الموضوع: الفكر والعاطفة
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 11-02-2019, 01:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي الفكر والعاطفة

الفكر والعاطفة


نورا عبدالغني عيتاني




الحمد لله، وبعد:
فليس من السهل إنكارُ حقيقةِ ارتباط الأقوال بقائليها، أو الأفكار بمعتنقيها؛ فالمقولة أو الفكرة جزء من القائل، تدلُّ عليه وتشير إلى حقيقته، وحقيقة المتغيِّرات هي وحدة متكاملة لا تتجزَّأ، وإن كانت في تبدُّل وتغيُّر مستمرٍّ ما لم يُهذِّبْها اليقينُ، ويَمنحها الثبات النوعيَّ المحوريَّ، لذلك حين نقرأ مقولةً أثارت إعجابنا أو لامست شيئًا في داخلنا، ننجذب إليها ابتداءً قبل معرفةِ قائلها وخَلْفيَّته، وربما نصاب بالانبهار لشدَّة جمالها، لكن بعد معرفة القائل والتمعُّن في خلفيته ومنهجه، نصاب بالإحباط، وننسى انبهارنا، وقد نكره الفكرةَ والمقولة، ونزهَد بها لمجرَّد كُرهنا لصاحبها ونفورنا من منهجه؛ فالإنسان كائن عاطفيٌّ من الدرجة الأولى، يتأثَّر بالعاطفة أشد التأثُّر، ويخضع للقلب الذي يُهيمن على سائر أعضائه، وبالتالي فإنَّ هذا القلب إنْ لم يتهذَّب باليقين والإيمان، صارت هذه العاطفة وبالًا عليه، تشدُّه نحو حَتفه، وتَجرُّه خلف ميوله، مهما كانت هذه الميول منحرفةً أو مشوَّهةً؛ لكن حين يُهذَّبُ القلبُ ويخلو من أمراض الشهوات والشُّبهات، ويَسكُنه الإيمان واليقين، تتهذَّب العاطفة وترقى، وتُصبح أكثرَ قدرةً على إرشاد الإنسان إلى طريق الصواب، وتتهذَّب معها ميولُه واختياراته ودوافعه؛ فالمرء حين يَتْبَعُ القلب السليم يعمل بدافع الإيمان، ويسعى لغايةٍ عُظمى هي مرضاة الله وتجنُّب كلِّ أمر يَجلب سخطه وغضبه، فتتهذَّب ميوله ودوافعه الأخرى، وتُصبح أكثرَ ثباتًا وتوازنًا وتأنِّيًا وانتقائيةً أمام المؤثِّرات؛ إذ الإيمان يستولي عليها كافَّةً ويُنقِّيها، ويُطهِّرها، ويغلبها ويسيِّرها بدلًا مِن أنْ تسيِّره، فتتوجَّه بمقتضاه أينما يوجِّهها؛ لتصبح أكثر ارتباطًا بالمثل العُليا والقيم الإسلامية السامية؛ كالصدق، والإخلاص، والفضيلة، والعدل، والخير، والحق، ولتنشد الحقيقة الكاملة.
لعل هذا ما يفسِّر ذاك الشعور بالاغتراب والتناقض والازدواجية الذي يَعترينا حين نقتبس حكمةً من شخص غيرِ مسلم، حتى وإن كانت الحكمةُ تلك لا تتعارض مع الدين، إلا أنَّ منهجيةَ صاحبها كفيلةٌ بجَعْلِها أقلَّ قيمةً ومصداقيةً في عُرفنا، فما نفعُ الحكمة إن لم تُثمر في نفس صاحبها وتحيي قلبه، وتُرشده إلى دربِ الحقِّ؟! لكن لا يعني هذا ألا نستفيد من الحكمة أينما وُجِدَت؛ فكما يقال: (الحكمة ضالَّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحقُّ بها)، وقد قال ابن عقيل: (مِن أكبر ما يفوت الفوائد تركُ التلمُّح للمعاني الصادرة عمن ليس بمحِلٍّ للحكمة)؛ لكن علينا أن نَحذَر كلَّ الحَذَر عند انتقاء الحكمة، والتعرُّف على خلفية قائلها وتبيُّن منهجيته، لضمان عدم تسرُّب الباطل إلينا أو تأثُّرنا به؛ فالمؤمن (كيِّس فطِنٌ)، يتحسَّس موضع قدميه قبل السير؛ لئلا يَزِلَّ أو يَضيعَ، فليس من الحكمة أبدًا إشهار أعداء الدين - وخاصة المجاهرين بعدائهم للإسلام - وإشهار أقوالهم وحِكَمِهم، حتى ولو كانت تلك الأقوال لا تتطرَّق للدين، فإنا بذلك نشجِّع الناس على قراءة كتبهم المليئة بالضلالات، وقد نكون بهذا سببًا في ضلالهم دون أن ندري! فإذا اضطررنا للاستشهاد بمقولةٍ لأحد الضالِّين، وَجَبَ علينا التعريف بمنهجه الفاسد؛ ليعرف المتلقِّي مع أيِّ نوعية من الكتاب يتعامل.
ولأنَّ الإنسانَ كائن عاطفيٌّ، فقد كان من البديهي أنْ تغلب على المسلم عاطفته الأعظم والأسمى، التي تُثْبِت إيمانَه وتصدق أقواله، ألا وهي محبته لله ورسوله؛ فالمرء إذا شتمه أحدٌ أو ذمَّه، كان هذا كفيلًا بجعله يزهَد به وبأقواله، ولو كان قريبًا أو حبيبًا، فكيف بمن يعتدي على الله ورسوله؟ أليس من الأَوْلى أن يُحارَبَ ويُنْبَذَ وتُسَفَّهَ أقواله، ويُضرَب بها عُرض الحائط؟ فإن كانت نفس المسلم عزيزةً عليه؛ فالله ورسوله ودينه أعزُّ وأكرم، وإنَّ غضبَ المسلم لله ورسوله وللحقِّ لأشدُّ وأكبرُ وأعظم؛ لأنَّ حبَّ المؤمن لله ورسوله أكبر من حبِّه لنفسه والناس أجمعين؛ قال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ﴾ [البقرة: 165]، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدُكم حتى أكون أحبَّ إليه مِن ولده ووالده والناسِ أجمعين)).
فمصداقية المرءِ وحُسن إيمانه لا تكمُن في أقواله فحسب، بل بالأفعال التي تصدق ذلك الإيمان، وتُثبت تلك الأقوال، فإنْ كان المرء فعلًا يحبُّ الله تعالى ورسوله، ينصرف عن كلِّ قول أو قائل يُسيء إلى الله ودينه ورسوله، ويغضَب ويعادي مَن يعاديهم، بل يتجنَّب حتى نَقْل الأقوال السليمة التي توافق الحقَّ أحيانًا لمجرَّد أنها خَرَجَت مِن أفواه تُضمر الشرَّ والعداء للإسلام أو تعلنه، وتَرقُب بأبنائه الزللَ والضلال.
ولعلَّ هذا ما يفسِّر تردُّدنا عند مشاركة منشور أعجَبَنا، بسبب صورةٍ مخلَّة بالدين أُرفقت به، وعدولَنا عن شراء رواية أو كتاب أعجبنا بمؤلفه وأسلوبه، بعد رؤية صورة غلافه المخلة بالدين والأدب، فرغم أنَّ غلاف الكتاب الذي نختاره لا يدلُّ دومًا على مضمونه، فإنَّه يعطينا إشارةً سريعةً ونبذةً عامَّةً عنا أولًا، وعن ميولنا ورغباتنا، ودوافعنا الكامنة المستترة خلف ظواهرنا وأغلفتنا، ثم عن صاحب هذا الكتاب وطبيعة أفكاره؛ فإنَّ مَن يوافِق على نشر صورةٍ منحرفة على غلافِ كتابه، قد يُضمِّن كتابه هذا أفكارًا منحرفة، ومَن يوافق على شراء كتبٍ عليها صور مُخلَّة - ما لم يكن مضطرًّا لبحث أو ضرورة - فإمَّا أنْ تكون أفكاره منحرفةً أو قابلةً للانحراف، فالدوافع والميول كما تؤثِّر بالإنسان وتشُدُّه إلى اختيار نوعية الكتاب والكتب التي يَقرؤها، تتأثَّر هي الأخرى بنوعية الكتب المختارة، لذا فعلى الإنسان الذكيِّ العاقل الواعي أن يَحذرَ أشدَّ الحذَر من كُتب الضلالات والشبهات والشهوات التي يتشرَّبُها القلب دون وعي، مهما كانت عقيدة المرء متينةً صافيةً، وقد جاء في الحديث الصحيح: (فمَن اتقى الشبهات فقد استبرأَ لدينه وعِرضه).
والجدير بالذكر أنَّ ذلك اللبس وتلك الشبهات، لا يمكن رؤيتها في كتب الدين والفكر النير السليم؛ فهي كتب سليمة من حيث الشكل والمضمون، ترتاح لها النفس وتتقبَّلها بلا تردُّد، فهنا يكمن الفرق، وهذا ما يفسِّر نفورَ المسلم السويِّ من القراءة للكاتب أو المفكِّر الذي يَخلط الصالح بالطالح، ويُلبِّس الحقَّ بالباطل؛ كأولئك المفكِّرين الإسلاميين الجدد الذين باتوا يدعون إلى الدين عن طريق الاستشهاد بمقولات من روايات منحرفة ومخلَّة بالأدب والذوق، أو أفلام أجنبية ماجنة، أو أغانٍ سخيفة هابطة لمغنيات سافرات تافهات، ضاربين بعُرض الحائط المنهجَ الفاسد والمستوى الهابط لأولئك الذين يستشهدون بهم، ظانين أنهم في هذا يجتذبون الشباب ويحاكون واقعهم وميولهم، وإن كانت ميولهم فاسدةً مشوَّهةً، وواقعهم أشدَّ فسادًا وانحرافًا واضطرابًا، وقد وصل الأمر بأحد المفكِّرين الجدد للقول حرفيًّا أنه لولا هذه الأفلام الأجنبية المتسيبة التي يتابعها، لم تَخرُج معه هذه الأفكار الإسلاميَّة المستنيرة، فتأمَّل يا رعاك الله عن أي استنارة يتحدَّثون، وتأمَّل كيف يفصلون الجزء عن الكل؟ وكيف يَعزلون الفكرة عن الظروف التي نشأت فيها والأجواء التي تخلَّلتها وهي في طور الاختمار؟!
وإنَّ ما يؤكِّد نظريةَ ارتباطِ الفكرةِ بالمفكِّر، واستحالة الفصل الكليِّ بينهما - أنَّ الأحاديث النبويَّة الشريفة لا تؤخذ إلا عن العدول الثقات، ولذا كان رجال الحديث يقطعون الفيافي والأقطار لتصحيح حديث أو معرفة سنده، متحرِّين في ذلك أصدق الرواة وأكثرهم استقامةً وإنصافًا.
من هنا كان الدين - ممثَّلًا بالقرآن والسنة - هو المنهجَ القويم الذي لا شبهة فيه ولا التباس ولا تبديل؛ إذ إنه وحي كامل لا ريبَ فيه، وحين نقتبس منه من المحال أن يُساورنا فيه أي شكٍّ أو ريبة، فنأخذه بلا تردُّد ونحن مطمئنون تمامًا ومسلِّمون بعاطفتنا وعقولنا بأنه أصدقُ الكلام؛ لأنَّا نعلم في قرارة أنفسنا أنَّه كلام الله العليم الحكيم، وهو القائل جل من قائل: ﴿ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، وهو القائل: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وهو القائل: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 3، 4].
من هذا المنطلق، فإنَّ الإنسان أمام خيارين لا ثالثَ لهما؛ إمَّا أن يشوِّه عاطفته ويُميتها، فتدفع قلبه نحو حَتفه، ويصبح عقلًا خالصًا أعمى، وفكرًا جامحًا بلا رُوح، كما في الحضارة الغربيَّة المادية المتطرِّفة، وإمَّا أن يُهذِّبها ويسمو بها، فتُصبح عاطفةً ساميةً تسمو به وبفكره، وتقود عقله نحو درب الرشاد، وقد بيَّن القرآن الكريم في آياتٍ عديدة أنَّ العقلَ محله القلب؛ كقوله تعالى: ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ [الأعراف: 179]، وقوله جل من قائل: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46]؛ فالقلب حين ينجلي ويزال عنه الصدأ والران، يصبح قلبًا مستنيرًا يَعقِل ويَفقه، ويرى بعين البصيرة النافذة، ويَغدو له نورٌ من الله وفرقانٌ يُميِّز به بين الحقِّ والباطل.
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: "العقل يا سادتي فيلسوف أعمى، حكيم مُقْعَد، ينادي بصوتٍ خافت ضعيف، أمَّا العاطفة فهي القوة، هي النشاط، هي الحياة".


وأقول: إنَّ العاطفةَ هي الوقود المنشئ للطاقة والدافع للعمل، فإذا ما تهذَّبت العاطفة واتَّقدت بنور البصيرة، ارتقت بالإنسان، وجعلت قوله وعمله واختياره أسمى فائدةً وأجل قيمةً.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.95 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.76%)]