عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 16-12-2019, 10:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي اللانهائية عند كانتور

اللانهائية عند كانتور
م. خيري السوفي





بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فتعتبر مسألة اللانهائية من أكثر المسائل تعقيدًا وصعوبةً، على مستوى الفهم والإدراك، حتى اعتبر برتراند رسل تعريفَها في حد ذاته لا نهائيًّا في التعقيد، وقال آخرون: إن اللانهائية ليست إلا شكلًا أو مصطلحًا لفظيًّا فحسب؛ كما عبر عن ذلك الرياضي الشهير جاوس - Gauss - في رسالتِه إلى شوماكر - Schumacher - بقوله: إن اللانهائية "façon de parler" أي مجرد تعبير لفظي.

أما عند عامة الناس، فإن اللانهائية شيء ضخم للغاية، لا يمكن تحديده، قد تساوي عندهم عددَ البشر المخلوقين من لدن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، أو قد تساوي عندهم عدد حبَّات الرمل الموجودة على سواحل البحر، فالمهمُّ أنها عندهم تعني شيئًا كبيرًا للغاية لا يمكن عدُّه، أو حتى إدراكه ومعرفته على حقيقته.


ووسط هذا اللبس والعجز النسبي في فهمِ هذا المصطلح الغريب كما هو، ومع تعدُّد النظريات وتنوع المحاولات - خاصة من قِبَل اليونانيين القدماء - فإن أغلب النتائج الرياضية المتوصَّل إليها قد باءَتْ بالفشل؛ لأنها تصادمت - بل تناقضت - مع أديان وفلسفة تلك الشعوب.


في حين إن مسألة اللانهائية لم تتبلوَر بصفة كاملة وتامة إلا في القرن التاسع عشر، مع ظهور أعمال بولزانو وجورج كانتور، التي أخرجت اللانهائية من صورتها الممكنة أو الجهدية - Potentialinfinite - إلى حيز صورتها الحقيقية أو الفعلية - Actualinfinite - وهي الإضافة التي تقدَّم بها جورج كانتور ببحثه عن إجابة لأهم سؤال رياضي: "ما هو حجم اللانهائية؟":
هذا السؤال الذي حيَّر عقول من سبقه من الرياضيين؛ كالرياضي الكبير لكرانج J.Lagrange - وهو رئيس قسم الرياضيات بأكاديمية برلين للعلوم - الذي أعلن بنفسه عن منح جائزة لمَن يجد حلًّا لهذه المعضلة المتعلقة بمسألة اللانهائية.


فتتالت الحلول والمحاولات حينئذٍ، وكانت في غاية التعقيد، بَيْدَ أن الجواب الفائز - للسويسري سيمون لوهلير - كان بسيطًا جدًّا مع دقته، وهو أن "اللانهائية تمثل الهاوية التي تتداخل فيها أفكارنا".


أما الجواب التفصيلي الذي أتى به كانتور بعد ذلك، فقد هذَّب به فكرة اللانهائية تهذيبًا رائعًا، بعدما كانت لانهائية عائمةً في حدود المطلق واللامحدود، فقد أعاد جورج كانتور تصور اللانهائية الحقيقية التي نبذها الرياضيون الأوائل، وهي اللانهائية الكاملة أو التامة، وليست الممكنة أو الجهدية.


فأصبح له بذلك فضلٌ عظيم على دارسِي الرياضيات؛ ذلك أنه ما من فرع رياضي اليوم - سواء كان في الجبر، أو التحليل، أو التبولوجيا - إلا ويتضمَّن قسمًا خاصًّا عن نظرية المجموعات التي مثَّلت أحدَ أهم إنجاز رياضي معاصر.


فقد كانت الفيثاغورية تعتبر أن العدد هو جوهر الوجود وحقيقته، باعتبار أن كل شيء عندهم في النهاية هو عددٌ، فما مِن جسم في هذا الكون أو غير جسم إلا وله صفة العددية، ولا يتحقَّق التمييز عند الفيثاغوريين بين الأشياء إلا بالعدد.


أما أصحاب نظرية المجموعات، فقد رفعوا شعارًا آخر، وهو أن كل شيء هو مجموعة - لا عدد - إذ يمكن تمثيل سائر الأشياء عندهم بمجموعة.


فموضوع نظرية المجموعات - أو المجموعات اللانهائية التي انطلق منها كانتور من 1874 / 1895 - أثار جدلًا وصراعًا فلسفيًّا كبيرًا، حتى اعتبره البعض انقلابًا على أسس الرياضيات الكلاسيكية، وشبه آينشتاين هذه المعركة "بمشادة الضفدعة والفأر".


ولقد عبر جاوس - Gauss - قبل ذلك عن مخاوفه حول اللانهائية الحقيقية قائلًا - في رسالة له -:
"إنني أقف بشدة إزاء المقدار أو الكمية اللانهائية كشيءٍ متكامل أو تام، والذي يعتبر شيئًا غير مقبول أو مسموح به في الرياضيات".


فرد كانتور على هذه المخاوف، قائلًا:
"رغم الاختلاف الجوهري بين اللانهائية الممكنة (الجهدية)، واللانهائية الحقيقية (الفعلية)، فإن الأُولى تعني ذلك التغير الذي يكون في تزايد دائم، ويتجاوز جميع حدود النهايات (مثل إذا كان عندنا عدد حقيقي x فإن الكسر 1/ X يتضاءل بزيادة قيمة العدد x)، أما اللانهائية الحقيقية، فهي كمية ثابتة محددة تكمن وراء جميع الكميات المحددة...".


ولتوضيح ذلك، يمكن تمثيل اللانهائية الممكنة بالخطوات اللامتناهية، التي لا يمكن الوقوف على حدٍّ معين لها، بينما يمكن تمثيل اللانهائية الحقيقية بمجموعة لانهائية متكاملة.

والحق أن جورج كانتور قد توقَّع ما قد يلاقيه من خصومات واعتراضات على نظريته وعلى تصوره الجديد لللانهائية؛ لما في ذلك التصور من تعارض مع المعتقد الديني والفلسفي السائد؛ فإن سائر الفلاسفة واللاهوتيين ومعظم الرياضيين - من قبل كانتور وحتى في حياته - قد دحضوا مفهوم اللانهائية الحقيقية، ذلك أن أرسطو قد رفض مفهوم اللانهائية الكاملة، وكذا فعل رجال الدين المسيحي مع فكرة اللانهائية الحقيقية؛ باعتبارها هجومًا مباشرًا وتحديًا لوحدة الله المطلقة وطبيعتها اللانهائية.


مفهوم اللانهائية قبل كانتور:
من ناحية تاريخية، يمكن القول بأن مسألة اللانهائية عند الغرب قد مرت بثلاث مراحل:
الأولى: وهي مرحلة ما قبل أرسطو.
والثانية: هي التي شرح فيها أرسطو نفسه اللانهائية، وهي المرحلة الأرسطية.
والأخيرة: هي مرحلة كانتور.


في حين صرح أرسطو "أن فيثاغورس هو الذي وضع اللانهائية بين الكينونات المحسوسة"، ولكن سرعان ما تصادم التصور الفيثاغوري مع وجود الأعداد الصماء، فوقع استبداله بمفهوم الاستمرارية، وهو أن كل خط مستقيم يمكن تقسيمه إلى ما لا نهاية من الأجزاء، وعدد نقاطه تكون لا نهائية أيضًا.


ثم ظهرت مفارقات زينو - Zeno - التي تقوم على أن الزمان والمكان قابلان للتقسيم اللانهائي، والتي تعارضت بنفسها مع المفاهيم التقليدية حول اللانهائية في الكبر وفي الصغر، ومن بين هذه المفارقات نذكر على سبيل المثال المفارقة الثانية التي تقول:
"حتى يمكن لجسمٍ أن يقطع المسافة، يجب أولًا أن يقطع نصف المسافة، ولا يزال هنالك نصف النصف لقطعه، ثم نصف نصف النصف، وهكذا إلى ما لا نهاية، ومِن ثَمَّ سيظل هنالك جزءٌ لم يقطع، وعلى هذا يستحيل على جسم أن ينتقل من نقطة إلى أخرى".


عمومًا، لقد كان معظم الخائضين في مسألة اللانهاية يتحدثون عن مصطلح غامض لا حقيقة له، غارق في اللامحدود والمطلق.


فجاليليو - Galilio - يرى أن المجموعات اللانهائية متساوية؛ أي: إن عدد نقط خط مستقيمٍ ما - يساوي عددَ نقاط المستقيم الآخر، واعتبر أن القول بأن أحد المستقيمين أكبر من الآخر غير واردٍ، فاللامتناهيات عنده جميعها متساوية.

مفهوم اللانهائية عند كانتور:
قلنا: إن أغلب الفلاسفة والرياضيين قبل كانتور يعتبرون أن كل اللانهائيات متساوية، بيد أن كانتور يعتبر أن التساوي بين مجموعتين لانهائيتين لا يتم إلا إذا خضعَتَا إلى قاعدة المطابقة، واحد إلى واحد، وإلا فتكون إحداهما إما أكبر أو أصغر من الأخرى.


فاللانهائية في الرياضيات: هي اسمٌ يطلق على أي شيء لا يمكن أن يتصوره العقل؛ ولذا وقف العديد من الرياضيين ضد فكرة تصور لانهائية كاملة أو حقيقية، بينما رأى آخرون أن لها مفهومًا كاملًا ومحددًا؛ ومن بينهم جورج كانتور.
فقد وضع كانتور اللانهائية في عالم المحدود والمحدد واليقين، بدلًا من عالم اللامعين واللامحدود.


فاللانهائية عند شارحها الأول أرسطو تكون غير مكتملة إطلاقًا، فهي جهدية أو محتملة، وكانتور يرى عكس ذلك، فاللانهائية عنده تبرز في شكلين مختلفين:
لانهائية غير تامة تتجاوز حدود الكميات في الكبر والصغر، لكنها تبقى نهائية، ويمكن أن يقال عنها: متغير نهائي، وهذا ما يطلق عليه اللانهائية الممكنة.
والأخرى كمية محددة ثابتة، وهي اللانهائية الحقيقية.


فإذا أردنا تلخيصمفهوم اللانهائية عند كانتور، فنقول:
إن اللانهائية عنده كاملة وتامَّة.
إن اللانهائية توجد على مستويات مختلفة من اللانهائيات، لا على مستوى واحد كما كان متصورًا.
وهي مجموعات لانهائية من اللانهائيات، ليس لها نفس المقدار، فكل مستوى يكون أكبر من الآخر، فالمستوى الأول أصغر من الثاني، والثاني أصغر من الثالث، وهكذا إلى ما لا نهاية!


وبسبب ما توصَّل إليه كانتور من النتائج، شن عليه معاصروه حربًا شَعْواء، أولهم بوانكاري الذي رفض نظرية الأعداد اللانهائية بعنف، واعتبر ما جاء به كانتور مرضًا خطيرًا يجب التخلص منه.


في حين اعتبر كرونيكر كانتور مشعوذًا، وأن أعماله الرياضية مجرَّد فلسفة فارغة جوفاء.
كل ذلك وأكثر أدى إلى انهيار نفسي للعالم جورج كانتور، الأمر الذي دفعه إلى مستشفى للأمراض العقلية؛ حيث توفي.


مفارقات النظرية الكانتورية:
تقول نظرية كانتور: "إن الأعداد المرتبة اللامتناهية، يمكن أن ترتب ترتيبًا تصاعديًّا؛ بحيث إنه من بين كل عددين منهما - أيًّا كانا - يوجد دائمًا عدد أقل من الآخر، وإن أكبر الأعداد المرتبة اللامتناهية هو آخر سلسلة تلك الأعداد".


يقول فورتي: "إذا أخذنا هذا العدد الأخير طرفًا وحيدًا في المقارنة، فلا بد أن يكون وَفْقًا للنظرية نفسها باعتباره عددًا مرتبًا لا متناهيًا أقل من عدد آخر لا نعلمه، إذًا فأكبر الأعداد المرتَّبة اللامتناهية ليس أكبر الأعداد المرتبة اللامتناهية، وهذا تناقض في هذه النظرية".


تقول نظرية كانتور: "في العدد الأساسي المتناهي كل عدد منتهٍ باعتباره مجموعة أو فئة لا يشمل على ذاته كجزء منها".
يقول رسل:" إنه يمكن بيان أن عدد الأعداد المتناهية كلها (أي: مجموعة كل المجاميع العددية) هو في آنٍ واحد لا يشتمل ذاته ويشتمل ذاته أيضًا كجزء من ذاته، وهذا تناقض، فهو لا يشتمل على ذاته؛ لأنه أكبرها وَفْقًا للنظرية، ولكنه أيضًا يشتمل على ذاتِه باعتباره مجموعةً كغيره من المجاميع؛ أي: إحدى المجاميع التي تشتمل على ذاتها".


ثم يوضح رسل مفارقته بالمثل التالي:
هناك حلاقٌ في القرية يقوم بحلق ذقون جميع الأفراد الذين لا يحلقون ذقونهم، والحلاق نفسه هو أحد أفراد القرية، فهل يستطيع أن يحلق ذقنه أم لا؟


فإذا تم ذلك، فقد أخل بالشرط الذي ينص على أنه يحلق للذين لا يحلقون، وإذا لم يحلق ذقنه يخل أيضًا؛ لأنه لا بد أن يحلق ذقون جميع الذين لا يحلقون، وهنا تبرز المشكلة!


باختصار توصَّل رسل إلى مفارقته بالصياغة المنطقية، وهي:
هل هناك إمكان لوجود مجموعة تنتمي إلى نفسها، وهي في الوقت نفسه لا تنتمي إليها؟
وفي النهاية، كل هذه التناقضات أو المفارقات راجعةٌ إلى مدى قابلية التسليم أو التصديق ببعض المسلَّمات أو البديهيات، التي ستترتَّب عنها هذه النتائج، وهل العبارات الرياضية لا تقبل إلا الصواب أو الخطأ فقط؟
وصلَّى الله وسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين
ربِّ اغفر وارحم وأنت خير الراحمين
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم



المراجع:
د. عبداللطيف يوسف الصديقي: مسألة اللانهائية في الرياضيات.
د. محمد مهران: فلسفة برتراند رسل.
د. محمد ثابت أفندي: أصول المنطق الرياضي.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.62 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.99 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.99%)]