الموضوع: العبودية
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 23-01-2021, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العبودية

العبودية


الشيخ عبدالرحمن الباني




ويقول:
"والقلب فقيرٌ بالذاتِ إلى الله مِن وجهين: مِن جِهة العبادة؛ وهي العلة الغائيَّة، ومِن جِهة الاستعانة والتوكل؛ وهي العِلَّة الفاعلة، فالقلب لا يَصلُح ولا يُفلح، ولا ينعم ولا يُسرُّ ولا يلتذُّ ولا يطيبُ، ولا يسكُن ولا يطمئنُّ إلاَّ بعبادة ربِّه وحبِّه والإنابة إليه، ولو حصَل له كل ما يلتذُّ به مِن المخلوقات لم يطمئنَّ ولم يسكُنْ؛ إذ فيه فقرٌ ذاتي إلى ربِّه مِن حيث هو معبودُه ومحبوبُه ومطلوبُه..." (ص: 97).




وهذه النزعةُ في الوقتِ نفْسِه ليستْ نزعةً خياليَّة تُهمِل الواقع، ولكي ترتفعَ به عن طريق (التسامي) أو (الإبدال) ممَّا لمحه علماءُ النَّفْس والتربية، وما عرَفوا الطريق الحق إليه: (والأنبياء - كما يقول ابنُ تيميَّة في كتاب "النبوات" - قدْ بُعثوا بتكميل الفِطرة وتقريرها، لا بتبديلها وتغييرها).

وقدْ مرَّ قوله: "ولا يمكن لأحدٍ أنْ يحبَّ كلَّ موجود، بل يحبُّ ما يلائمه..." (ص: 116).

وقوله: "الإنسانُ لا يترك محبوبًا إلا بمحبوبٍ آخَر.." (ص: 90).

ومِثل ذلك قوله في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم": "إنَّ النفوسَ لا تترُك شيئًا إلاَّ بشيءٍ، وإنَّ النَّفْس خُلِقت لتعملَ لا لتترك"[7].

10- هذه نظريةُ ابنِ تيمية في (العبودية)، وهي - كما قلنا - نظريةٌ في الدِّين.

وقد يقول قائل: إنَّ العبوديةَ ليستِ المحبَّة والتذلل - كما ذكَر ابن تيمية - فقط، ولا بدَّ أن يُلحظَ فيها استنادُها إلى (الإيمان).

وهذا الكلام حقٌّ، وهو يؤكِّد مِن الدِّين جانبه الأصلي، جانب الاعتقاد، إلا أنَّ العبادة من حيثُ هي - أعني في مفهومها العام ودَلالتها اللُّغوية الأصليَّة - أمرٌ يَتعلَّق بالسلوكِ بالدرجة الأولى.

أمَّا العبادة بالمعنى الدِّيني - أو في المجال الدِّيني - فلا بدَّ أن يُلحَظ فيها قيامها على العقيدة؛ أي: على الإيمان بالقوَّة الغيبيَّة؛ ولذا ينبغي الْتِماس أساسها في موضوع الإيمان.

والنظرية الكاملة في الدِّين تتكوَّن في الحقيقة مِن نظريتين:
1- نظرية: الإيمان.
2- نظرية: العبودية.

الأولى: تَتعلَّق بالفِكر والاعتقاد.
والثانية: تَتعلَّق بالسلوك والعَمل.

وهُمَا جانبَا الحياة الدينيَّة.

ومَن شاء أن يستكملَ نظريةَ ابن تيمية في (الدِّين)، فيحسن أن يَرجِع إلى كتبه الأخرى، ومنها: كتاب "الإيمان"[8]، وكتاب "النبوات".

1- تلك هي النظريةُ مِن ناحية محتواها ومضمونها، أمَّا مِن ناحية (أسلوبها) أو (شكلها)، فلعلَّ أهمَّ خصائص النظرية (الشكليَّة) أنَّها قائمة على أصول منهجيَّة، وبتعبيرٍ آخرَ منهجيتها، وهي بمنهجيتها تُجدِّد في حياة المسلمين الفكرية المنهجَ الأصيل في فَهمِ الإسلام وتَناوُلِ قضاياه، وهي مِن هذه الوجهة ذات أثَرٍ إصلاحي هام، كالتراث التيميِّ كلِّه؛ ذلك أنَّ ابن تيمية ظهَر في الوقت الذي امتاز بأمرين:
أ- طُغيان الفلسفات المنحرِفة والأفكار الضالَّة، واختلاط الحقائق والأباطيل، والْتِباس الأصيل مِن الدِّين بالدخيل.
ب- ضَعْف رُوح المنهج عندَ كثيرٍ مِن أهل العلم في الوقتِ نفْسه.

ومزية ابن تيمية بصورةٍ عامَّة - وبالإضافة إلى ما في تُراثه من السَّعَة والعُمق، بل بما فيه من السَّعة والعُمق - الكشف عن وجهِ الحقِّ فيما اختلَط على الناس بأسلوبه الرَّصين ومنهجه المحكَم[9]؛ ولذا يمكن أن يُعتبَر ابنُ تيمية مِن كبار أعلام الفِكر النَّقدي المنهجي، كما أنَّه مِن أعلام الفِكر الموسوعي في الإسلام.

ولا يتَّسع المجالُ هنا لأكثر مِن أن نمرَّ بمنهجِ ابن تيمية في بنائه لنظرية العبوديَّة.

2- فما هي الأصولُ المنهجيَّة التي اصطنعها ابنُ تيمية فيها؟
أ- إنَّ نظريتَه قائمةٌ على الرُّجوع إلى النصوص الثابتة، وجمعها واستيحائها في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ مِن أجزائها، فهي نظريةٌ مخضَلَة أو مشبَعة بالفَهم الدقيق والاستيحاء الدائِم للنُّصوص الشرعيَّة مِن كلام الله وكلامِ رَسولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو دائمًا يستدلُّ بالنصِّ على ما يقول، بل كأنَّه إنَّما يُفسِّر النصَّ ويذكُر مضمونه بيْن يدي إيراده، ثم يَذكُره فينكشف معناه.

وهو إدراكٌ بعيدُ الغور لرُوح النصوص ودَلالتها، وهو بحقٍّ قدْ جاءَ بفلسفة إسلاميَّة صميمة، ومِن الخَطأ الشائع ذِكْر أمثال الفارابي (260-339هـ) وابن سينا (370-428هـ) وإخوان الصَّفا في فلاسفة الإسلام؛ لأنَّهم لم يُقيموا فلسفتَهم على عمودِ الإسلام، بل قدْ ناهضوه وعمِل (إخوان الصفا) بمنهجهم وفلسفتهم لهدمه دِينًا ودولة.

وليستْ نِسبتُهم إلى الإسلام أكثرَ مِن أنهم وُجِدوا في بيئةِ الإسلام، وفي زمَن سُلطانِ الإسلام[10].

وحِكمة ابن تيمية هي حِكمةُ القرآن وحِكمةُ النبوَّة، معروضةٌ مِن خلال المشكلات الفِكريَّة التي عاصرها وعالَجها، وقدْ جاءَ بفِكرٍ أصيل سبَق به زمانه.

واستيحاء ابنِ تيميَّة للآيات القرآنيَّة يُذكِّرنا بدعوة محمَّد إقبال إلى استمداد الحِكمة مِن القرآن، وهو كتاب الحِكمة، ومصدرُ الحياة ومنبَع القوَّة، ويُذكِّرنا بعتب إقبال على (المسلم الذي لا يَستمدُّ حياتَه مِن حِكمة القرآن رأسًا)[11].

ومِن الأمثلة الدقيقة لاستيحاء ابنِ تيمية مِن النصوص قوله: "فالحريَّةُ حريةُ القلْب، والعبوديةُ عبوديةُ القلْب..." (ص: 88)، فهو قد استفاده مِن الحديث الشريف: ((ليس الغِنَى عن كثْرَة العرَض، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْس)).

والخطوة الثانية في نظريته قدِ استفاد فيها - كما رأيت - مِن الحديث الشريف: ((أصدقُ الأسماء: حارثٌ وهمَّام))؛ (ص: 100).

وهكذا فابنُ تيميَّة يُجدِّد عرْضَ حِكمة القرآن وحِكمة النبوَّة علينا، وما أكثرَ استنباطه منهما!

هذا، ومِن المعلوم أنَّ (النص) في قضايا الدِّين مثل (التجرِبة) في مَيدانِ العلوم الطبيعية، يقِف العالِمُ أمامهما ويستنطقهما، ولا يَفرض عليهما رأيًا سابقًا.

ب- وهي نظريةٌ قائمةٌ على تحكيم اللُّغة، لا على مصادمتها أو الاحتيال عليها، كما يفعل الآن بعضُ الجَهلَةِ والمنحرفون، وكما فعَل الباطنيُّون مِن قَبل؛ إذ تجاهلوا، في سبيلِ مآربهم، مِن تقويض سلطان الإسلام على نفوس أهله، وهدم دولة المسلمين - تجاهلوا كلَّ مُقتضيات اللُّغة وقواعدها.

وقدْ بدأ كلامَه على العبودية بتحليل لُغويٍّ انتهى منه إلى أنَّ العبودية هي كمالُ المحبة مع كمال الخُضوع والتذلُّل، فمَن كان خاضعًا دون محبَّة لم يكن عابدًا، ومَن كان محبًّا دون خضوعٍ ليس مِن العبودية في شيء، ومِن هنا قال: إنَّ العبودية الحق لا تكون إلا لله (تراجع الصفحات: 49 - 51 و107).

وفي رِسالته حقائقُ وأبحاث لُغويَّة ممتعة، وهو هكذا دائمًا مع اللُّغة ومع قواعدها، ومِن مزاياه المشهورة ما كان عليه مِن العلم باللُّغة العربيَّة إلى الحدِّ الذي لا يُدانيه فيه إلا الأفذاذ.

ج- ومِن أبرز معالِم منهج ابن تيميَّة في الكشف عنِ الحقِّ وبيانه والبرهان عليه اعتماد (المنهج التاريخي):
فهو يلاحِظ التطوُّر الذي طرَأ على أوضاع المسلمين الثقافيَّة والعمليَّة، وكيف كانوا وإلى أيِّ شيءٍ صاروا[12]، وهو بهذا يشتقُّ دليلاً شرعيًّا تاريخيًّا يتلخَّص في الفِكرة الآتية: الدِّين الحقُّ ما كان عليه الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه، وهذه قضيَّة مقرَّرة تؤيِّدها البراهين الكثيرة والآيات والأحاديث، ومنها قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ((خيرُ الناس قرْني، ثُم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(رواه مسلم (2533)، فما لم يكُن يومئذ دِينًا فلا يكون بعدهم دِينًا، وكأنَّه يقول للمنحرفين: إنَّ ما أنتم عليه مِن هذا القول، أو العمل في الدِّين لم يَجِئْ به الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يَعرِفْه السلف (المسلمون الأوَّلون)، بل هو ما كان عليه الجاهليُّون، وهو ما جاءَ الإسلام لنقضه والقضاء عليه، وتخليص الناس مِن شرِّه، والنَّظر في التاريخ يَشهَد لذلك، وهو يَقضي بيننا وبينكم.

وفي هذا (المنهج التاريخي) هدايةٌ لِمَن أنْصَف وأرادَ الله له الخير، وهذا مثالٌ من استعانته بهذا المنهج:
فهو بعدَ أن زيَّفَ أقوالَ القائلين بما يُسمُّونه (الحقيقة)، و(إسقاط التكاليف) يقول: "لم يَكُن في السَّلفِ مِن هؤلاءِ أحد" (ص: 64).

وقدْ كثُرتْ مِثل هذه المقالات في المستأخِرين، وأمَّا المتقدِّمون مِن هذه الأمَّة، فلم تكُن هذه المقالات معروفةً فيهم، وهذه المقالات هي محادَّةٌ لله ورسولِه ومعاداة له، وصدٌّ عن سبيله، ومشاقَّة له..." (ص: 65).

ثم يقول: "ولا ريبَ أنَّ المشركين الذين كذَّبوا الرسولَ يَتردَّدون بيْن البدعة المخالِفة لشَرْعِ الله والاحتجاج بالقدَرِ على مخالفةِ أمر الله" (ص: 65).

وقدِ استخدَم (المنهج التاريخي) حين حقَّق القولَ فيما يسمُّونه بالفناء، فقَبِل ما جاءَ به الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان عليه أصحابُه، ورَفَض ما لم يكُن كذلك؛ قال: "وهذا الفناءُ كلُّه فيه نقصٌ، وأكابر الأولياء - كأبي بكْر وعُمر والسابقين الأوَّلين مِنَ المهاجرين والأنصار - لم يَقعوا في هذا الفناء، فضلاً عمَّن هو فوقَهم مِن الأنبياء، وإنَّما وقَع شيءٌ مِن هذا بعدَ الصحابةِ..." (ص: 129).

وكذلك فعَل حين حقَّق القول في عدم شرعية ذِكر الله بالاسم المفرد، قال: "ولم يَذكُر ذلك أحدٌ مِن سلَفِ الأمَّة" (ص: 137).

د- ومِن ذلك، وهو في الحقيقة ما يتردَّد بين (المنهج اللُّغوي) و(المنهج التاريخي) تنبيهه إلى تغيُّر معانِي الألفاظ، وتغليب بعضِ الاصطلاحات على بعض، أو بالأحْرى حمْل الألفاظ القديمة لمعانٍ جديدة.

وقدْ نبَّه الغزاليُّ في "الإحياء" (1/53-56) إلى ما عَرَض مِن التطور لبعضِ الألفاظ والمصطلحات الشرعيَّة في فصل بعنوان: (بيان ما بدِّل مِن ألفاظ العلوم)، وابن تيميَّة يستعمل هذا المنهَج في مختلف المجالات، ومِن ذَلك مجال الاصطلاحات اللُّغويَّة، تُراجَع مناقشته لمعنى (الاسم) في موضوعِ الذِّكر (ص: 138- 145).

هـ- ويُلاحَظ بصورةٍ عامَّة أنَّ ابن تيميَّة في إصلاحه المنهجي (أعْني: صلاحَه لفوضى المنهج الفِكري)، لم يعالج انحرافَ المنهج لدَى الباطنيَّة وأمثالها باعتمادِ المنهجِ الظاهري مثلاً، ولم يعالج شططَ غُلاة القياسيِّين بإنكار القياس، وبهذا يكون كمَن يُعالج الدَّاءَ بالداء، وإنما جاءَ بردِّ الأمور إلى طَبيعتها، فكان منهجه الفِكري أخلدَ وأبقى، وأبلغ أثرًا في الإصلاح - كأيِّ علاجٍ صحيح - فإنَّ الذين يعالجون الانحرافَ بالانحرافِ، لا يَزيدون على أن يجعلوا حياةَ الناس انحرافَين بديل الانحراف الواحِد! وتظل الأمَّة مِن بعدهم بحاجةٍ إلى علاج.

ولذا كان سبيلُه العودةَ بأصول منهج الفِكر الإسلامي إلى الأوضاعِ الطبيعيَّة السويَّة، في جميعِ مناحيه.

وأكَّد بصددِ القياس أنَّه "لم يَرِد في الشرع الإسلامي - أي: في كتاب الله وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أمرٌ ولا نهيٌ يُخالِف القياسَ الصحيح... فكل نصٍّ في الإسلام: منطبِق على مقتضَى العقل والحِكمة وموافِق لِمَا يوجِبه القياس" أي: القياس الصحيح[13].

3- وبيانًا لمنهجه الذي أقام عليه نظريتَه في (العبودية) فخلَّصها من الشوائب والانحرافات والمفاهيم الخاطئة، التي طرأتْ على الفِكر الإسلامي، نذكُر ما يُشير إليه هو مِن أصولٍ فِكريَّة خلالَ كلامه:
أ- فهو يقول: "وأصْلُ كلِّ ضلالِ مَن ضلَّ هو بتقديم قياسِه على النص المنزل مِن عند الله، وتقديم اتِّباع الهوى على اتِّباع أمْر الله؛ فإنَّ الذوقَ والوَجْدَ ونحو ذلك هو بحسبِ ما يحبُّه العبدُ ويهواه، فكلُّ محبٍّ له ذوقٌ ووجدٌ بحسبِ محبَّته وهواه" (ص: 67).

وفي هذا الأصل يُبيِّن أهمية النصِّ، وموقِفَ العالِم منه، ويضع حدًّا للتفريق بين ما هو (ذاتي) يختلف مِن فرْد إلى آخَر، وبين ما هو (موضوعي) تتلاقَى عندَه أفكارُ العلماء ذَوي الاختصاص.

ب- ويقول: "وجِماعُ الدِّين أصلان: ألاَّ نَعبُدَ إلا الله، ولا نَعبدُه إلا بما شرَع، لا نعبده بالبِدع، كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]، وذلك تحقيق الشهادتين: شهادة أنْ لا إله إلا الله، وشهادة أنَّ محمدًا رسول الله.

ففي الأولى: ألاَّ نعبُدَ إلاَّ إيَّاه.
وفي الثانية: أنَّ محمدًا هو رسوله المبلِّغ عنه، فعلينا أن نُصدِّق خبرَه ونُطيع أمرَه.

وقد بيَّن لنا ما نَعبُد الله به، ونهانا عن مُحدَثات الأمور، وأخبر أنَّها ضلالة؛ قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 112]..." (ص: 148).

ومثل ذلك قولُ ابنِ تيميَّة: "والعبادةُ والطاعةُ والاستقامةُ ولزومُ الصراط المستقيم ونحو ذلك مِن الأسماء، مقصودُها واحدٌ ولها أصلان:
أحدهما: ألاَّ يعبدَ إلا اللهُ.
والثاني: ألاَّ يعبدَه إلا بما أَمَر وشَرَع، لا يعبده بغيرِ ذلك مِن الأهواء والظنون..." (ص: 71).

ويقول: "فكلُّ عمَلٍ أُريد به غيرُ الله لم يكُن لله، وكل عملٍ لا يُوافق شرْعَ الله لم يكُنْ لله، بل لا يكون لله إلاَّ ما جمَع الوصفين: أن يكونَ لله، وأن يكونَ موافقًا لمحبَّةِ الله ورسولِه، وهو الواجب والمستحب.

وهذا الأصلُ هو أصلُ الدِّين، وبحسب تحقيقه يكون تحقيقُ الدِّين، وبه أَرْسَل الله الرُّسلَ وأنزل الكتُبَ، وإليه دعا الرسولُ وعليه جاهَد، وبه أمَر وفيه رغَّب، وهو قُطْبُ الدين الذي تدور عليه رَحاه" (ص: 120-121).

ج- وابن تيمية - رحمه الله تعالى - يُنبِّه إلى المنهج الخاطِئ في فَهم الدين، وتناول قضاياه، ويُنبِّه إلى أنَّه ليس من (التفويض) أبدًا اعتقادُ نقيض مدلول اللفْظِ، فيقول: "وهؤلاء... عُمدتُهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعْلُهم ما يرونه وما يهوَونه حقيقةً، ويأمرون باتِّباعها دون اتِّباع أمْر الله ورسولِه، نظير بدع أهل الكلام مِن الجهميَّة وغيرهم الذين يجعلون ما ابتدعوه مِن الأقوال المخالِفة للكتاب والسُّنَّة حقائقَ عقليَّةً يجب اعتقادُها دون ما دلَّت علية السمعياتُ، ثم الكتاب والسنة، إمَّا أن يُحرِّفوا القولَ فيهما عن مواضعه، وإما أن يُعرِضوا عنه بالكلية فلا يَتدبَّرونه ولا يَعقِلونه، بل يقولون: (نُفوِّض معناه إلى الله) مع اعتقادِهم نَقيضَ مَدلولِه!!" (ص: 67).

د- ومِن الأصول التي اعتمدَها عدمُ قَبول المتناقضات، وتقديم (المبادئ) على (الرجال)، ومِن ثَمَّ عدَم التسليم والقَبول بما نُقِل عن المشايخ ممَّا يخالف الدِّين: فهو "إمَّا كذبٌ عليهم، وإما غلطٌ منهم" (ص: 115، وانظر ص119 و126).

وقدْ رأى أنَّ القَبول بما قال السابقون كيف كان، إنَّما هو دَيدنُ أهل الكتاب، وهو لا يَليق بالإسلام الذي برَّأه الله مِن الاختلاف والتعارض: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، وحَفِظ أصوله، وألْهَم أهله إلى منهجِ البحث فيه، وجعَلَه حُجَّةً على الناس إلى يومِ القيامة، ولم يَرْضَ من أحدٍ غيرَه.

وهكذا طارَدَ ابنُ تيمية - بالحُجَّة والمنطق - مظاهرَ السُّخْفِ والانحراف التي لحِقَتْ بعقول المسلمين وعقائدهم وأعمالهم، سواء في موضوع (العبودية) أو غيرها، وخَلَّص الفِكر مِن مِثل هذه السخافات بقوله: "وكثير مِن السالكين سَلَكوا في دعوى حبِّ الله أنواعًا مِن أمور الجهل بالدِّين: إما مِن تَعدِّي حدود الله، وإما مِن تَضييع حقوقِ الله، وإما مِن ادِّعاء الدعاوى الباطلة التي لا حَقيقةَ لها كقولِ بعضهم: أيُّ مُريدٍ لي ترَك في النار أحدًا فأنا بريءٌ منه!!

فقال الآخر: أيُّ مريدٍ لي ترَك أحدًا مِن المؤمنين يَدخُل النار فأنا منه بريء!!".

قال ابن تيمية: "فالأوَّل: جعَل مُريدَه يُخرِج كلَّ مَن في النار.
والثاني: جعَل مُريدَه يمنع أهلَ الكبائر مِن دخول النار.

ويقول بعضُهم: إذا كان يومُ القيامة نَصبتُ خيمتي على جهنَّمَ حتى لا يَدخلَها أحد.

وأمثال ذلك مِن الأقوال التي تُؤثَر عن بعضِ المشايخ المشهورين، وهي إما كذبٌ عليهم، وإما غلطٌ منهم" (ص: 114-115).

لقدْ كان اطِّلاعي على هذه الرسالة - أوَّل مرة - غُنمًا، وكان خبَر تجديد طبعها بُشرَى، فوجدتُ أقلَّ الواجب - عندما دَعاني المكتبُ الإسلامي إلى تقديمها بعدَ طبعها - أن أقرَأَها مِن جديد في هذه الطبعة، وأُقدِّمها، وإنْ كان غيري مِن أهل العلم أَوْلَى مني بهذا التقديم، وإني لأرجو أن يُتيحَ الله لها طبعةً جديدة محقَّقة على نسخة مخطوطة، أو أكثر في الظاهرية أو غيرها.

وأنا أخشى عادةً مِن المقدِّمة - فكيف وقدْ طالت - أن تقطَع عن قِراءة ما بعدَها، كما أني أخْشَى أن تَحُولَ بين القارئ وبين رُوح النصِّ المقدَّم وحقائقه؛ ولذا أُوصي القارئَ الكريم ألاَّ يُقلِّدني في رأي ارتأيته، ولا في فَهمٍ فَهمتُه، والحقُّ على خلافِ ما رأيت، إلا أنِّي أردتُ فائدةَ القارئ على كلِّ حال، وأسأل الله لي وله الهدايةَ والتوفيق إلى الحقِّ مِن الأفكار، والخير مِن الأعمال.

وإني أعتقِدُ أنَّ هذه الرسالة مِن أفضل ما يُهدَى لأرباب الفِكر وأهل العِلم وطلاَّب الحقِّ والخير، وأنا أرجو لشبابنا خيرًا كثيرًا في قِراءتها وقراءة أمثالِها مِن تراث ابن تيمية، ذلك المجدِّد والمصلِح العظيم.

وبعد، فأليستْ دِراسة التراث التَّيمي - وقد أرْبى على ثلاثمائة مؤلَّف - ضرورةً مِن ضرورات نهضتنا؛ وذلك لبنائها على أصولنا - لا على أصول غيرنا؟!

أوَليسَ عجيبًا أن تبقَى جامعاتنا في العالم الإسلامي والوطن العربي وكليَّات الشريعة، والحقوق، والآداب والفلسفة، والتربية، فيها؛ مصروفةً عن دِراسة هذا التراث وإحيائِه ونَشْرِه والإفادة منه، مع ما يُقدِّمه مِن العونِ؛ ليكونَ تفكيرنا أكثرَ غِنًى وازدهارًا، وأصالةً ونقاءً؟!


هل ننتظِر - للقيام بهذا الواجب - إشارةً مِن أوربة أو غير أوربة، ويكون شأنُنا مع هذا المفكِّر الأصيل والعبقري العظيم كشأنِنا حتى الآن - في الغالب - لا نَنتبِه إلى عَظمةِ العظيم فينا إلا إذا نبَّهنا الغربُ إليه، أو لا نقرّ لإنسانٍ بالعظمة حتى يكونَ مِن الغرب أو مِن أولياءِ الغرْب؟!

هذا ما يسَّر الله لنا، والخيرَ أرْدَنا، وآخِرُ دعوانا أنِ ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 2 - 5][14].


[1] هذه مقدِّمة الشيخ عبدالرحمن الباني لكتاب "العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق محمد زهير الشاويش، وتخريج محمد ناصر الدِّين الألباني، المكتب الإسلامي ببيروت، ط7 ، 1426هـ - 2005م.

[2] هو عِياضُ بن موسى بن عِياض، عالِمُ المغرب، وإمامُ أهلِ الحديث في وقتِه، مِن تصانيفه: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، و"الغنية"، وُلِد في سبتة سنة 476، وتُوفِّي بمراكش سنة 544، وقد زَعَم بعضُهم أنَّ شيخَ الإسلام ابن تيمية قد انتقَص القاضي عياضًا! والحقُّ يقال: إنَّه أثْنى عليه بما هو أهلُه في أكثر من موضعٍ في كتبه، وعابَ عليه إيرادَه الواهيات في كتابه "الشفا".

[3] زِيادة اقتضاها المقام.

[4] ويلحق به ما يُسمُّونه: (وحْدة الشهود، والاتحاد، والحلول)، تعالى اللهُ عمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيرًا.

[5] جاءتْ هذه الملاحظةُ والنصيحة في أوائل عام1382 هـ (في الطبعة الأولى)، وما تزال الحال هي الحال - على ما يَبتغي العدوُّ ويُنكِر الناصح المشفق - ونحن الآن في عام 1389 هـ (وفي الطبعة السابعة 1426 هـ) - على ما كنَّا فيه، مع ما أصابنا مِن أحداثٍ ضِخام فيها لِمَن اعتبر عِبرةٌ زاجرة.
﴿ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 101]، والله المستعان، وواجِب التذكير مستمر، كتَب الله الهدايةَ لجميعِ المسلمين.

[6] ويعبر عنه أحياناً ابن تيمية بـ (العقل السليم) كما ورد في ص (97)، ولابن تيمية كتاب كبير عنوانه "بيان موافقة صريح المعقول لصحيح"، ويسمى أيضاً "درء تعارض العقل والنقل"، وكان مطبوعاً (بعضه) على حواشي "منهاج السنة" له. وصدر جزآن فقط ـ فيما أعلم ـ من الطبعة الثانية بمطبعة أنصار السنة بمصر. (ثمّ طُبع كاملاً بتحقيق د.محمد رشاد بن توفيق سالم 1347-1407هـ) رحمه الله). الذي قام ببحثٍ وافٍ في الفكر التيمي عامةً، وفي هذا الجانب العظيم من فلسفته بوجهٍ خاص، وقد كانت رسالته للحصول على الدكتوراة في مذهب ابن تيمية في التوفيق بين العقل والنقل.

[7] يُراجع كتاب: "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لأبي الحسن النَّدوي (1332-1420هـ) ط2 ص: 144، وفيه كلامٌ جيِّد بشأن النزعة الخياليَّة غير الفطرية لدَى غير المسلمين.

[8] طبَعَه المكتب الإسلامي للمرَّة الأولى سنة 1381 هـ بدمشق، مِن غير ذِكْر اسم المحقِّق والمخرِّج، ثم طبع بعدَ ذلك مرات، وذكر أنَّه من تحقيق الشيخ الشاويش، وتخريج الشيخ الألباني - رحمه الله.

[9] ونحن اليوم - بعدَ أن غُلبنا لأوربة (وأمريكا) سياسةً وحضارةً، وفكرًا ومنهجًا - أصبحنا في أشدِّ الحاجة إلى أن نَعرِف منهجَنا الإسلامي الأصيل.

[10] وابن تيمية قد زَيَّف انحرافاتهم، وبيَّن تناقُضَ أقوالهم بمنهجه العقلي النقلي، والشرعي الفلسفي، وهذا الجانب النقدي يؤلِّف شطر فلسفته، وممَّن نبَّه إلى أنَّهؤلاء ليسوا هم فلاسفة الإسلام، وأنَّ فلسفتهم ليست هي الفلسفة الإسلامية: الشهيد سيِّدُ قطب - رحمه الله - في كتابه: "العدالة الاجتماعيَّة في الإسلام".

[11] يراجع كتاب "روائع إقبال" للنَّدوي.

[12] يقول الأستاذ محمد كرد علي (1293-1372هـ) في ترجمته لابن تيمية: (ولو ادعينا أنه لم يأت عالم [مثله] يعرف ما طرأ على الدين ومذاهب أهله فيه ساعة ساعة ويومًا يومًا ما قدر أحد على رد دعوانا) ص16، ط. المكتب الإسلامي.

[13] يراجع كتاب: "القياس في الشرع الإسلامي" الذي نشَرَه الأستاذ السيد محب الدين الخطيب (1303-1389هـ)، وهو مجموعٌ كتَبه في هذا الباب ابنُ تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، وانظر مجلَّة "الزهراء" (4/569).

[14] وقدْ نقَّحتُ هذه المقدمة على فترات آخِرها يوم الثلاثاء 15 جمادى الأولى سنة 1389 هـ.
(وقد سرَقها مَن سرَق الكتاب، قبل أن تُنقَّح وتصحَّح، ولا حولَ ولا قُوَّة إلا بالله.
واليوم نُعيد نشرَها مع هذا الكتاب، وقد مضَى عليها رُبُع قرن، والأمَّة ما زالت بحاجةٍ إلى ما كتَبَه أستاذُنا الفاضل الشيخ عبدالرحمن الباني - حفظه الله تعالى -.. زهير الشاويش.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.55 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]