عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 07-04-2021, 03:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: يوسف بن يعقوب بن إسحاق

يوسف بن يعقوب بن إسحاق (2)

د. محمد منير الجنباز


﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [يوسف: 30] وبالرغم من التكتيم عما حدث فإن ما يجري في البيوت الكبيرة ودور المسؤولين لا يبقى طي الكتمان، فلا بد من تسرُّبه؛ لأنها دائمًا محط أنظار كثير من الناس، وتسلط عليها الأضواء؛ ليصنع من حركاتها الخبر، وتكون للعامة ملح التندر والسهر، "قال الملك، وفعل الملك، وقالت زوجة الملك، وابنة الملك الوحيدة المدللة، وكل حكايات الناس عن الملك وحاشية الملك".



وشاع خبر امرأة العزيز في عشقها لفتاها؛ أي: مملوكها، وقالوا: قد شغفها حبًّا، وهذه العبارة تمثل قيمة البلاغة في التعبير عن تملك الحب في القلوب بأنه دخل في شغاف القلب وغلب عليه، فهذه لوعة الحب، وإذا وصل الحال بالمرأة إلى هذا الحد فقد خضعت المرأة بلا إرادة لهذا العشق الذي لا فكاك منه، فلا ترى الحبيب إلا من خلاله، ولا تسعد إلا به، حتى ولو اكتوت بناره التي تراها بردًا وسلامًا، وذكر أن من نشر الخبر نسوة ممن كن يعملن داخل القصر، وهن "امرأة ساقي العزيز، وامرأة صاحب دوابه، وامرأة صاحب سجنه، وامرأة حاجبه، وامرأة خبازه"، فكن خمسة نسوة خرج السر من عندهن وشاع في المدينة، وقد خطأها الجميع ولم يعذِرْنها، ولا أظن أنهن كن سيتصرفن خلاف ما تصرفت لو كن في مثل حالها، والنساء أكثر من يعرف هذا، لكن أردن التشهير ونيل الحكمة والشرف من الحط بها وبما فعلت، لكأن لسان حالهن يقول: لا تستأهل هذا العز ونحن من يستأهله؛ فلسنا مثلها تعشق فتاها الكنعاني، يا ويح ما فعلت! ويا سوء ما اقترفت!.



﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31] ولما شاع الخبر، وبدأت القالة ضدها، واغتَبْنَها أشد الغِيبة، لم ترد القول بالقول، أو تنفِ ما قيل، بل أرادت أن تثبت لهن بالممارسة العملية دون أن يدرين ما ترمي إليه، فدعتهن إلى حفلة، وزادت عدد المدعوات حتى بلغن أربعين، ثم أعدت لهن متكأ ليجلسن جلسات الأكابر المترفات، وأعدت طعامًا وفاكهة لا يصلح تناولها إلا باتخاذ السكين للقطع، ولما اطمأنت إلى أنهن أخذن أماكنهن، قالت: ﴿ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 31]، وقد ألبسَتْه فاخر الثياب والحُلَل البهية الفاتنة، فكان فتنة للنساء اللاتي يعشقن بفطرتهن جمال الرجال، ويذُبْنَ هوًى وشغفًا في افتتان، ﴿ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ﴾ [يوسف: 31]، وكانت المفاجأة الكبرى، هذا الفتى الذي تكلمن عنه يخرج الآن كأجمل ما يكون عليه الرجال، فلما رأينه أكبرنه وأعظمن شأنه، وهبن ذلك الحسن الرائع والجمال الفائق، وعرَفْنَ من سيما يوسف أنه عريق المحتد، من أصل طيب رفيع، وليس مكانه أن يكون رقيقًا، فهذا الجمال لا شك ملائكي، فقد نزهن الله عن الشريك ﴿ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا ﴾ [يوسف: 31]! ولهول الدهشة قطعن أيديهن؛ أي: جرَحْنها دون شعور بما يفعلن، فلم يحسسن بألم الجراح، فقد خلب اللب بجماله، وفتنت العقول بطلعته الوضاءة، فعذَرْنَ زليخا أن وقعت في غرامه، وهي التي تراه كل يوم ويجاورها في أكلها وشربها ومنامها، أليس غلامها القائم على خدمتها؟! فقد غلبها حبه.



وفي الحديث الشريف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مررتُ بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء، فقلت لجبريل: من هذا؟ فقال: يوسف))، فقيل: يا رسول الله، كيف رأيته؟ قال: ((كالقمر ليلةَ البدر)).



فهل ستتخلى زليخا عن يوسف - وهو الذي شغفها حبًّا - بعد هذا؟ لقد تمسكت بموقفها أكثر من ذي قبل، وأعلنت بلا خفاء أنها تحبه، وما زال طلبها قائمًا، ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [يوسف: 32]، وكأن هذه الحفلةَ قد أعطتها المبرر لما أقدمت عليه، فازدادت جرأتها على التصريح بطلب الفاحشة، وقد ضربت بالقيَم والمثل السائدة في مجتمعها عرض الحائط، إنها لا ترى سوى الاستئثار بيوسف والاستمتاع به؛ لذلك التفتت إلى النسوة اللاتي قطعن أيديهن قائلة: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ﴾ [يوسف: 32]، أألام بعشقه؟ ولم تقل: أهذا، وهو قريب منها مشاهد غير غائب، فأشارت إليه باسم الإشارة للبعيد؛ رفعًا لقدره وشأنه، وأنها عشقت فتى يستحق هذا العشق، وأنه بالرغم مما حدث من ممانعة لما دعوته إليَّ وتكبر على طلبي، فإنه ما زال في شغاف قلبي، يأسره بقوة لا فكاك عنها إلا بأن يستجيب لي، نعم أقول الآن بمنتهى الصراحة: أنا الذي راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع وأبى أشد الإباء، وبعد افتتانكن به علق قلبي به أكثر وأكثر، وإن لم يفعل ما آمره به لأنكلن به فينقلب حبي بغضًا يخالطه الانتقام لكبريائي الذي جرحه، لأسجننه وليكونًا في هذا السجن ذليلًا صاغرًا بعد أن كان في بيتي عزيزًا منعمًا، وهكذا أعادت عليه طلب مواقعتها مع تقديم إغراءات في رفع لمنزلته ليكون وجيهًا من وجهاء بلدها، وقد خيرته بين الأمرين، فقال: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، لقد فضَّل السجن على ارتكاب الإثم، وهو هنا أقوى إرادة وتمنعًا مما كان عليه يوم خلت به وقالت: هئت لك، فلما مر ذلك الامتحان الصعب بسلام كان ما بعده أسهل، فليس ما يأتي من كلام في الحب والعشق بعد الصدمة الأولى يثمر مع يوسف، فقد سبق أن قلاه عند قمة الإغراء، وها هو ذا يختار السجن، بل ويقول: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ ﴾ [يوسف: 33]، لكأنه يستجير بالسجن تخلصًا من إغراء زليخا، وهروبًا من ملاحقتها له، وهو يدرك وحشة السجن وظلمته، لكنه فضله على فعل الفاحشة، أو قل: فضَّل سجن الجسد على سجن النفس، فلو طاوعها لكن سجن نفسه عندها وأصبح رهين هذه المرأة التي لا تعرف إلا إرواء ما تأجج عندها من عُرَام الجنس، ثم شكا أمره إلى الله، وطلب عونه: ﴿ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]، وهنا لم يذكر زليخا بضمير المفرد، ﴿ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ﴾ [يوسف: 33]، ﴿ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ﴾ [يوسف: 33]، فهل تحول اللاتي قطعن أيديهن كلهن إلى راغبات فيه، طالبات منه اللذة والهوى؟



رُوي أن كل واحدة من النسوة طلبت منه معاشرتها، وقالت: ما لك وزليخا أنا أجمل منها؟! فعلى هذه الرواية يصح شكواه منهن جميعًا، وروي أن النسوة قالوا له: أطِعْ سيدتك، وعلى هذا تصح شكواه منهن، ويصح أيضًا أنه عد زليخا نموذجًا لكل النساء، فكانت شكواه منها تمثل الشكوى من جميع النسوة، لقد طلب المعونة من الله بأن يصرف عنه كيد زليخا ومَن آزرها من النسوة، وإلا يصبُ إليهن؛ أي: يَمِلْ إليهن، وينسَقْ في طريقهن، وهذا ما لا يريده، ويطلب من الله العصمة؛ ليبقى نزيهًا طاهرًا، فلا يهمه غربة السجن ولا ظلماته؛ حبًّا لله وطاعة له: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف: 34]، وجاء عونُ الله يوسفَ، فلم يتخلَّ عن عبده، وهو معه، ولن يجعل لإبليس وأعوانه عليه سلطانًا، وعملت زليخا بعد هذا الصد من يوسف عملها في الكيد له، وانقلب عشقها له بغضًا، وزفراتٍ غضبى، كالنار تود لو تصليه بها، ثم أقنعت زوجها بسجنه متظلمة باكية شاكية؛ فقد أصبحت - بسبب تعرضه لها بالسوء كما ادعت - يلوكها كل لسان، ولن يسكت صوت الناس الغمازين واللمازين لها إلا بالتخلص من يوسف وتغييبه في السجن، ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ﴾ [يوسف: 35]؛ فكل الدلالات تظهر عفة يوسف وبراءته، وزوجها يعرف ذلك، ولكن لا يرد لها طلبًا؛ فهو المقصر معها جنسيًّا، وبهذه العلة أصبح مطواعًا لها، وأرى أنه طاوعها على سجن يوسف ليكسب من هذا السجن أمرين، الأول: تنفيذ رغبتها، والثاني: إبعاد يوسف عنها؛ لعلها تنساه، فهو يدرك أنها هي التي تسعى وراءه وتراوده عن نفسه، وأظن أنه لم يخفَ عليه أمر النسوة واجتماعهن وفشو أمرهن وهو الذي له منصب كبير يستوجب أن يكون له عيون تنقل له الأخبار، وهذا سمة لكل صاحب منصب خطير، وبهذا يكون العزيز قد رأى أنه من مصلحة الجميع تغييب يوسف في السجن حتى حين، واستعمال كلمة حين تؤيد هذا الاتجاه؛ لأنها كلمة تتسع وتضيق، وهي لا تحدد مقدار الزمن، وهذا يعني لحين نسيان أمره من قبل زليخا، وينقطع فيه كلام الناس، فقد تطول المدة وقد تقصر، وقد وردت (حين) في القُرْآن بمعنى أربعين سنة: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ﴾ [الإنسان: 1]، ووردت بمعنى الدهر بطوله: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ﴾ [البقرة: 36]، ووردت بأنها تساوي سنة: ﴿ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴾ [إبراهيم: 25]، ووردت بأنها تساوي يومًا: ﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [الروم: 17]، وكانت تجرِبة قاسية لنبي في السجن، لكن ترافَق دخول يوسف السجن مع اثنين من خدم الملك؛ صاحب خبزه، وصاحب شرابه، وقد نمي إلى الملك أنهما أرادا دس السم في طعامه وشرابه فزجهما في السجن ليرى فيهما رأيه، وربما كان ممن آنسَا يوسف بوجودهما؛ كيلا يستوحش من ظلمات السجن، وكان يوسف كثير الذكر لوالده ولمعتقده ودينه، ويدعو إليه، وكان يعطي الأمل للمسجونين أن مع الصبر الفرَج، ونيل الثواب والأجر، فكانوا يقولون له: ما أحسن وجهك! وما أحسن خُلقك! ويقال: إن رئيس السجانين قد أحبه ورق لحاله، وقال له: لو استطعت خليت سبيلك، وما بمقدوري هو أن أحسن جوارك ومعاملتك، وخيَّره في أي بيوت السجن يحب أن يُقيم فليُقم، وكان يفسر لنزلاء السجن الأحلام مدة إقامته، فسر حلم الفتيين اللذين دخلا السجن معه: ﴿ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، فقصَّ كل واحد منهما حُلمه الذي رآه، وانتظرا التفسير؛ ثقة منهما بيوسف وخُلقه ودينه، فقال يوسف بلُغةِ الواثق من تفسير الحلم بالاعتماد على الله تعالى الذي أعطاه هذه الميزة وعلَّمه تفسير الأحلام، ثم قدم لهما مقدمة تعريفية مختصرة عن الإيمان، وأن الله تعالى آتاه تفسير الأحلام وأوحى إليه بالنبوة: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَب ﴾ [يوسف: 37]؛ فالإنباءُ عن المغيَّبات لم يكن ليوسف قبل هذا، ولكن بعد دخوله السجن ذكر النبوة والإنباء، وأن الله علمه ذلك بكشف هذه المغيبات له، فقد أخبر السجينين بأن أي طعام يأتيهما إلى السجن فإنه يستطيع بإذن الله أن يخبرهما بنوع الطعام قبل أن يصل إليهما، وهذا ليس من الرجم بالغيب أو السحر؛ إنه مؤكد؛ لأن الله أخبره به وأطلعه عليه، وهذا العلم هو من الآيات المؤيدة لنبوة يوسف عليه السلام، ثم أخبرهما بأنه ينتمي إلى ملة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولا ينتمي إلى هؤلاء الذين يعيش بينهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، حتى حينما أصبح عزيز مصر فيما بعدُ عمِل بجد وأمانة لصالح أهل مصر، لكنه لم يفلح معهم في نشر دعوة التوحيد؛ حيث أصروا على دينهم، وقد أكد القُرْآن ذلك في سورة (غافر): ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]، فهذه الآية أعطت موجزًا عن دعوة يوسف في مصر، التي لا نعرف عنها الكثير، ونعود إلى السجينين، وتركيز يوسف على تعليمهما التوحيد، ونبذ عبادة الأصنام: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39، 40]، وهنا مال إلى المنطق في عرض دين التوحيد، والمقارنة بين اتخاذ أربابٍ متفرقين من الأصنام التي صنعها البشر بأيديهم بأشكال مختلفة وتصورات خيالية خاطئة بعيدة عن الواقع، وقد منحها الإنسان بنفسه أسماءً وألقابًا، فهل يمكن لهذه المصنوعة الحقيرة أن تكون أربابًا صانعة خالقة؟ لا يقول بهذا إلا ضعيف العقل والتفكير، نزل بفكره إلى درجة منحطة أدنى من الحيوانات، فاعلما أن الحكم لله لا لغيره؛ فهو الذي أمرنا بعبادته وحده؛ لأنه دين الله القيِّم، والناس بغفلتهم منشغلون عنه لاهون، قد غشهم ما عند المعابد الوثنية من هيمنات الكهَّان، وزخرفات الرسامين والنحاتين، الذين خدعوا الناس بهذه البهرجات والطقوس، فمالوا إليها وخدعوا بحقيقتها، وكان هذا الدرس لهما؛ لأنه علم من الرؤيا التي قصاها عليه أن أحدهما هالك، فأراد أن يفيده في آخرته ليسلَم، وهذا من الرحمة التي غرسها الله في الأنبياء، وبعد هذا الدرس الجلي عن التوحيد التفت إلى تفسير رؤيا صاحبيه في السجن: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ﴾ [يوسف: 41]، وهكذا أبلغ كلًّا منهما عن تفسير حُلمه بمنتهى الصراحة، ولم يُخفِ شيئًا من التفسير، بل قال للذي سينجو: إنك ناجٍ، وستعود لتكون ساقي الملك، وقال للذي سيهلِك: إنك هالك، وستُصلَب حتى الموت، وستأتي الطيور الجارحة لتأكل من رأسك، وأن هذا الأمر قد قدره الله، وحكم به، فهو مَقْضِيٌّ واقع لا محالة، وجاء العفو من الملك للساقي، وأذن له بالعودة إلى عمله، فخرج من السجن فرحًا مغتبطًا، وأوصاه يوسف أن يرفع قضيته إلى الملك ويخبره بأن يوسف سجين مظلوم، فوعده الساقي بإخبار الملك بأمره، واقتيد الخباز إلى خشبة الصَّلب، فصُلب، وأكلت الطير من رأسه، ومضت عدة سنين غرق فيها الساقي بنعيم الملك وأبهة القص،ر فنسي السجن وأيام السجن، ونسي ما وعد به يوسف، وكان ذلك النسيان من عمل الشيطان؛ وذلك للكيد ليوسف العابد الموحد؛ فإن الشيطان عدو الناس، وعدو المؤمنين بشكل أخص، فطال سجن يوسف لهذا النسيان بضع سنين، والبضع ما بين الثلاث والتسع، ورُوِي أنه مكث سبع سنين، ولم يذكر الساقي يوسف إلا عندما رأى الملك رؤيا هالَتْه وألحت عليه، فاهتم لها وطلب من يعبر له هذه الرؤيا، وكلما أتوه بمعبر عجز عن فهمها، حتى قالوا له: أضغاث أحلام لا تفسير لها؛ أي: إن ما رأيت هو أخلاط وأباطيل، وربما كانت من حديث النفس وأحلام اليقظة ووسوسة الشيطان، وهذه الأنواع من الأحلام لا تفسير لها عندنا، لكن الملك كان مهتمًّا لتفسير هذا الحُلم، وكان يراوده كثيرًا، ويود لو أفلح أحدٌ في تفسيره، لقد شغل به كثيرًا حتى أثر على مزاجه، فلم يعُدْ يطلب الشراب كما كان، وهنا فطن الساقي إلى أمر يوسف وقدرته على تأويل الرؤيا، وعليَّ أن أخبر الملك بأمر يوسف: ﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ﴾ [يوسف: 45]، أرسِلوني إلى يوسف في السجن؛ فهو العالم بتأويل الرؤى، وسُرَّ الملِكُ لهذا الخبر المبشر بتأويل رؤياه، فأذن له، وانطلق سريعًا إلى السجن: ﴿ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ ﴾ [يوسف: 46]، وذلك مِن فرحة الساقي؛ لأنه ذكر يوسف بعد نسيان، فكان هذا النعت ليوسف بالصِّدِّيقية بمثابة اعتذار له عن النسيان؛ لأنه سيحظى عند الملك وترتقي مكانته إن عاد له بتفسير الحُلم: ﴿ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 46]، فما كان من يوسف إلا أن أجاب هذا الساقي لصحبة السجن، ولم يخيِّب أمله، أو يشرط له شروطًا تعجيزية أو مكاسب شخصية؛ لأنه يعُدُّ تأويل الرؤى لمن سأله التعبير واجب الأداء، وبلا مقابل؛ لذلك أسرع إلى الإجابة، فقال: ﴿ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾ [يوسف: 47 - 49]، وقد زاد على التأويل علمًا مستنبطًا؛ زيادة في توفية الرؤيا حقَّها، وإيحاءً لهم أنه يؤولها بالوحي، لا بالاجتهاد الشخصي؛ وذلك لبيان أمور لم تكن في الرؤيا لصالح الرؤيا، وكمال الصورة لأحداث هذا الحُلم، ومنها:

﴿ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ﴾ [يوسف: 47]، وهذا تعليم بالعمل الجاد وعدم التراخي في العمل لما يرونه من وفرة المحاصيل؛ فإن لها ما بعدها من السنين العِجاف.



﴿ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ﴾ [يوسف: 47]، وهذا تعليم كيلا يسوس في مدة التخزين الطويلة فيما لو درسوه.



البشارة بالعام الثامن بأنه عام خير وبركة على غير أعوام الخصب الأخرى؛ لأن الناس فيه سيكونون في بحبوحة ورغد، فيغاثون بالماء، فيزرعون ويحصدون غلالهم ويعصرون عنبهم وزيتونهم وسمسمهم، ويكون هذا العام كأحسن الأعوام خصبًا ووفرة نماء.



وما إن وصل هذا التأويل إلى الملك حتى سُرِّي عنه، وزال عن كاهله حملٌ ثقيل وعبء أطَّ له ظهرُه، وما شعر بالراحة وهدوء البال إلا بعد سماع هذا التأويل؛ لذلك نادى بملء صوته: ائتوني به، ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾ [يوسف: 50]، مخاطبًا أعوانه المقربين والساقي معًا؛ لكي يخرجوه بأمر الملك، ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ ﴾ [يوسف: 50]، رسول الملك الذي هو الساقي؛ لأنه هو الواسطة بينهما، جاء يحمل البشارة ليوسف بالعفو عنه والبشر والسرور على محياه، ألم يبشره يوسف برضا الملك عنه وعودته إلى السقاية واسترداد مركزه الذي أحبه وقربه من الملك؟ فجاءه بالبشارة مكفرًا عن نسيانه ومغتبطًا برؤيته يخرج من السجن ليتنسم عبير الحرية، لكن يوسف كان له رأي آخر وهو مظلوم متهم بالتحرش الجنسي بزوجة العزيز، إنه لا يهتم بالحرية - مع أنها غالية ومطلب كل إنسان - إلا أن براءته والاعتراف من المسؤولين عن زجه في السجن ظلمًا دون ذنب جناه، بل كان على هؤلاء المسؤولين أن يكرموه لعفته ونزاهته، فالبراءة مما اتهم به هي الأهم من الخروج من السجن، ولو تنازل عنها لكانت وصمة لا تمحى أبد الدهر، إنه يعرف براءة نفسه، ولكن من يقنع الناس ببراءته وهو النبي الداعية إلى الإيمان وإلى الطهر والعفاف؟ أقلها أن يقول الجاهلون: لولا أنه ارتكب ما يدعو إلى العقاب لما عوقب، وهل يصلح لإصلاح الناس نبي متهم؟ وبماذا يختلف عن بعض قياديي اليوم من ذوي التاريخ الملوث الذين يتصدون للقيادة، حتى وإن كان سجله ملوثًا؟ قد تكون أبواق دعايتهم تعمل لحين ما على تطهيرهم، لكن يوسف ليس أمامه إلا ما أشيع بين الناس: ﴿ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 50]، وعلى هذا الجواب ربما يكون قد أطفأ البسمة على شفتي الساقي، ولسان حال يوسف يقول: إذا كنت أنت قد تعجلت في الخروج وفرحت بالعفو فلم تخفِ بالغ سرورك، لهذا لم تسأل الملك: لِم اتهمك وزجك في السجن طالما أنك بريء؟ فأنت لا تهمك سمعتك، فأنا نبي ابن نبي، سمعتي مهمة، ولا بد من البراءة والاعتذار، وإعطائي المكانة التي أستحقها، وعاد الساقي وصحبُه إلى الملك يحملون له هذا النبأ: لن يخرج يوسف إلا بتبرئته مما نسب إليه، وذكر أمر النسوة، ولم يذكر صاحبة المشكلة، قيل: لأنها من الأسرة المالكة؛ كيلا يسيء إليها فيتأثر الملك بذلك، ولكن أرى أنه ذكر النسوة؛ لأنهن الأقدر على قول الحق، ولأنهن سمعن من امرأة العزيز اعترافها بأنها هي التي راودته عن نفسه: ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ [يوسف: 32]، وما كان يظن عودة زليخا إلى رشدها؛ لذلك استبعدها من المساءلة، ولأن الملك متمسك بقدوم يوسف إليه ليكرمه على تأويله، جمع النسوة ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ﴾ [يوسف: 51]، وهكذا صدقت النساء، وزكَّيْنَ يوسف، وهذه التزكية تظهر كذب زليخا وتهمتها الباطلة له؛ لذلك ما كان منها إلا أن سارعت وفاهت بالحقيقة، وربما عمم حين سأل كيلا يجرح شعور زليخا من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة، ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51]، وأخيرًا نطقت بالحق، وبرأت يوسف مما اتهمته، ووصفته بالصدق، وهذا تحول خطير في موقفها، فما الذي طرأ عليها؟ لعله عامل السن وتقدمها في العمر قد كبح من عنفوان جماحها، وفتَّ من دفق شهوتها، فعادت لتُعمِل العقل بدل العاطفة: ﴿ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ [يوسف: 51] ظهَر ووضح، ﴿ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ [يوسف: 51]، اعتراف صريح أرادت به تطهير نفسها من الذنب، وبه برأت يوسف منه أمام الناس، وهذا ما كان يريده ويستعين بالله على نيله، حقًّا لقد صبر ودفع ثمن الصبر والحصول على هذه البراءة، التأخر في الخروج من السجن، وكان ربما لن يخرج منه لو تراجع الملك عن طلبه لسبب ما، وأردفت زليخا بعد هذا الاعتراف بكلام قد يرقق قلب يوسف عليها فلا توصد الباب للأبد: ﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [يوسف: 51]، وهنا وقف يوسف بعزة المسلم القوي في دينه وإيمانه ليقول بعدما بلغته هذه البراءة: ﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ﴾ [يوسف: 52]، وهذا خطاب للعزيز زوج زليخا بأن يوسف لم يخُنِ العزيز في غيابه، وأنه حافظ على طهر بيته، ويرجع هذا إلى أن يوسف مؤمن ينتسب إلى بيت النبوة الطاهر، وأنه نبي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو رد للجميل والمعاملة الطيبة والعز الذي لقيه من العزيز، فقد أبى عليه هذا الكرم وهذه المعاملة أن يكون ذئبًا غادرًا لا ينفع معه الجميل، ثم أردف يوسف يقول: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ﴾ [يوسف: 53]؛ فالنفس تستجيب للشهوات؛ فهي أمارة بالسوء ﴿ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ﴾ [يوسف: 53]؛ فقد كبح جماح نفسي، وعصمني بفضله ورحمته بي، ﴿ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، وهكذا أظهر عجزه أمام الإغراء، وأن الله تعالى شمله برحمته فعصمه وحماه، وهذه دعوة غير مباشرة للإيمان بالله الواحد القادر، وقيل: هذا الكلام لزليخا بأنها اتهمت نفسها بالمراودة، وهذا توجيه جيد، وقيل: هذا قول العزيز جوابًا على كلام يوسف الذي بين أنه لم يخنه بالغيب، فاتهم العزيز نفسه بأنه شك في صدق يوسف ولام النفس الأمارة بالسوء، وبعد تصفية القلوب لكافة المعنيين والخروج من هذا الاجتماع ببراءة يوسف، ورأى الملك تزكية يوسف من الذين اتهموه سابقًا، فأضاف هذا رصيدًا ليوسف عند الملك عما كان كوَّنه عنه من حدة في الذكاء وأمانة نادرة في هذا المجتمع المادي الذي عزَّت فيه مثل هذه الصفات، فأراد أن يستفيد من هذه الطاقة الشبابية المتوقدة في يوسف، فقال: ﴿ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ﴾ [يوسف: 54]، وهُرع المبشرون إلى يوسف بقرار الملك في طلبه ليكون مستشاره الخاص، ولبى يوسف هذه المرة دعوة الملك فاغتسل ولبس أفضل الثياب ووضع الطيب ثم انتقل إلى الملك، فقربه الملك منه وأجلسه قريبًا على سريره، وبعد الترحيب ورؤية يوسف بهذا البهاء والرزانة، قال له الملك: إني أحب أن أسمع منك تأويل رؤياي، ﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ ﴾ [يوسف: 54] عن الرؤيا بأروع بيان وأفصح عبارة خلبت لب الملك وتمسك بيوسف أكثر، ﴿ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ﴾ [يوسف: 54]، فلما طمأنه برفع مكانته وأعطاه الأمان والتمكين، اختار يوسف أهم منصب يقدم فيه خدمات جليلة للناس؛ لعِلمه بما سيحصل في أعوام المجاعة ليقود الدولة في هذه المرحلة الحساسة فلا يعطي المجال للمحتكرين والانتهازيين الذين يستغلون مثل هذه الأزمات للإثراء على حساب حاجة الناس للأقوات، ويشرف على التوزيع المتكافئ من الغلال، وفي مثل هذه الأزمات يخسر الفقراء، ويكونون هم الضحية الأولى؛ لذلك أراد أن يقف إلى صفهم ويعمل جهده لحمايتهم من المجاعة القادمة، وفي هذه المكانة فرصة مواتية للدعوة إلى الله التي كلف بها يوسف، فقال للملك: ﴿ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55] بمثابة وزير المالية والزراعة والتموين، فوافق الملك على هذا الطلب، وعيَّنه كما طلب: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ﴾ [يوسف: 56]، وبهذا المنصب قوِي مركز يوسف عليه السلام، وأصبحت مصر تحت تصرفه في أمورها كلها، وقيل: حتى الملك كان يصدُرُ عن رأيه، ﴿ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 56]، وهذا الإنعام والإحسان من الله تعالى الذي خص به يوسف ورفع مكانته في الدنيا وبوأه هذه المنزلة مع أنه غريب مملوك، فالله سبحانه وتعالى حفه بالعناية والرعاية في كافة أحواله إلى أن أوصله إلى سلَّم المجد، فهذا في الدنيا، ﴿ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [يوسف: 57]، وجاءت سنوات الخصب ترفل بهية بالخضرة والنضرة والعطاء السخي، وكانت تجمع بإشراف يوسف، وتخزن في مخازن الطعام التي استُحدثت للتصدي لسنوات الجفاف، وقد جد العاملون والزرَّاع في العمل، وهم في كل عام يشهدون صحة تفسير الحُلم فيرونه تباعًا حسب ما أخبر به يوسف إلى أن مرت هذه السنوات رخية هنيئة تمتع الناس بها وجمعوا مما فاض استعدادًا للآتي، ثم أقبلت السنين العجاف، شح في المياه، وندرة للمطر، وغبار وأتربة ورياح سموم لا تبقي على نبت أخضر إلا جعلته هشيمًا تذروه هنا وهناك، وتقضي عليه، وتحيله هباءً منثورًا، وأمام هذه الشدة والبلوى العامة التي شملت مع مصر ما جاورها من البلدان، اضطر ساكنو الشام وفلسطين للقدوم إلى مصر لشراء القمح والشعير، وقد علموا بوفرة الخير فيها، فهم لم يتخذوا من الإجراءات ما اتخذته مصر؛ لذلك حلَّت عندهم المجاعة.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.50 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.65%)]