عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-09-2020, 01:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,617
الدولة : Egypt
افتراضي منهج القرآن في مفاصلة مخالفيه

منهج القرآن في مفاصلة مخالفيه
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي




مِن سورة الأنعام










منهج القُرْآن في مفاصلة مخالفيه












بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه والتابعين.



قال الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ * قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ * وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 56 - 65].











بُنِيَتْ سورة الأنعام على ركيزتينِ؛ أولاهما: إثبات للتوحيد، وثانيتهما: إبطال للشرك، وبدأت بالتنبيه إلى تفرُّد الله سبحانه بالخَلْق؛ مبدأً ومعادًا، وظلمةً ونورًا، بقوله تعالى: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ [الأنعام: 1]، وكان هذا الاستهلالُ فيها محورًا تدور حوله مفرداتُها؛ بِشارةً بما أُعِد للموحِّدين، ونِذارةً مما ينتظر المشركين، إثباتًا للتوحيد الخالص بصريح الآيات البينات، وإبطالًا للشرك، بقواطعِ الأدلة والبراهين على زيف ألوهية الأوثان؛ أحجارًا وأشجارًا وأصنامًا، وطواغيتَ من الجن والإنس والأوهام والأهواء، بقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ﴾ [الأنعام: 14]، وتنديدًا بمعتقداتِ المشركين، وعَجْز معبوداتهم وضعفها، وتسفيهًا لدعائهم وعبادتهم في كل حالات الرَّهَب والرَّغَب والاضطرار، بقوله عز وجل: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [الأنعام: 40]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 46].







كما عرَضَتِ السورة الكريمة نماذجَ مِن إصرار المشركين على شِركهم: ﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الأنعام: 7]، وأخرى مِن ثبات الرسل عليهم السلام: ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ﴾ [الأنعام: 34]، وأخرى مِن ثبات الرعيل الأول وأُولي العزم مِن أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، ثم توَّجَتْ ذلك كلَّه بالقول الفصل في الأمر كله، وهو مُبارَأَة الشرك، ومُفاصَلة أهله، والنهي الحاسم المطلَق عن عبادة غير الله تعالى، أو موالاة أعدائه، تحت أي تأويل أو تبرير أو عنوان، فقال تعالى مخاطبًا رسولَه صلى الله عليه وسلم وملقِّنًا له واضح الأدلة وناصع البراهين يحاجُّ بها المعترضين:



﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 56]، والدعاء في قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ تَدْعُونَ ﴾ يعني العبادة؛ أي: "الذين تدعونهم وتعبُدونهم"، ومجمل هذه الآية الكريمة أمرٌ مِن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يفاصِلَ المشركين ويقول لهم: إن اللهَ تعالى نهاني عن عبادة غيره؛ خضوعًا أو إذعانًا، أو انقيادًا أو استسلامًا، أو إنابة ورجاءً وطمَعًا، أو استغاثة واستعانة وتوكُّلًا، أو خوفًا وخشية، ورهَبًا ورغَبًا.







ورَد هذا النهي في الآية الكريمة على صيغة المبني للمجهول: ﴿ نُهِيتُ ﴾ استغناءً عن ذكر الناهي؛ لظهوره في السياق، وهو الله تعالى، كما عُبِّر عن الأصنام بالاسم الموصول: "الذين" الخاص بالعقلاء؛ لأن المشركين عامَلوها معاملة العقلاء، ولكونها قد تكون طواغيتَ بشرية، أو أوثانًا حجرية، أو جنًّا، وأوهامًا وأخيِلةً.







جاء هذا النهي مباشرة بعد قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الأنعام: 55]، فكان بعد أن أقيمت الحجة على المشركين وتبيَّن بالآيات المفصلات سبيل المحقِّين من سبيل المبطِلين، واجبًا عدلًا وشرعًا وعقلًا، أن يزول غبشُ الملاينة والمداراة بين الفريقين، وأن تُعلَن البراءة والمفاصلة بين أهل الهداية والتقى، وبين أُولي الغَواية والضلالة بقوله صلى الله عليه وسلم لهم: ﴿ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 56]؛ كي يتحمل كلُّ فريق مسؤوليته، وينال جزاءه عند ربه؛ خلودًا في الجنة أو ارتكاسًا في النار.







إن البراءةَ مِن الشرك وأهلِه - كما وردت في هذه الآية الكريمة - مبدأٌ أصيل، وركيزة ثابتة في عقيدة الإسلام عند جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، مِن آدم عليه السلام إلى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ لأنها رمزُ تَميُّزِ الحق عن الباطل، والإيمان عن الكفر، ولا مجال للتمويه عليهما أو إلباس أحدهما ثوبَ الآخر؛ ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32].







بذلك حسَم الله تعالى علاقة نوح بابنه مفاصلةً تامة ومباينة قطعية، فقال عز وجل: ﴿ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46]، كما حسَم علاقة نوح ولوط عليهما السلام بزوجتيهما، وعلاقة فرعون بزوجته، فقال عز وجل: ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 10، 11].







نفس الموقف كان من قبلُ لإبراهيم عليه السلام مِن أبيه: ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 114]، وكان لهودٍ عليه السلام من قومه: ﴿ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [هود: 54]، وكان لنبيِّنا عليه الصلاة والسلام إذ أمَره ربه عز وجل بقوله: ﴿ وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 41].







إن الصراعَ بين الحق والباطل سنَّة سائرة في حياتنا الدنيا، ليس له مِن بديل إلا الفساد، ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ﴾ [البقرة: 251]، به يتميَّز المُحِق من المبطِل، وليس للمرء أن يكون محايدًا بينهما؛ ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]؛ لأن الحيادَ خِذلان للحق صريح، ونصرةٌ للباطل ضمنيَّة.







يتجلى هذا الصراعُ لدى الصادقين في محاولاتهم الإصلاحَ والصبر والمصابرة على الأذى وإن طال، ولكن لا بد في نهاية الأمر من حسم الموقف بالبراءة من المبطِلين؛ إذ لا يُعقَل أن يستمر الجدال العقيم مع من عمِيَتْ بصيرته، وأسَرَتْهُ أهواؤه، ذلك هو المنهجُ السليم الذي أرشد إليه الله سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 56]، ثم زاد فأكَّده بعد ذلك في سورة غافر بقوله تعالى: ﴿ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 66].







إن مفاصلةَ أهل الحق لأهل الباطل إن أصرُّوا عليه، تعني أولَ انتصار في قلوب أهل الحق للحق، وما دام في قلب امرئ ميلٌ للمبطِلين أو عطف عليهم أو مجادلة عن أهوائهم، فإنه لم يخلُصْ بعدُ من الغَواية والضلال، أو لم يتطهر من القابلية لهما على أقل تقدير، وطالما التمَس المشركون في رسول الله صلى الله عليه وسلم ثغرةَ ضعف ينفُذون منها إلى قلبه، فيقبَل مداهنتهم على عقيدته، كما في قولهم له: "لو عبدتَ آلهتنا وعَظَّمْتَها لَعبدنَا إلهك وعظمناه"؛ فأنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ﴾[1] [القلم: 8، 9]؛ لذلك عندما نهى الحقُّ سبحانه رسولَه صلى الله عليه وسلم عن ملايَنة المشركين وحضَّه على مفاصلتهم، أمَره عقِب ذلك بتعميق هذه المفاصلة، وتيئيسِهم مِن نجاح مداهناتهم ومساوماتهم ومكرهم، فقال له عز وجل:



﴿ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 56]، والأهواء لغة: جمعٌ، مفردُه الهَوَى، مِن فعل: "هَوِيَ يهوَى هَوًى"، وهو ميلُ النفس إلى الشيء بما يُستنكَر، أو بما لا ينبغي؛ لذلك غلَب على الهوى الذم؛ كما في قولهم: "غواهُ الهوَى جهلًا عَن الحق فانغوَى"، قال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41]، والأهواء المعنيَّة في هذه الآية الكريمة هي معبوداتُ المشركين؛ أصنامًا وأوثانًا، وكهنةً وطواغيتَ بَشَرٍ في كل زمن ومكان، كلها من نزغاتِ شياطين الجن والإنس، وغلبة الأهواء.







إن في هذه الآيةِ الكريمة موقفينِ صارمين مِن المشركين؛ موقفَ مفاصلة لهم حدِّيَّة، وموقفَ شجب وازدراء لعقولهم بينًا واضحًا، مفاصلة بقوله لهم: ﴿ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ﴾ [الأنعام: 56]، وازدراء بعقولهم بقوله لهم: ﴿ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 56]؛ لأن الضلالَ فِعل العقول، والعقول إذا غلب عليها الهوى استعبدها فتمادَتْ في الأضاليل؛ كما ورد في حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حُبُّك الشيءَ يُعمي ويُصمُّ))[2]، وقال: ((تعِس عبدُ الدينار، تعِس عبد الدرهم، تعِس عبد القطيفة، تعِس عبدُ الخميصة، تعَس وانتكَس، وإذا شِيكَ فلا انتقش))[3]؛ لذلك ورَد الحثُّ في الكتاب والسنَّة على التحرر من الهوى، سواء كان هوًى لمال أو سلطان أو منصب، أو رئاسة أو جاه، أو حزب أو طائفة، أو شهوات نفسٍ في المأكل والمشرَب والمنكَح، وتكرَّر ذلك في عدد من سور القُرْآن، في سور الرعد والشورى والقصص ومحمد وغيرها، كما تكرر مرتين في آخر سورة نزلت من القُرْآن الكريم، وهي سورة المائدة، بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المائدة: 48]، وقوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ [المائدة: 49].







إن المُشرِكين قد اتبعوا ما زيَّنته لهم الأهواءُ من المعتقدات ومناهج الحياة، وأعرضوا عما جاءهم مِن البينات والآيات فضلُّوا؛ لذلك أعلن لهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم براءتَه من اتباعها بقوله لهم: ﴿ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ ﴾ [الأنعام: 56]؛ لأني إن اتبعتُها ضللتُ وتنكَّبْتُ عن طريقِ الهداية والرُّشد، ﴿ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 56].







ثم زاد صلى الله عليه وسلم يبيِّن لهم أسبابَ هدايته بما أمره اللهُ أن يقولَ لهم:



﴿ قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 57]، والبيِّنة هي كلُّ ما يتبين به الحق؛ حُججًا قاطعة، وأدلة عقلية وحسية، وآيات كونية، بها جاء الأنبياءُ والرسل عليهم السلام أقوامَهم، ما مِن رسول إلا جاء قومه ببينةٍ على صدقه وصدق رسالته، نوح عليه السلام: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ﴾ [هود: 28]، وموسى عليه السلام قال لبني إسرائيل: ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ﴾ [الأنعام: 157]، وصالح عليه السلام لثمود: ﴿ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 73]، وشعيب عليه السلام لمَدْيَنَ: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ﴾ [الأعراف: 85].







إن البينةَ التي عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجاء بها قومَه، والتي هو حفيظ عليها، وقدوة فيها، وداعية إليها ليست إلا الوحيَ الكريم، بتصوره الإيماني الواضح السليم، الذي أبلغه إياه جبريلُ عليه السلام في قوله تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ﴾ [النجم: 4 - 10]؛ لذلك كان عليه الصلاة والسلام أعرَفَ الخَلْق بربه، أعرفهم بألوهيته وربوبيته، وأسمائه وصفاته، وبديع خَلْقه، وأكثرهم امتثالًا لأمره ونهيه، وتعظيمًا لحُرماته، أما المشركون فكانوا أبعدَ عن الهداية، كفَروا ربَّهم، وأعرضوا عن ذِكره، وكذبوا القُرْآن وجحدوه، واستهانوا بدعوة التوحيد، ولم يُفِدْ فيهم ترغيب أو ترهيب أو تهديد، وقد بلَغهم قولُه تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، ثم بلَغ بهم التحدي مداه فاستعجلوا ما هُدِّدوا به؛ كما أخبر بذلك الوحيُ الكريم: ﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [العنكبوت: 53].







لذلك كان ردُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعجالهم العذابَ بقوله:



﴿ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ [الأنعام: 57] إن العذابَ الذي تستعجلونني بإنزالِه ليس مِن أمري أو قدرتي، ولم يفوِّض الله إليَّ التصرُّف فيه، إنه بيدِ الله، ينزله بكم حسَب علمه وحكمته، ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [الأنعام: 57]، إنَّ القضاءَ فيه حُكمًا وإنفاذًا للهِ وحده، إن شاء عجَّل لكم ما استعجلتموه منه، وإن شاء أنظَركم وأجَّلكم، وإن شاء رحِمكم وهداكم إلى صراطه المستقيم، ﴿ يَقُصُّ الْحَقَّ ﴾ [الأنعام: 57] يقول الحقَّ، ويحكُمُ به، ويقضي به، ويخبِر به، ويفصِل بيني وبينكم به، ﴿ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ﴾ [الأنعام: 57]، وهو سبحانه خيرُ مَن يفصل بين الحق وأهله، وبين الباطل وأتباعه، يفصِل بينهما قضاءً؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ﴾ [النمل: 78]، ويفصِل بينهما قولًا؛ كما في قوله عز وجل: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ﴾ [الطارق: 13]، بيدِه سبحانه الأمرُ والنهي، ليس له في ذلك شريكٌ ولا ندٌّ ولا مُعين.







وقد قرَأ نافع وابن كثير وعاصم لفظ: ﴿ يَقُصُّ ﴾ [الأنعام: 57] بصادٍ مهملة مشدَّدة مرفوعة، تبعًا لقراءة ابن عباس، أما الباقون فقرَؤوها بضادٍ معجمة مخفَّفة مكسورة ﴿يَقْضِي﴾، والقراءتانِ في المتواتر، ومعناهما واحد.







ثم لإتمامِ صفات النبوة والبشريَّة في الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان عبوديَّته لربه، وغضَبه لانتهاك حرماته، وبيان حِلم الله عليهم - أمَره تعالى بأن يقول لهم:



﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ﴾ [الأنعام: 58]؛ أي: قُلْ للمشركين أيها الرسول: لو أن أمرَ عذابِكم كان بيدي أو فُوِّض إليَّ، ﴿ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ [الأنعام: 58]، لفصَلْتُ بيني وبينكم؛ غضبًا لربي، وأوقعت بكم ما تستحقونه من العذاب؛ لِما أعلمه من كفركم وإصراركم على الشِّرك والعدوان، ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 58]، ولكن الله سبحانه هو أعلم مني ومن جميع الخَلْق بكفركم ومآل أمركم، يعجِّل مِن العذاب ما تعجيله أصلَحُ، ويؤجِّل ما تأجيله أصلح، أعلمُ بمَن ظلموا بكُفرٍ يموتون عليه وكُتِب لهم به العذاب، وبالذين ظلموا بكُفرٍ وسبقت لهم في عِلم الله الحسنى بالتوبة والإيمان، والعفو والمغفرة.







لقد كان هذا الجوابُ منه صلى الله عليه وسلم للمشركين إذ حاولوا استفزازَه بالتكذيب والتحدِّي واستعجال العذاب، موقفًا إيمانيًّا حدِّيًّا، أخرَج به نفسه من الأمر كله، ولزِم به حدَّ عبوديته وبشريته وتوحيد ربه، فكان بذلك نموذجَ الغضبِ لله تعالى، والنقمة على أعدائه، والتسليم له بما يَقضي في أمر المشركين؛ امتثالًا لقول ربه له: ﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128]، ولكنه صلى الله عليه وسلم في أولِ دعوته وقد اشتدت به محنةُ الاعتراض في الطائف، وقبْلَ أن يتحداه المشركون بسؤال إنزال العذاب، جاءه من ربه - كما ثبت في الصحيحين[4] مَلَكُ الجبالِ، وعرَض عليه عذابهم واستئصالهم، فاستأنى بهم، وسأَل لهم التأخير؛ عسى الله أن يُخرِج مِن أصلابهم من يعبُدُه ولا يشرك به شيئًا، وكان بذلك نموذجَ نبي المرحمة والثقة بالله، كما كان عند تحدِّي المشركين لله نموذجَ الغاضب له عز وجل.




يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]