازيُّ هنا غيرُ مشابه لِما يذكر المحدِّثون عادة في حديثهم عن ضبط الرواة؛ فقد أشار ها هنا إلى اختلال الطبع، بينما لم يتناوله المحدِّثون أصلًا، ومَن تأمل كلام هذا الإمام هنا تبين له مدى استقلالية الفقهاء في طريقتهم ومنهجيتهم الخاصة في التعامل مع شروط الرواة.



الشروط المتعلقة بالمَرْويِّ:

اشتَرط جمهورُ العلماء شروطًا في الخبر المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها:

1) أن يرويَ الحديث بلفظِه؛ لأن ذلك أمانة؛ يقول الشوكاني: (إذا روى الراوي الحديث بلفظه، فقد أدى الأمانةَ كما سمعها، ولكنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله جوابًا عن سؤال سائلٍ، فإن كان الجواب مستغنيًا عن ذكر السؤال، فالراوي مخيَّرٌ بين أن يذكر السؤال أو يتركه، وإن كان الجواب غيرَ مستغنٍ عن ذكر السؤال، فلا بد من ذكر السؤال، وهكذا لو كان الجوابُ يحتمل أمرين، فإذا نقل الراوي السؤالَ لم يحتمِلْ إلا أمرًا واحدًا، فلا بد مِن ذكر السؤال، وعلى كل حالٍ فذِكر السؤال والسبب مع ذكر الجواب وما ورد على سببٍ أَوْلى مِن الإهمال)[29].

فإن روى الراوي الحديثَ بالمعنى، فإن الجمهور اشترطوا لقبول ذلك شروطًا، ومنها:

"أن يكون عارفًا بمعاني الألفاظ؛ حتى لا يغير المعنى إلى غيرِ المراد.

منهم من شرط أن يأتي بلفظٍ مرادف.

ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساويًا للأصل في الجلاء والخفاء.

وشرط بعضهم ألا يكونَ الخبرُ مما تُعُبِّدْنا بلفظه.

وشرط بعضهم ألا يكونَ الخبرُ مِن باب المتشابِه؛ كأحاديث الصفات"[30].

وهناك شروط أخرى لم يتفق عليها جمهورُ العلماء في الرواية بالمعنى.



2) أن يعملَ بالظاهر منه، ولا يرجع إلى رأي الصحابي، خلافًا للحنفية كما سبق؛ فإنهم يأخذون بما رأى الصحابيُّ، لا بما روى.

شروط مدلول الخبَر:

اشتَرط الفقهاءُ في مدلول الخبر شروطًا تدلُّ على اهتمامهم بالدلالة أكثرَ مِن اهتمامهم بالثبوت، ومنها:

1) ألا يستحيلَ وجودُه في العقل[31] أو الحس، فمتى خالف الحديثُ ما يقتضيه العقلُ أو الحس رُدَّ الحديث لذلك، والمقصود بالعقل هنا العقلُ الصريح، وقد وضع ابن القيم الفقيه بعض الضوابط يُعرَف بها ثبوت الحديث من عدمه، ومنها: (تكذيب الحس له؛ كحديث: "الباذنجان لما أُكل له"، "والباذنجان شفاءٌ من كل داءٍ"، فإن هذا لو قاله أمهر الأطباء لسخِر الناس منه، ولو أكل الباذنجان للحمى والسوداء الغالبة وكثيرٍ من الأمراض لم يزِدْها إلا شدةً، ولو أكله فقيرٌ ليستغني لم يُفِدْه الغنى، أو جاهلٌ ليتعلم لم يُفِدْه العلم، وكذلك حديث: "إذا عطس الرجل عند الحديث، فهو دليل صدقه"، وهذا وإن صحح بعض الناس سنده، فالحسُّ يشهد بوضعه؛ لأنا نشاهد العطاس والكذب يعمل عمله)[32].

وابن القيم هنا وإن تعرض للحس فإنه يقصد العقلَ أيضًا، فما خالف الحسَّ فأولى به أن يخالفَ مقتضياتِ العقول.

وهذا يبين مدى اهتمام الفقهاء في الغالب بالمدلولِ، لا بالأسانيد؛ إذ ذلك شأنُ أهلِ الحديث.



2)ألا يكونَ مخالفًا لنص مقطوعٍ به، على وجهٍ لا يمكن الجمعُ بينهما بحال[33].

إذا خالَف الحديث نصًّا مقطوعًا به، كنصٍّ قرآنيٍّ ثبت حُكمه بدلالة قطعية، أو كان ثبوته قطعيًّا، فإن الفقهاء لا يأخذون به، حتى ولو كان في الصحيحين؛ قال الأمين الشنقيطي: (ومِن أمثلته ما رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن الله خلَق التربة يوم السبت، وخلق الجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين، والمكروه يوم الثلاثاء، والنور يوم الأربعاء، وبث الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة))[34]، قال الشنقيطي: فإن هذا الحديثَ يظهَر عدم صحته من مخالفة نص القرآن في قوله: ï´؟ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ï´¾ [الفرقان: 59]؛ ولذا قال البخاريُّ وعليُّ بن المديني - وغير واحد من الحفاظ -: إنه مِن كلام كعبِ الأحبار)[35][36].



وهذا المثال وحده كافٍ في أن الفقهاء لا يقتصرون على الأسانيد، بل ينظرون إلى جوانبَ أخرى خارج ذلك؛ ولذا حكَم العلماء على هذا الحديث بالرد، وإن كان في صحيح مسلم.



3)ألا يكونَ مخالفًا لإجماع الأمة عند مَن يقول بأنه حجةٌ قطعيةٌ[37].

مما اشترطه الفقهاءُ في مدلول الخبر ألا يخالفَ ما أجمعت عليه الأمةُ؛ لأن الإجماعَ قطعيٌّ في بعض أنواعه.

وهذه أهمُّ الشروط التي اشترطها الفقهاء في الأخبار، وهي كافيةٌ في بيان الفَرْق بين أهل الحديث والفقه في التعرض للضوابط التي لا بد منها في قبول الخبر والعمل به بعد ذلك.



المبحث الثالث: نماذجُ تطبيقيةٌ في نقد الحديث بين أهل الفقه وأهل الحديث:

بعد أن أنهيتُ مرحلة التنظير، أنتقل إلى مرحلة التنزيل والتقرير، وهي مرحلة لا بد منها في توضيح حقيقة الفرق بين طريقة كلٍّ من المحدِّثين والفقهاء؛ ولذلك أحببتُ أن أعرض نماذجَ وأمثلة من كلام المحدِّثين على بعض الأحاديث، وأخرى من كلام الفقهاء على بعض الأحاديث؛ حتى ندركَ وجه التفاوت الكبير بين أهل الحديث وأهل الفقه، ونقتنع بأن طريقة المحدِّثين أجدى وأنفعُ، وأدلُّ على المقصود من طريقة الفقهاء.

المطلب الأول: نماذج مِن الأحاديث التي نقدها أهل الحديث:

ها هنا سأعرض بعضَ الأمثلة مِن الأحاديث التي تناولها أهل الحديث بالنقد، وسأكتفي بقليل منها مما يدل على المراد، ويتضح به مِن ذلك ما يستفاد.

أولًا:

عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولودٍ رهنٌ بعقيقته، تُذبَح عنه يوم سابعه ويُحلَق رأسه، ويسمَّى))؛ أخرجه أبو داود.

هذا الحديثُ ساقه الإمام عليُّ بن المَديني، وقبل أن يذكره مهَّد له بالحديث عن الحسَن البَصري، وعرَض كثيرًا من أقوال الأئمة الدالة على أن الحسَن قد سمع من سمُرة، وهي مسألة اختلف فيها علماءُ الحديث على ثلاثة أقوال، بيَّنها الصنعاني في سبل السلام أثناء كلامه عن قوله عليه الصلاة والسلام: ((على اليدِ ما أخذَتْ حتى تؤدِّيَه)) - نقلًا عن ابن حجر - فقال: (لأن الحديثَ مِن رواية الحسن عن سمُرة، وللحافظ في سماعه منه ثلاثة مذاهب: الأول أنه سمع منه مطلقًا، وهو مذهب عليِّ بن المديني، والبخاري، والترمذي، والثاني: لا مطلقًا، وهو مذهبُ يحيى بن سعيدٍ القطان، ويحيى بن معينٍ، وابن حِبان، والثالث: لم يسمَعْ منه إلا حديثَ العقيقة، وهو مذهب النسائي، واختاره ابن عساكر، وادَّعى عبدُالحق أنه الصحيحُ)[38].

ولأجلِ ما يمكن أن يشكَّ فيه الناطرُ في سماع الحسن من سمُرة، شرع الإمام علي بن المديني في إثبات سماع الحسَن من سمُرة، ثم بعد ذلك يأتي بالحديث المَسُوق أثناء ذلك، يقول الإمام علي بن المديني: (قال عليٌّ: سمع الحسَن مِن عثمان بن عفانٍ - وهو غلامٌ - يخطب، ومن عثمان بن أبي العاص، ومن أبي بكرة.

ولم يسمع مِن عمرانَ بن حُصينٍ شيئًا، وليس بصحيحٍ، لم يصحَّ عن الحسن عن عمرانَ سماعٌ من وجه صحيح ثابت.

قلتُ: سمع الحسن من جابرٍ؟ قال: لا.

قلت: سمِع الحسنُ مِن أبي سعيدٍ الخدري؟ قال: لا.

كان بالمدينة أيام كان ابنُ عباسٍ على البصرة، استعمله عليها عليٌّ وخرج إلى صِفِّين، وقال في حديث الحسن: خطبنا ابن عباس بالبصرة - الحديث أخرجه أبو داود - إنما هو كقول ثابتٍ: قدم علينا عمران بن الحصين، ومثل قول مجاهدٍ: خرج علينا عليٌّ، وكقول الحسن: إن سراقةَ بن مالك بن جعشمٍ حدَّثهم، وكقوله: غزا بنا مجاشع بن مسعودٍ.

الحسن لم يسمع من ابن عباسٍ، وما رآه قط، كان ابن عباسٍ بالبصرة.




ومِن عبدالله بن مغفَّلٍ، ومن معقِل بن يسارٍ، ومِن أنس بن مالكٍ، ومِن سمُرة بن جندبٍ، قال: وقال حبيب بن الشهيد: أمرني ابن سِيرين أن أسأل الحسَن ممَّن سمع حديثه في العقيقة؟ قال: فسألتُه، فقال: سمعته من سمُرة، قال: قال سمرة: كل مولودٍ رهنٌ بعقيقته، تُذبَح عنه يوم سابعه) [39] أخرجه البخاري في العقيقة.



وفي هذا النموذجِ الذي سقتُه عن هذا الإمام يمكن أن نستشفَّ الفرقَ الواضح بين علماء الحديث والفقهاء، فلو عُرض هذا الحديث على فقيهٍ لمَا تناوله بطريقة هذا الإمام، بل سيقول فيه: إنه مقبول أو مردود، وقد يزيد فيقول: الحسن سمع من سمرة، لكن علي بن المديني أتى بأمثلة ونماذجَ متعددة، بيَّن من خلالها أرجحية القول بأن الحسن سمع من سمُرة بن جندب رضي الله عنه.



ثانيًا:

قال الإمام الترمذي في كتابه السنن: (حدثنا محمد بن بشارٍ، ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا وهب بن جريرٍ، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالحٍ، عن مجاهدٍ، عن جابر بن عبدالله، قال: نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القِبلة ببولٍ، فرأيتُه قبل أن يقبض بعامٍ يستقبلها.

وفي الباب عن أبي قتادة، وعائشة، وعمارٍ.

حديث جابرٍ في هذا الباب حديثٌ حسنٌ غريبٌ.

وقد روى هذا الحديث ابنُ لَهيعة، عن أبي الزبير، عن جابرٍ، عن أبي قتادة: أنه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يبول مستقبِلَ القِبلة، أخبرنا بذلك قتيبة، قال: أخبرنا ابن لَهيعة.

وحديث جابرٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم أصحُّ مِن حديث ابن لَهيعة.

وابن لَهيعة ضعيفٌ عند أهل الحديث؛ ضعَّفه يحيى بن سعيدٍ القطانُ، وغيره).




وفي هذا النموذج الذي عرضتُه، تظهر طريقةُ الإمام الترمذي في بيان ضعف الحديث؛ فقد أتى بجميع طرق الحديث، وتحدَّث عن سياقاتها كلها؛ ففي السند الأول ساقه من حديث جابر مرفوعًا، ثم ذكر أن الحديث لم يروِه فقط جابر، بل رواه صحابة آخرون، حتى يعلم أنه ليس من الأفراد، ثم ذكر حُكم حديث جابر معبِّرًا عن ذلك بقوله: (حسن غريب)، ثم ذكر واسطةً بين جابر والنبي صلى الله عليه وسلم، لكنها من رواية عبدالله بن لَهيعة، وبيَّن الترمذي أن ابن لَهيعة ضعيف.



وهذه طريقةُ أهل الحديث في حكمهم على الأحاديث صحةً وضعفًا، وسأكتفي بهذينِ المثالين في بيان طريقة المحدِّثين وشروطهم في تصحيح الأحاديث أو تحسينها.



المطلب الثاني: نماذج مِن الأحاديث التي نقَدها الفقهاءُ:

في هذا المطلَب سأعرض بعضَ النماذج من كلام الفقهاء أثناء استدلالهم ببعض الأحاديث؛ حتى يمكنَ التفريقُ بين شروطهم وشروط المحدِّثين.

قال ابن رُشد الحفيد في بداية المجتهد - مستدلًّا على مسألة فقهية متعلِّقة بقراءة القرآنِ أثناء الركوع والسجود -: (حديث عليٍّ في ذلك قال: ((نهاني جبريل صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآنَ راكعًا وساجدًا))، قال الطبري: وهو حديثٌ صحيحٌ، وبه أخَذ فقهاء الأمصار، وصار قومٌ من التابعين إلى جواز ذلك، وهو مذهب البخاريِّ؛ لأنه لم يصحَّ الحديث عنده، والله أعلم)[40].



لم يتصدَّ ابنُ رشد هنا للحديث عن الرواة، أو للحديث عن هل هم مِن الثقات أو الضعفاء؟ وعن المتن هل سلِم مِن العلل أم لا؟ ولذلك لجأ إلى أقوال أهل الحديث، وفي هذا ما يبين أن عامةَ الفقهاء عالةٌ على المحدِّثين في نقدهم للأحاديث.



قال محمد بن رشد: وجه إجازة مالك - رحمه الله - للرجل أن يغتسل في الفضاء إذا أمِنَ أن يمرَّ به أحد هو أن الشرعَ إنما قرَّر وجوب ستر العورة عن المخلوقين من بني آدمَ دون مَن سواهم من الملائكة؛ إذ لا تفارقه الحفَظة الموكَّلون عليه منهم في حالٍ من الأحوال؛ قال الله عز وجل: ï´؟ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ï´¾ [ق: 18]، وقال: ï´؟ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ï´¾ [الانفطار: 10 - 12]؛ ولهذا قال مالكٌ تعجُّبًا: ألا يغتسل الرجل في الفضاء؟ إذ لا فرقَ في حق الملائكة بين الفضاء وغيره، وأنكر الحديث لمَّا كان مخالفًا للأصول؛ لأن الحديث إذا كان مخالفًا للأصول فإنكاره واجب، إلا أن يرِدَ مِن وجه صحيح لا مطعنَ فيه، فيرد إليها بالتأويل الصحيح)[41].



مَن تأمَّل كلام ابن رشد على هذا الحديث، ظهر له شروطُ الفقهاء في قبول الحديث، ومنها: ألا يكون مخالفًا للأصول؛ فابن رشد هنا فهِم من إنكار مالك للحديث أنه لأجل مخالفته للأصول؛ أي: للقياس.



ولعل هذه النماذج - على قلَّتِها - كافيةٌ في بيان شروط المحدِّثين والفقهاء بطريقة عملية تُبرز مدى الفرق بين المحدِّثين والفقهاء في نقدهم للأحاديث، وسأكتفي من ذلك بما ذكرت؛ إذ يكفي مِن القلادة ما أحاط بالعُنق، وبالله التوفيق.



الخاتمة

وبعد هذه الرحلة القصيرة في مجال البحث عن شروط المحدِّثين والفقهاء أحُطُّ الرحالَ هنا لأختم المقال بتلخيص ما سبق بيانه، واستنتاج الفوائد التي يمكن أن تُعِين في إنجاز بحث أطول عن هذه القضية التي لا تكفي فيها هذه الصفحات القليلة، فأقول - ومِن ربي أستمد المعونة والتسديد -:

خلاصات:

اشتَرط المحدِّثون في كلٍّ مِن الصحيح والحسن شروطًا دقيقة ومضبوطة، تدلُّ على تمكُّنهم من هذا العلم، وبلوغهم فيه الغاية القصوى.

حدَّد علماء الحديث ضوابطَ متعددة يُعرَف بها ضعيف الأسانيد والمتون، وبها يمكن الوقوفُ على علل الأحاديث، ومن ثم يحكم عليها.

الفقهاء غيرُ متفقين على طريقة واحدة في نقد الأحاديث؛ ولذلك وجدنا الأحناف يختلفون عن الجمهور في نقدهم للأحاديث، مما يبعث على عدم الاطمئنان إلى طريقتِهم في التعامل مع الأحاديث.



استنتاجات:

طريقة المحدِّثين أدقُّ من طريقة الفقهاء؛ نظرًا لاهتمامهم البالغ بأحوال الرواة، وهذا ما جعَلهم لا يكتفون بالإشارة في هذا المجال، طالما أن الإشارة لا تغني عن العبارةِ في هذا المقام.

طريقة الفقهاء تعتمد الأحكامَ العامة التي هي - في غالبها - مجانِبَةٌ للدقَّة والضبط.

الفقهاءُ أثناء استدلالهم إنما ينطلقون مِن الحُكم الفقهي، لا مِن النص الشرعي، على عكس علماء الحديث، فإنهم ينطلقون مِن النص، لا مِن الحُكم.

الفقهاء ينقُلون كلامَ السابقين مِن المحدِّثين على الأحاديث؛ أي إنهم لا علاقةَ لهم بهذا المجال، فإذا ما تناولوا الكلامَ عن حديث ما، فإنهم قد يذكرون حُكمًا مخالفًا لِما توصَّل إليه علماء الحديث.

وبعد هذه الخلاصات والاستنتاجات، أسأل اللهَ تعالى أن يجعلَ هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وخاليًا مِن كل قصد ذميم، والحمد لله رب العالمين!





[1] سؤالات الحاكم النيسابوري للدارقطني 1/ 131.




[2] رسالة أبي داود إلى أهل مكة 1/ 29.




[3] معرفة أنواع علوم الحديث لابن الصلاح1/ 11.




[4] رسوم التحديث في علوم الحديث للجعبري 1/ 100.




[5] رسوم التحديث 1/ 100.




[6] النكت على مقدمة ابن الصلاح للزركشي 1/ 100.




[7] مقدمة ابن الصلاح 1/ 76.




[8] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.




[9] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.




[10] المصدر السابق 1/ 77.




[11] اختصار علوم الحديث لابن كثير 1/ 63.




[12] شرح التبصرة والتذكرة 1/ 274.




[13] نزهة النظر شرح نخبة الفكر 1/ 67 بتصرف.




[14] تيسير مصطلح الحديث للطحان 1/ 120.




[15] نزهة النظر لابن حجر 1/ 67.




[16] المصدر نفسه، والصفحة نفسها، بتصرف.




[17] شرح نخبة الفكر للقاري 1/ 424.




[18] شرح نخبة الفكر للقاري 1/ 422.




[19] نزهة النظر لابن حجر 1/ 108.




[20] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.




[21] الفكر السامي للحجوي 2/ 545.




[22] أصول الشاشي 1/ 284.




[23] المعتمد لأبي الحسين البصري 2/ 160.




[24] أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله لعياض بن نامي السلمي 1/ 118.




[25] إرشاد الفحول للشوكاني 1/ 129.




[26] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.




[27] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.




[28] المحصول للرازي 4/ 398.




[29] المصدر السابق بتصرف 1/ 150.




[30] المصدر نفسه، والصفحة نفسها.




[31] المصدر نفسه 1/ 151.




[32] المنار المنيف لابن قيم الجوزية 1/ 51.




[33] المصدر السابق.




[34] نثر الورود للأمين الشنقيطي 1/ 333.




[35] مسند الإمام أحمد 1/ 282.





[36] المصدر السابق.




[37] إرشاد الفحول 1/ 151.




[38] سبل السلام للصنعاني 2/ 96.




[39] العلل لابن المديني 1/ 51.




[40] بداية المجتهد لابن رشد الحفيد 1/ 126.




[41] البيان والتحصيل لابن رشد الجد 18/ 154.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 51.93 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.30 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]