عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 16-06-2007, 01:08 AM
الصورة الرمزية عبد الله7
عبد الله7 عبد الله7 غير متصل
عضو متألق
 
تاريخ التسجيل: May 2006
مكان الإقامة: maroc
الجنس :
المشاركات: 579
الدولة : Morocco
افتراضي

إنفصال النجامة وعلم الفلك
يرجع الانفصال الواضح بين النجامة وعلم الفلك إلى نهاية القرن السابع عشر. ومع ذلك لم تكن النجامة في العصور الماضية مندمجة كلياً بالفلك الذي كان يعنى قبل كل شيء بوضع تقويم صحيح. وكانت هذه المهمة واضحة جداً عند البابليين مع أن الشخص نفسه كان المسؤول عن الجانبين. ويمثل بطلميوس بحق هؤلاء الفلكيين والنجاميين في آن واحد. ولعل الهدف الحقيقي للنجامة والفلك كان رؤية نظام ما في حركات السماء كما وفي الحياة على الأرض بعيداً عن التدخلات العشوائية للآلهة. وقد استمر هذا المنظور كما نعلم حتى كبلر، ومعه وبخاصة مع غاليله بدأ الشرخ يتوضح ويتسع بين الجانبين، ولنقل بالأحرى إن العلم بدأ يتمايز عن الخرافة، وإن الحقيقة بدأت تفرض ذاتها بمواجهة الجهل المتوارث. وهكذا لم يعد للتفسيرات النجامية علاقة ما بكون تحكمه الهندسة الإقليدية وقانون الجذب الثقالي لنيوتن.
كانت النجامة خلال عصر النهضة مقبولة في أوروبا كلها. فقد حدد البابا جول الثاني II Jules تاريخ تنصيبه وفق تعليمات أحد المنجمين! وكانت الكنيسة الكاثوليكية قد كفت يدها عن التنجيم. كذلك حددت ملكة بريطانيا إليزابت الأولى وكانت بروتستانتية تاريخ تتويجها بحسب توصيات أحد المنجمين. ومع ذلك فقد كانت النفحة الإنسانية القوية في بداية عصر النهضة معاكسة لفكرة أن يكون الانسان خاضعاً لقوى خارجية. فشكسبير مثلاً يعبر عن بداية تساؤل حول صحة تأثير النجوم علينا على لسان كاسيوس في "يوليوس قيصر": «الخطأ يا عزيزي بروتوس ليس خطأ النجوم بل هو قائم فينا». ومع ذلك فإن يوليوس قيصر يُقتل في المسرحية لأنه لم يأخذ على محمل الجد أحلام زوجه التنبيهية ولم ينتصح من أحد العرافين !
لكننا نجد وضوحاً أكبر لنفي صحة التنجيم عند كبلر الذي كان هو نفسه منجماً كبيراً! فعلى الرغم من أنه أحد مؤسسي علم الفلك الحديث، لكنه أمضى جزءاً كبيراً من حياته في التنجيم مثل معظم فلكيي عصره وأهمهم غاليليه وتيخو براهي. وكان كبلر قد نشأ في وسط من الخرافات ومن أب منجم أيضاً، لكنه ترك بلدته وذهب إلى الجامعة ليدرس الرياضيات، وهو يعترف بأنه لم يكن يعرف كيف يمكن أن تؤثر السماء على البشر، ويؤكد بأنه إذا كان يمكن للسماء أن تحدد بشكل ما نمطاً بشرياً عاماً لكنها يستحيل أن تتدخل في تفاصيل الحياة اليومية أو حتى المصيرية كما يدعي المنجمون.والحق أن كبلر تميز عن المنجمين برؤيته الفيزيائية الأصيلة إذ كان يبحث عن الأسس الفيزيائية لتأثير الكواكب المحتمل، وكان من جهة أخرى يقوم برصد منهجي مما قاده إلى اكتشاف قوانين حركات الكواكب. وانتهى به الأمر إلى رفض النجامة، وإن كانت المعرفة بالنسبة له ذات وجهين أحدهما رياضي وأكيد والآخر فيزيائي وتخميني. وقد قبل كبلر منظومة كوبرنيكوس التي تدور وفقها الأرض حول الشمس. ومنذ ذلك الحين كان على المنجمين أن يقبلوا بأن الأساس الذي بنيت عليه تصوراتهم للعالم خاطئ تماماً.
وهكذا تحول التنجيم إلى نوع من التنبؤات الآنية لحياة الأفراد اليومية، أو إلى ضرب من الإحتيال حيث ظهر من ادعى بقدرته على تحديد السارق مثلاً إذا أمكن معرفة ساعة السرقة بالضبط أو شروط أخرى كانت مستحيلة إنما كافية لتدخل المال إلى جيب المنجم! ومن الأسئلة التي كانت تطرح على المنجمين ولم يكونوا ليجدوا حرجاً في الاجابة عليها نذكر أمثلة أخذت من مذكرات أحد أشهر المنجمين في انكلترا (وليام ليلي William Lilly مذكرات 1654-1656): «هل ضروري أن يذهب ابني إلى الحرب؟ وهل سيرجع سالماً؟ هل حسن أن أترك منزلي وأذهب لتعلم مهنة؟ وهل سأنجح فيها؟ وهل سيشنق زوجي بسبب الإثم الذي اقترفه؟ وهل ستبلى زوجتي من مرضها؟...»كان أحد أهم المواضيع التي لجأ إليها المنجمون ليستمروا في مهنتهم هو اكتشاف الجناة في مختلف الجرائم والجنح. وقد وضع المنجم ليلي مؤلفاً شرح فيه بالتفصيل هذه الناحية، وأكد فيه أنه يستطيع معرفة إذا كان شيء ما قد سرق أو أنه اختفى من تلقاء ذاته! وأكد أنه يستطيع معرفة عمر السارق وجنسه وحتى لون ثيابه ومعرفة الحرف الأول من اسمه، وذلك كله من خلال مواضع وإشارات الأبراج والكواكب. لكنه كمنجم شريف كان يقول إنه لا يؤمن بالمنجمين الذي يدعون القدرة على معرفة اسم السارق كاملاً! وأحد أهم المواضيع التي كانت تجتذب الزبائن ولا زالت حتى يومنا هذا هو معرفة تاريخ الموت. وكان ليلي يطلب من طلابه الحذر في إعلان موعد وفاة الناس إذا عرفوه! والحق أن ليلي هذا كان مدركاً تماماً لخطر التنبؤات التي يمكن أن يظهر خطؤها بسهولة فيفقد سمعته بسببها، وكان ذلك حال كل متنبئ جيد يعرف كيف يحافظ على شهرته! أما المسائل التي كان يستطيع الاجابة عليها بعد دراستها بعمق فكانت كالتالي: هل يجب أن أتزوج أم لا؟ من هي أو هو الأنسب لي للزواج؟ هل هذه المرأة غنية؟ كم من الأطفال يمكن أن تنجب؟ وكان موت ليلي في إنكلترا على الأقل نهاية عهد التنجيم. وبعد موته بعشر سنوات نشر نيوتن كتابه المبادئ، ومذاك أصبح علم الفلك علماً رصدياً ورياضياً وانفصل نهائياً عن النجامة التي باتت تُعدُّ تشويهاً للعلم والحقيقة.

نهاية النجامة
شهد القرن الثامن عشر ـ عصر الأنوار ـ تراجعاً كبيراً لشعبية النجامة. وكان الفلكيون يحصدون بالمقابل شعبية متزايدة مع اكتشافاتهم المدهشة. فقد اكتشف هرشل Herschel أول كوكب شمسي جديد هو أورانوس واضعاً بذلك النجامة بمنظومتها السباعية الأجسام في مأزق حرج. والحق أن النظام البطلميوسي القديم كان قد انهار تماماً، ومع انهياره لم تكن النجامة وحدها التي عانت من المشاكل! فكافة المعتقدات القديمة كانت بشكل أو بآخر ترتكز على هذا النظام، وبانهياره سقطت مركزية الأرض ومنظومة السموات السبع والكواكب السبعة وتضعضعت كافة المنظومات العقائدية التي تقوم معرفتها الكونية على النظام البطلميوسي. وسرعان ما اكتشف كوكبان جديدان هما أورانوس وبلوتو إضافة لآلاف الكويكبات. ومع تطور التقنيات الرصدية بعد منتصف القرن العشرين بخاصة عرفنا أن كوننا ليس أوسع فقط من منظومتنا الشمسية بل ومن مجرتنا أيضاً، إذ أمكن للمرة الأولى معرفة بنى كونية هائلة لا ترى بالعين المجردة ولا تشكل مجموعتنا الشمسية فيها سوى هباءة! ولم يكن بإمكان أحد من القدماء بحال من الأحوال معرفة شيء عن هذه البنى وعن هذا الكون الذي تبين أن اتساعه وعظمته يفوقان بما لا يقاس كافة التصورات العقائدية القديمة التي كانت تنسب للآلهة، ثم عند المنجمين الجدد لله نفسه.
وكان علماء الفلك قد تجاوزوا بأرصادهم المنظومة الشمسية واكتشفوا في البداية أن هناك منظومات نجمية غير منظومتنا. فإذا كانت النجوم المزدوجة تدور حول بعضها فلم لا تؤثر على البشر أيضاً كالكواكب؟ وبالمقابل كان الفلكيون قد أثبتوا أن الشمس ليست كوكباً، وهو حال القمر أيضاً، وأن النجوم الثابتة ظاهرياً ليست كذلك في الواقع. وهكذا توالت الأسئلة على النجامة، وأهمها كان «لماذا لم تكشف المنظومة النجامية، إذا كانت متجانسة، عن خلل ولو بسيط في التنبؤات كما كان الحال بالنسبة للعلم مما أدى إلى اكتشاف الكواكب الجديدة في المجموعة الشمسية؟» وإذا كان تأثير النجوم يتعلق بقوة مجهولة فإن هذه القوة لا بد أن يضعف انتشارها عبر المسافة . أما إذا كان التأثير النجامي مستقلاً عن المسافة فلماذا لا يوجد نجامة للنجوم البعيدة والمجرات والكوازارات؟ وكانت هذه الأسئلة أشبه بسؤال ساخر يوجه للمنجمين: فلو كان موروثهم صحيحاً فلماذا لا يتنبأ أحدهم بجائزة لوتو مثلاً أو يعرف تقلبات الأسهم في البورصة ويُعلم وكيله بذلك؟ لقد شكلت الإكتشافات الفلكية حقاً ضربة قاسية ومتلاحقة للنجامة.
ومع ذلك فقد عادت النجامة للظهور في القرن التاسع عشر مع الرومانسية وعودة الحركات الباطنية، وكانت جاذبيتها هذه المرة تعتمد على القدرات الخارقة التي كانت تعد بها مقارنة بالصناعة والتكنولوجيا. وهكذا تحولت النجامة إلى الجمعيات الباطنية والسرانية إنما دون إهمال الجوانب العملية للحياة كالمهنة والمال والزواج. وظهر في إنكلترا خلال هذه الفترة منجم اسمه ربتشارد موريسون Richard Morrison أسس مجلة كان من بين اهتماماتها التنبؤ بمصائر الشعوب، ويمكن أن نقرأ فيها مثلاً "إن سيف الموت المريع يتقدم نحو هذا البلد، وستحدث بلبلة في السوق المالية" إلخ.
ما هي المشاكل التي واجهتها النجامة؟ إن الطالع الفلكي هو جدول يرتكز على كون مركزه الأرض، مما يعني أن النجامة لا تزال ترتكز على النظام البطلميوسي. والحق أن النجامة لم تستطع التحول أو التأقلم مع النظام الكوبرنيكي، وهو تحول لن يعني شيئاً في المحصلة لأن المنجمين يأخذون تأثير الكواكب تبعاً لمواضعها بالنسبة للأرض المركزية. وبالمقابل، فإن إمكانية إنشاء نجامة اعتماداً على منظومات غير المنظومة البطلميوسية يظهر كم أن النجامة لا ترتكز على أسس صحيحة أو حتى متجانسة بغض النظر عن منظومة الإسناد التي تستند إليها. ومن جهة أخرى يمكن أن نتساءل عن الذين يولدون في الشمال القطبي أو في الجنوب القطبي، فهل أن غياب الأبراج في هذه المناطق خلال شهور طويلة يعني أن شخصية هؤلاء الناس لم تتطور بالنسبة للذين يولدون قرب الخطوط الأقرب إلى خط الاستواء؟ أليس من الأفضل أن نفسر اختلاف شخصية هؤلاء البشر اعتماداً على المناخ المختلف للمنطقة القطبية؟
ومن جهة أخرى، كيف سنفسر أثر الرحلات الفضائية على القواعد النجامية؟ لم يكن القائلون بتأثير الكواكب ليتخيلوا إمكانية السفر بين الكواكب والوصول إليها لا بل والنزول عليها! ولم يكن خيالهم ليتجرأ على الافتراض بإمكانية السفر عبر سمواتها السبع بل وإلى أبعد من ذلك بكثير والانفتاح على عوالم أرحب وأوسع! ترى أي أثر كان للمنازل ـ المرتبطة بالأفق الأرضي حصراً ـ على رائد الفضاء نيل أرمسترونغ Neil Armstrong عندما مشى على سطح القمر؟ وإذا أجرينا حسابات الطوالع الفلكية على القمر آخذين بعين الاعتبار تأثير الأرض فهل سيكشف ذلك عن شخصيات جديدة وغير متوقعة؟ من المرجح أن أطفالاً سيولدون في القرن القادم على القمر أو حتى على المريخ، فما سيكون طالعهم؟! وأخيراً، لو افترضنا وجود حياة عاقلة غيرنا في الكون، وهذا شبه مؤكد، فإن دائرتهم البروجية ستكون مختلفة عن دائرتنا تماماً، ومؤلفة من نجوم غير التي نراها من على الأرض. فماذا سيعني لهم عندها برج الجدي أو الجوزاء؟
يرد المنجمون والمؤيدون للنجامة على هذه الحجج كلها بأنها ظروف واعتبارات لم يأخذها المنجمون بحسبانهم، وأنه يمكن بناء مخططات تتوافق مع هذه المعطيات العلمية الجديدة! ومثالهم في ذلك أن المنجمين بعد اكتشاف أورانوس مثلاً أضافوا تأثيره إلى خرائطهم مع ملاحظة أنه يؤثر على المدى البعيد عبر أجيال متعاقبة!! والحق أن هذا الموقف يشبه إلى حد بعيد حجة الذين يدافعون عن موروث لم يعد صحيحاً فقط لأن هذا الموروث يرضي جانباً في نفوسهم هو الركون إلى الحلول الجاهزة والخوف من مواجهة المجهول وجهاً لوجه. إن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه على هؤلاء هو ما مبرر النجامة أصلاً، ولم يجب أن يضاف إليها دائماً الجديد من المكتشفات بحيث تستمر وهي لا تقوم أصلاً على أساس صحيح؟
يتبع.............................................. ..............................
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.53 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (2.88%)]