عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 22-08-2019, 01:53 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,974
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قاعدة عموم نفي المساواة وأثرها في الفقه الإسلامي

قاعدة عموم نفي المساواة وأثرها في الفقه الإسلامي (2-4)
د. عبد الرحمن بن محمد القرني


المطلب الثالث
أدلة القولين ومناقشتها
وإليك الآن أهم دلائل الفريقين في المسألة وما ورد على كلٍ منها من الإيرادات.
أولاً: أدلة الجمهور:
استدل القائلون بأن نفي المساواة دالٌ على العموم بأدلة، منها:
الدليل الأول:
أن مفهوم قولنا: (يستويان) أعم من أن يكون في بعض الأمور أو في جميع الأمور، بدليل صحة انضمامه إلى كل واحدٍ منهما من غير تناقض في المعنى ولا تهافت في اللفظ؛ إذْ يصح أن يقال: (يستويان في بعض الأمور) ويصح أن يقال: (يستويان في جميع الأمور).
ومَوْرد التقسيم يجب أن يكون مشتركاً، ونفي المفهوم العام ينفي كل فرد من أفراده؛ فإن نفي (الحيوان) يقتضي نفي كل واحد من أفراده كالإنسان والفرس والأسد وغيرها من أفراد أنواعه.
فإذاً؛ قولنا: (لا يستويان) يقتضي نفي كل فرد من أفراد (يستويان)([1]).
• ويمكن الاعتراض على هذا الدليل بأنه معارَضٌ بمثله على ما سيأتي في أدلة الحنفية([2]).
الدليل الثاني:
أن قولنا: (لا يستوي كذا وكذا) في معنى قولنا: (لا مساواة بينهما) فيفيد نفي المساواة من كل وجهٍ؛ لأن الجملة نكرة، وكذلك توصف بها النكرة، فوجب التعميم كغيره من النكرات المنفية([3]).
• واعترض على هذا الدليل من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن الفعل (يستوي) نكرة، ودليله تصريح النحاة بأن التعريف والتنكير من خواص الاسم، وهذا ينفي كون الجملة نكرة([4]).
• وأجيب عن هذا الاعتراض من وجهين:
أ‌- أن المراد بتنكير الجملة أن المفرد المؤول منها نكرة، فمعنى (لا يستوي) أي: لا مساواة([5]).
ب‌- أن تعريف الأفعال محالٌ؛ لأنها لا تضاف كما أنه لا يضاف إليها؛ ولأن الاسم إنما اختص بتعريفه بالألف واللام لأنها يشير بها المتكلم إلى عهدٍ بينه وبين مَنْ يخاطبه، والأفعال غير مقصورة على شيءٍ واحد حتى تُعَرِّف بذلك الشيء.
ولأن الأفعال جملٌ كما ذكرنا، ودخول الألف واللام على الجمل محال؛ ولأنها لا تَتَعَرَّف بالموضع إلا أن يُسَمَّى بها رجلٌ أو امرأة، فإذا سمي بها رجعت إلى أحكام الأسماء وجاز فيها جميع ما يجوز في الأسماء([6]).
ثانيها: أن هذا قياس في اللغة([7])، ومسألتنا مبناها على اللغة، والقياس في اللغة ممنوع.
• ويمكن الجواب عن هذا الاعتراض من وجهين:
أ‌- لا نسلم منع القياس في اللغة، بل هو عندنا جائز.
ب‌- سلمنا منعه في اللغة، لكن ما ذكرناه في الدليل ليس قياساً في اللغة، بل هو استدلال بالاستقراء([8]).
ثالثها: سلمنا جواز القياس في اللغة، لكن خصوصية المادة – وهي الاستواء المنفي – مانعة من العموم؛ وذلك لحصول المساواة من بعض الوجوه كالمعلومية والشيئية وغيرهما، والقياس مع وجود المانع فاسدٌ([9]).
• ويمكن الجواب عن هذا بأن المراد نفي المساواة في الوجوه الممكن نفيها.
رابعها: أنه وإن سُلّم أن ما نحن فيه نكرة منفية مفيدة للعموم، إلا أن العمل بعموم نفي المساواة بينهما من كل الوجوه متعذر؛ لحصول المساواة بين الشيئين في الوجود وغيره، فوجب الاقتصار في نفي المساواة على ما دل عليه سياق الكلام؛ لأن صيغة العموم إذا أضيفت إلى محل لا يقبل العموم فإنه يراد به أخص الخصوص([10]) الذي دل عليه الكلام([11]).
وعليه فإن قولكم: «الجمل نكرات، والنكرة في سياق النفي تعم» محله حين لا يكون العقل مخصِّصاً، فإن كان مخصِّصاً كانت من قبيل العام المخصوص([12]).
• ويمكن الجواب عن هذا من قِبَلِ الجمهور بأننا قيدنا المسألة بنفي الأحكام الشرعية التي يمكن نفيها، وتساوي أصحاب النار وأصحاب الجنة مثلاً في الجسمية والناطقية وغير ذلك لم يكن مراداً للشارع أصلاً حتى يدخل في العموم، فلا يصح دعوى خروجه حتى يجعل سنداً يمنع من إرادة التعميم.
الدليل الثالث:
أنه إذا قال القائل: (لا مساواة بين زيد وعمرو) فإن النفي داخل على مسمى المساواة، فلو وُجِدتْ المساواة بينهما من وجهٍ، لما كان مسمى المساواة منفياً، وهو خلاف مقتضى اللفظ([13]).
• ويمكن أن يعترض على هذا على طريقة الحنفية بأن ما نحن فيه لا يمكن حمله على العموم؛ لأننا نعلم يقيناً تساوي الشيئين من وجهٍ أو أكثر ولو نُفي التساوي بينهما، وذلك كاستوائهما في الوجود والمعلومية وغير ذلك، وعلى هذا فلا نسلم أن مقتضى اللفظ نفي التساوي من كل وجه.
• ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن يقال: المراد بقولنا في الدليل: (لو وُجِدت المساواة بينهما من وجهٍ) أي من وجوه الأحكام الشرعية، لأن الشارع لا يمكن أن يكون مراده نفي الجسمية والوجودية والمعلومية ونحو ذلك من الأوصاف العقلية أو الحسية؛ لأن النص الشرعي جاء لبيان الأحكام الشرعية، فهي المرادة عند الإثبات أو النفي.
الدليل الرابع:
أنه لو كَفَى في إطلاق نفي المساواة بين الشيئين نفيها ولو من بعض الوجوه؛ لَصَدَق إطلاق نفي المساواة على كل شيئين؛ لأن كل شيئين لابد أن يستويا من بعض الوجوه وأقله التعيين والوجود.
وإذا صدق على كل شيئين أنهما لا يستويان؛ وجب أن لا يصدق عليهما أنهما يستويان، ضرورةَ كونهما متناقضين في العرف، ألا ترى أن مَنْ قال: (هذان الشيئان يستويان) فمَنْ أراد تكذيبه من أهل العرف قال: (إنهما لا يستويان)؟!
ولولا أنهما متناقضان لما استعملا في التكاذب، لكنه([14]) باطلٌ لأمرين:
أولاً: لأن أهل اللغة والعرف يطلقون من غير نكير على المِثْلين أنهما يستويان، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
ثانياً: لأن كل شيئين لابد أن يستويا في أمورٍ نحو الشيئية والمعلومية والمذكورية، ومتى صدق المقيَّد صدق المطلق، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم، فيلزم أن لا يكفي في إطلاق نفي المساواة بين الشيئين نفي المساواة بينهما من بعض الوجوه، بل من كل الوجوه وهو المطلوب([15]).
• وأجيب عن هذا الدليل من وجهين:
أحدهما: مَنْعُ سند الدليل، وبيان ذلك: أن قولكم: (إنهما يستعملان في التكاذب عند أهل العرف مطلقاً) ممنوعٌ، بل إنما يتكاذبان بواسطة القرينة الحالية أو المقالية الدالة على تعيُّن ما فيه الاستواء أو عدمه([16]).
قلت: يمكن جوابٌ آخر بالمعارضة، والمعارِض هو ما سيأتي في الدليل الأول للحنفية وموافقيهم.
ثانيهما: أن كون الشيئين في إثبات التساوي للخصوص – أي للتساوي من بعض الوجوه – على الوجه الذي قررتموه منافٍ لمطلوبكم؛ لأنكم جعلتم التساوي عاماً في النفي باعتبار الخصوص حيث قلتم إنما ينفي خصوص الوجوه الممكنة لا كل الوجوه، وذلك القدر هو المعتبر في خصوص الإثبات، فكان النفي والإثبات إما خاصين وإما عامين، وحينئذ فلا منافاة بينهما ولا تناقض، وبناء دليلكم على تناقضهما([17]).
الدليل الخامس:
أن العمل بالعموم واجب ما أمكن؛ لأن العمل بالنص الشرعي على ما يقتضيه واجبٌ بحسب الإمكان، وإذا تعذر العمل بالعموم في بعض الأفراد لم يلزم منه سقوط العمل به فيما بقي وراء ذلك، وهذا كالعام المخصوص، ألا ترى إلى قول الله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ([18]) لمَّا لم يمكن العمل بعمومه بدلالة العقل؛ فإن ذات الله تعالى وصفاته لم تدخل تحته، بقي فيما وراء ذلك على العموم.
فكما أن دليل الخصوص فيما يحتمل العموم لا يُخْرِج العام عن الحكم بثبوت كونه حجة فيما وراء ذلك، فكذلك عدم احتمال العموم حساً لا يخرج العام عن أن يكون حجة فيما يحتمله([19]).
• وأجيب عن ذلك بأن حاصل الدليل هو التسوية بين محتمل الحال([20]) وبين محتمل اللفظ فيما يثبت بصيغة العام من الحكم، وفيما يثبت من الشبهة المانعة من العلم به قطعاً.
ونحن نقول: ما ذهب إليه الخصم تحقق فيه الحرج الذي هو مدفوع، وهو الوقوف على مراد المتكلم ليعمل به فيما يحتمل العموم، واعتبار الإرادة المغيرة للعموم عن حقيقتها فيما يحتمل العموم؛ حتى لا يكون موجباً قطعاً فيما تناوله، وذلك غير جائز شرعاً، وبه تبيَّنَ فساد التسوية بين محتمل الحال ومحتمل اللفظ، وتبيَّن أن موجب العموم لا يثبت فيما لا يمكن العمل بعمومه لانعدام محل العموم([21]).
ومسألتنا كذلك؛ لأن نفي المساواة بين شيئين لما لم يقبل العموم لعدم صدوره في محل العموم لم ينعقد للعموم أصلاً؛ لأن الشيء ينتفي بانتفاء محله، وصار كأنه قيل: (إنهما لا يستويان في بعض الصفات) فكان نفي المساواة في معنى المجمل، فيجب الاقتصار على ما دلت عليه صيغة النص وعلى ما يتيقن به أنه مراد.
والقياس على العام المخصوص لا يصح؛ لأن العام الذي خُصَّ قد انعقد للعموم ثم خُصَّ بعض أفراده بعارضٍ لحقه بطريق المعارضة، فيقتصر على قدر المعارض، فيبقى ما وراءه على العموم، وما نحن فيه ليس كذلك لأن محل الكلام لا يقبل العموم، فكان قياساً فاسداً لفقدان الوصف الجامع([22]).
ثانياً: أدلة الحنفية ومَنْ وافقهم:
استدل القائلون بأن نفي المساواة غير دالٍّ على العموم بأدلة، منها:
الدليل الأول:
أن حَدَّ المجمل وحقيقته حاصلة في نفي المساواة، فلذلك دخل في جملته؛ لأن المجمل هو الخطاب الذي لا يفهم المراد منه على التعيين إلا باعتبار غيره، ونفي المساواة لا يفهم المراد منه إلا باعتبار غيره؛ فإن القائل إذا قال: (زيدٌ وعمرو لا يستويان) حَسُنَ من السامع أن يقول: فيم؟ وحُسْنُ هذا الاستفهام دليلُ إجمالهِ([23]).
• ويمكن الاعتراض على هذا الدليل بعدم تسليم حُسْن الاستفهام المذكور في اللغة؛ وذلك لقيام الأدلة على اقتضاء نفي المساواة في اللغةِ العمومَ.
ولو سُلِّمَ حُسْن السؤال المذكور فلأنَّ احتمال الخصوص قائم، فلا يكون عمومه مراداً فيحسن الاستفهام حينئذ، ألا ترى أن صيغ العموم الأخرى تفيد الشمول وذلك لا يمنع الاستفهام عن التعميم أو بعض الأفراد([24])؟! أَوْ لا ترى أن المنطوق يدل على حكم المسكوت ولا يمنع ذلك السؤال عنه؟! أَوْ لا ترى أن الأمر المطلق يفيد الوجوب ولم يكن ذلك مانعاً من الاستفهام عن غير الوجوب؟!
وغاية الأمر أن المدعي للعموم في مسألتنا لا يقول بالقطعية، بل نفي الاستواء ظاهر في العموم، فلا يجزم بنفي احتمال ضده وهو الخصوص، فمن هنا حَسُنَ الاستفهام([25]).
الدليل الثاني:
أنه لو كَفَى في إطلاق لفظ المساواة بين الشيئين([26]) استواؤهما من بعض الوجوه؛ لوجب أن يصدق على كل شيئين أنهما يستويان؛ لأن كل شيئين لابد أن يستويا من بعض الوجوه وأقله التعيين والوجود.
وإذا صدق على كل شيئين أنهما يستويان، وجب أن لا يصدق عليهما أنهما لا يستويان؛ ضرورةَ كونهما متناقضين في العرف، ألا ترى أن مَنْ قال: (هذان الشيئان لا يستويان) فمَنْ أراد تكذيبه من أهل العرف قال: (إنهما يستويان)؟! ولولا أنهما متناقضان لما استعملا في التكاذب، لكنه باطلٌ([27]) لأمرين:
أولاً: لأن أهل اللغة والعرف جميعاً يطلقون من غير نكير على الضدين والنقيضين([28]) أنهما لا يستويان، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
ثانياً: لأن كل شيئين لابد أن يتفاوتا في بعض الأمور نحو التعيُّن والتشخص([29])، فيصدق عليهما أنهما لا يستويان فيه، ومتى صدق المقيد صدق المطلق؛ ضرورةَ كونه جزءاً منه، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم، فيلزم أن لا يكفي في إطلاق لفظ المساواة على الشيئين المساواة من بعض الوجوه، بل من كل الوجوه، وإذا اعتبر الكلي في جانب الإثبات وجب أن يعتبر الجزئي في جانب النفي، لما سبق أنهما متناقضان، ونقيض الموجب الكلي هو السالب الجزئي، فإذا كان قولنا: (استوى زيدٌ وعمرو) مفيداً للتسوية من كل وجه، ثبت أن قولنا: (ما يستوي زيد وعمرو) مفيد للتسوية بينهما في جزئية واحدة أي وجه واحد([30]).
• واعترض على هذا الدليل من وجهين:
أحدهما: أنه معارَضٌ بما ذُكر في الدليل الرابع([31]).
• وقد سبق ذكره وذكر ما أُوْرِد عليه.
ثانيهما: أنه لا يشترط في صدق التساوي الاستواء في جميع الوجوه؛ إذْ لو اشترط لما صدق التساوي على شيئين أصلاً؛ لاستحالة التساوي في المعيَّن، وإذا كذب التساوي على كل شيئين يلزم أن يصدق على كل شيئين أنهما غير متساويين([32]).
الدليل الثالث:
أن نفي المساواة في الجملة أعم من نفي المساواة من بعض الوجوه ومن نفيهِ من كل الوجوه، بدليل صحة تقسيمه إليهما([33])، ومورد القسمة يجب أن يكون مشتركاً، والدال على القدر المشترك بين القسمين لا دلالة له على الخصوصيات أصلاً.
وبيان هذا: أن الاستواء ينقسم إلى الاستواء من كل وجه، وإلى الاستواء من بعض الوجوه؛ ولهذا يصدق قول القائل: (استوى زيدٌ وعمرو) عند تحقق كل واحد من الأمرين، والاستواءُ مطلقاً أعمُّ من الاستواء من كل وجه، ومن الاستواء من وجهٍ دون وجه، والنفيُ إنما دخل على الاستواء الأعم، فلا يكون مشعراً بأحد القسمين الخاصين، فإذاً: لا دلالة لنفي الاستواء على نفي الاستواء من كل وجه ولا من بعض الوجوه([34]).
• وقد اعترض على هذا الدليل من وجوه:
أحدها: لا نسلم أن نفي الاستواء في الجملة أعم من نفيه من بعض الوجوه ومن نفيه من كل الوجوه؛ وذلك أننا نمنع أن (لا يستويان) نفي للاستواء وأنه أعم من نفي الاستواء من كل وجه؛ لأن أداة النفي دخلت على الاستواءِ، والاستواءُ يصدق على المتساويين من جميع الوجوه على ما قررناه في أدلتنا، والاستواء من جميع الوجوه أخص من نفس الاستواء، فبطل بهذا التقرير إحدى المقدمتين من دليلكم، فيبطل الدليل([35]).
ثانيها: أنه معارَضٌ بمثله، بأن يقال: إن المساواة في الجملة أعم من المساواة في بعض الوجوه ومن المساواة في كل الوجوه، بدليل صحة تقسيمه إليهما، والمنقسم إلى شيئين أعم من كل واحدٍ منهما، فنفي الاستواء نفيٌ للعام، فيقتضي نفيهما جميعاً؛ لأن نفي العام يقتضي نفي كل أنواعه وأفراد أنواعه قطعاً، فالدالُّ على انتفاء نفس الاستواء دالٌّ على انتفاء كل واحد من الخصوصين، فبطل ما ذكروه وهو أنه دالُّ على القدر المشترك وأن الدال عليه لا دلالة له على الخصوصيات([36]).
• وقد أجيب عن هذا الاعتراض من وجهين:
أ‌- لا نسلم أن نفي الاستواء عامٌّ؛ لأنه لما دل عليه السياق اختصَّ النفي به، فلا يكون عامَّاً([37]).
ب‌- أن هذا الاعتراض لا يستقيم على مذهبكم؛ لأنكم جعلتم فيه نفي الاستواء أعم من نفي الصورتين([38])، ومذهبكم أنه لنفي الاستواء من جميع الوجوه فحسب([39]).
ثالثها: أن ما ذكرتم من عدم إشعار الأعم بالأخص إنما ذلك يكون في طرف الإثبات([40]) وليس كلامنا فيه، فأما في طرف النفي فغير مسلَّم؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ضرورةً؛ لأنه نفيٌ للحقيقة، ويلزم من انتفاء الحقيقة والماهية انتفاء كل فرد؛ لأنه لو وجد منها فرد لكانت الماهية موجودة.
ولهذا فإنه لو قال القائل: (ما رأيت حيواناً) وكان قد رأى إنساناً، فإنه يعدُّ كاذباً؛ لأن (الإنسان) ينتفي بانتفاء (الحيوان) قطعاً، ولولا ذلك لجاء مثله في كل نفيٍ فلا يصح نفيٌ أبداً؛ إذْ يقال في (لا رجل) هو أعم من (الرجل) بصفة العموم فلا يُشْعِر به، وهذا خلاف ما ثبت بالدليل([41]).
• وأجيب عن هذا الاعتراض من وجوه:
‌أ- أن ما قلتموه – وهو أن نفي الأعم مستلزمٌ نفي الأخص في طرف النفي – مسلَّمٌ إذا لم يمنع منه مانع عقلي، ومعلوم أن العقل يقطع ببطلان نفي مطلق الاستواء وحقيقته التي تقتضي انتفاء كل فرد من أفرادها؛ لأنَّ نقيضَ هذا النفي الذي هو الاستواء بوجهٍ متحققٌ، فالماهية موجودة فيه قطعاً، فلا يصح أن يكون النفي هذا لعموم السلب.
وعليه فقياس هذا على قول القائل: (ما رأيتُ حيواناً) وكان قد رأى إنساناً عُدَّ كاذباً: قياسٌ مع الفارق([42]).
‌ب- أن مطلوبكم بهذا الاعتراض منع انتفاء العموم، وما ذكرتموه في بيان الملازمة لا يفيده؛ لأن الخصوص يجوز أن لا ينتفي لا أنه يجب أن لا ينتفي، فإذا انتفى فإن العموم ينتفي بالنفي، وإذا لم ينتفِ فإن العموم لا ينتفي؛ لأن عدم استلزام نفيِ العمومِ نفيَ الخصوص أعم من استلزام نفي العموم عدم انتفاء الخصوص([43]).
‌ج- أن الاستواء شيء واحد ومدلوله واحد، وهو الاستواء من كل وجه، وما يحصل بين الشيئين من الاشتراك في بعض الوجوه ليس هو المساواة الحقيقية، وإذا كان كذلك فلا فرق فيه بين جانب الإثبات وجانب النفي([44]).
الدليل الرابع:
أنه لو كان نفي المساواة عامَّاً – أي يقتضي نفيها من كل وجه – لما صدق نفي المساواة حقيقةً على شيئين أصلاً؛ لأنه ما من شيئين إلا ويستويان من وجهٍ وأقله نفي ما سواهما عنهما، وهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة([45]).
وإذا ثبت أنه خلاف الأصل، فما يستلزمه يكون كذلك خلاف الأصل([46]).
• واعترض عليه من وجهين:
أحدهما: منع الملازمة، وذلك بتخصيص الدعوى؛ لأنه إذا قيل: (لا مساواة بين كذا وكذا) فإنما يراد مساواةٌ يصح انتفاؤها، فهذا مما خصَّصه العقل، فتبيَّن بهذا أن دليلكم ليس وارداً في محل النزاع([47]).
• وأجيب عن هذا الاعتراض بأنه إقرارٌ بعدم العموم؛ لأن الاستغراق شرط في العموم، هذه حقيقة العام وهي متعذرة في مسألتنا، وإذا كانت الحقيقة متروكة يصار إلى مجاز تدل عليه القرينة، وهو ما دل عليه سياق النص، ففي قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ) ([48]) المراد نفي المساواة في الفوز بالجنة لقرينة قوله سبحانه: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) فيحمل عليه اللفظ، وفيما عدا ذلك يكون كالمجمل، وهكذا يقال في سائر المواضع([49]).
ثانيهما: أن قولكم: (الأصل في الإطلاق الحقيقة) إنما يصح حين لا يدل دليلٌ على خلافه، فإن دل الدليل على خلاف هذا الأصل فالعمل على المجاز حينئذ، وههنا قد دل الدليل على المجاز، ودليله هو ما ذكرناه([50]).
قلت: هذا الأخير مبني على القول بأن العام المخصوص مجازٌ فيما بقي، ولو مُنع هذا لم يتوجه رأساً.
الدليل الخامس:
أن معنى الاستواء بين الشيئين في اللغة هو اشتراكهما في جميع الصفات، فإذا افترقا في بعض الصفات فما استويا في جميع الصفات، فيصح حينئذ أن يقال: إنهما لم يستويا.
ومعلوم قطعاً أن المسلم والذمي مثلاً قد افترقا في كثير من الصفات، فيصدق بهذا أنهما لا يتساويان، من غير حاجة إلى التعميم([51]).
• ويمكن الاعتراض على هذا الدليل من وجهين:
أحدهما: أننا نمنع كون مدلول (استوى) في لغة العرب هو الاشتراك في كل الصفات، بل يصح أن يقال: (تساوى زيدٌ وعمرو) ولو لم يكن تساويهما إلا في صفة واحدة.
ثانيهما: أن الفعل (استوى) ونحوه في قوة النكرة كما سبق، والمسألة مفروضة في وقوعه منفياً، فيفيد العموم، ولا يصدق حينئذ إلا بإيقاعه على مقتضاه وهو نفي كل الوجوه الممكن نفيها من الأحكام.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.16%)]