عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 27-09-2020, 05:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,839
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رثاء الشعراء لأنفسهم


فالموقف عصيب، يُفَجِّر الحزن من الأعماق، ويَزِيده أوارًا ألاَّ يجد من أهله مَن يخفف من غُلَواء عاطفته؛ ولذلك اتَّجه إلى مُلازِميه في كلِّ معركة فاستذرف دموعهم، وما أجمل هذه الصورة الحزينة لحصانه القوي الضخم، وقد هَدَّه الأَسَى على فَقْدِ فارسه، يسحب عنانه على الأرض ليروي ظمأه بعد أن فَقَدَ مَن كان يسقيه، ويتساءَل مستغربًا من أصحابه الذين يدعون له بعدم البعد والفراق:



يَقُولُونَ لاَ تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَنِي

وَأَيْنَ مَكَانُ البُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيَا؟








فشاعرنا بكى بكلماته، وأبكى رفاقه، ومَزَّق قلوب ذَوِيه وأحزن قارِئيه، فكان بهذا أروع شاعر رثى نفسه.



وإذا قلَّبنا صفحات الأدب اللاحِقَة وجدنا شاعرًا عبَّاسيًّا مُقِلاًّ لم تروِ له كتب الأدب إلا أبياتًا، يَستعطِف فيها المعتصم للعفو عنه، إنه الشاعر تميم بن جميل الذي خرج وتمرَّد على الخليفة، وعندما أُلقِي عليه القبض أعطاه المعتصم فرصة الدفاع عن نفسه، فقال: يا أمير المؤمنين، لم يبقَ إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولاهما بإمامتك، ثم قال:



أَرَى الْمَوْتَ بَيْنَ السَّيْفِ وَالنِّطْعِ كَامِنًا

يُلاَحِظُنِي مِنْ حَيْثُمَا أَتَلَفَّتُ




وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّكَ الْيَوْمَ قَاتِلِي

وَأَيُّ امْرِئٍ مِمَّا قَضَى اللهُ يُفْلِتُ؟








فهو مُوقِن بالموت جزاءً على ما قدَّم من تمرُّد وخروج على الخلافة؛ ولذلك فهو يُبرِز لنا أنه لا يَهاب الموت، وكيف يَهابُه وهو مَن هو جُرأة وإقدامًا؟! وكيف يفزع منه وهو مؤمن بقدر الله؟! فيقول:



وَمَا جَزَعِي مِنْ أَنْ أَمُوتَ، وَإِنَّنِي

لَأَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ شَيْءٌ مُؤَقَّتُ








إذًا هو جزع ولكن لا من الموت، إنما هو جزع على أهله صغارًا وكبارًا، وكيف ستكون حالتهم عندما يبلغهم خبر مقتله، ولذلك يبدأ بالحديث العاطفي الحزين الذي يدخل أبياته في رثاء النفس فيقول:



وَلِكِنَّ خَلْفِي صِبْيَةً قَدْ تَرَكْتُهُمْ

وَأَكْبَادُهُمْ مِنْ حَسْرَةٍ تَتَفَتَّتُ








فهو يبكي نفسَه من خلال تحسُّر أولاده الصِّغار، وتفتُّت أكبادهم ونواحهم عليه، وإشرافهم على الهلاك بسبب موته، إنه يبكي من خلال دموعهم ونحيبهم، ويربط سعادتهم وراحتهم بحياته، ويعلِّق موتهم على موته:



فَإِنْ عِشْتُ عَاشُوا خَافِضِينَ بِغِبْطَةٍ

أَذُودُ الرَّدَى عَنْهُ وَإِنْ مُتُّ مُوِّتُوا




فَكَمْ قَائِلٍ: لاَ يُبْعِدُ اللهُ رُوحَهُ

وَآخَرُ جَذْلاَنٌ يُسَرُّ وَيَشْمَتُ








وقد أثمر هذا الرثاء وأنتج؛ فعفا عنه المعتصم وقال له: غفرنا لك الصبوة وتركناك للصبية.



ونجد كذلك شاعرنا أبا فراس الحمداني، هذا الفارس الذي قارَع جيوش الروم، وأوْقَع فيهم حتى قال للدمستق الذي عيَّره بأن العرب أهل الشعر وليسوا أهل حرب:



أَتَزْعُمُ يَا ضَخْمَ اللَّغَادِيدِ أَنَّنَا

وَنَحْنُ أُسُودُ الحَرْبِ لاَ نَعْرِفُ الْحَرْبَا




فَوَيْلَكَ مَنْ أَرْدَى أَخَاكَ بِمَرْعَشٍ

وَجَلَّلَ ضَرْبًا وَجْهَ وَالِدِكَ العَضْبَا؟




لَقَدْ جَمَعَتْنَا الْحَرْبُ مِنْ قَبْلِ هَذِهِ

فَكُنَّا بِهَا أُسْدًا وَكُنْتَ بِهَا كَلْبَا
يتبع









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.52 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.12%)]