عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 05-12-2020, 04:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,578
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اللغة العربية.. المسيرة والصمود

اللغة العربية.. المسيرة والصمود

"اللغة العربية.. كلمة التاريخ وكلمة الواقع"


أ. د. جابر قميحة



وكان نزول القرآن بمَثابة الضمان الإلهي لبقاء اللغة العربية الواحدة؛ فقوله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] يمنح الضمان للغة العربية التي نزل بها هذا الكتاب الكريم.

ومن ناحية أخرى: أصبح العرب والمسلمون ينظرون إلى اللغة العربية الفصحى نظرة تقدير وتبجيل؛ لأنها الوعاء الذي يحفظ كتاب الله، لذلك تطلعت كثير من الشعوب الإسلامية التي تتكلم بلغات غير العربية إلى محاولة تحقيق أملٍ - طالما كانت تتطلَّع إلى تحقيقه بعاطفة دينية قوية - وهو أن تتحدَّث باللغة العربية الفصحى، وأن تتخذها لسانًا لها؛ لأن هذه اللغة هي لغة القرآن الكريم الذي يتعبدون ويتقربون إلى الله بتلاوته، فتوجَّهت بعض شعوب العالم الثالث إلى نشر اللغة العربية بها، تمهيدًا لاتخاذها لغة رسمية لها، وما ذلك إلا لأنها لغة القرآن الكريم[13].

وكان القرآن بما دعا إليه من قيم دينية وتربوية واجتماعية ونفسية هو خير مُنقِذ للأمة العربية من ظلمات الكفر والجهل والضياع والتفتُّت = التي كانت تتردَّى فيها، وبه صارت الأمة خير أمة أخرجت للناس، بعد أن دكَّت مركزَي الجبرية والظلم والفساد؛ دولتي الفرس والروم.

وأصبح البيان القرآني مثلاً أعلى لمن ينشد البلاغة والحكمة وإعجاز الأسلوب، وغذى القرآن الأساليب العربية بكثير من التراكيب والصور الجديدة، وأصبح الشعراء والخطباء العرب يُطعِّمون بيانهم بكثير من آياته وألفاظه.

ثم نزحَت اللغة العربية من شبه الجزيرة مع الفتوح الإسلامية، واستقرَّت في بيئات معمورة جديدة كانت آهلة بسكان يتكلَّمون لغات مُتباينة، بعضها كان قريب الشبه بلغة الفاتحين، والأخرى لا تكاد تمتُّ إليها بصِلة، وبدأ الصراع اللغوي يتخذ صورًا مختلفة في تلك البيئات المغزوة؛ فهو هزيل حينًا، وعتيق حينًا آخر، حتى تمَّ الفتح، واستقرت المملكة العربية، وكان أن انتظمت اللغة العربية تلك النواحي التي تأثَّرت بالثقافة العربية الإسلامية، والتي تُعرف الآن بالأمم العربية الشقيقة، وقد نزحت اللغة العربية إلى تلك البيئات المتعددة في صورتين؛ إحداهما: موحَّدة منسجمة، وتلك هي الآثار الأدبية والقرآن الكريم، تلك اللغة النموذجية التي نمت وازدهرت قبل الإسلام في بيئة مكة، وما حولها.

والأخرى: تَشتمِل على تلك الصفات الكلامية التي امتازت بها لهجات القبائل المتباينة إبان الفتوح الإسلامية[14].

وكان لهذه اللهجات الخاصة مكان في التعامل اليومي بين الناس في أغانيهم، وفي أسواقهم وتعاملهم الأسريِّ، إلا أن اللغة الأدبية "ظلت موحَّدة في البيئات العربية الجديدة زمنًا طويلاً لم يُصِبها إلا القليل من التغيير حين استقلَّت هذه البيئات بعضها عن بعض، ولكن كانت دائمًا مفهومة وفي متناول المثقَّفين من الناس، كما ظلت الآثار الأدبية القديمة نماذج تُحتذى ويعتز بها"[15].



واتسع نطاق اللغة العربية في العصر الأموي، فدخلت العربية مجالاً جديدًا هو مجال التأليف؛ إذ لم يعرف المجتمع التأليف بالعربية إلا في هذا العصر، ولعل من الطريف أن يكون ابن المقفع المتوفَّى سنة 142 من أوائل من استخدموا اللغة العربية كلغة كتابة، وقد ترجم مِن البهلوية إلى العربية مجموعة من الكتب منها "خداي نامة"؛ أي: "أخبار الملوك"، وكتاب "كليلة ودمنة"، وكان على كل من يعيش في الدولة الإسلامية، ويرغب في الإسهام بالتأليف أن يتعلم العربية ليُترجم إليها، أو يكتب بها، أو يَفهم المأثور الذي كتب بها، ولا شك أن استخدام العربية في مستويات جديدة دفع إلى تجديدات لغوية بعيدة المدى؛ فسيبويه يتحدث عن الاسم والفعل والحرف كاصطلاحات ذات معنى محدَّد، وخلع على هذه الكلمات مدلولاً علميًّا، وهو حين يتحدث عن الهمس والجهر والمخارج إنما يَبتكر اصطلاحات يستقيها وينتقيها من خضمِّ لغة الحديث، ويستخدمها كاصطلاحات علمية، مُحدِّدًا معناها تحديدًا يتفق مع طبيعة الاصطلاح العلمي، وكذلك فعل الخليل عندما اكتشف أوزان الشعر العربي؛ كالطويل والخفيف والكامل... إلخ، فقد أخذ هذه الكلمات من لغة الحياة العامة، واستخدمها استخدامًا حدَّد له دلالة جديدة، وفي كل فروع المعرفة نجد ظهور اصطلاحات علمية مع ظهور العلم نفسه.

وفي القرن الرابع الهجري كانت العربية تعلمًا من الكتب، لا بمُخالطة الأعراب، ولذا ظهرت مجموعة من الكتب؛ منها كتاب قدامة بن جعفر "جواهر الألفاظ"، وكتاب "الألفاظ"؛ لابن السكيت، وكتاب "الألفاظ الكتابية" لعبدالرحمن الهمذاني، وكلها كتب تعليمية من القرن الرابع الهجري.

وابتداءً من القرن الخامس الهجري بدأت السيطرة الفارسية والتُّركية على أجزاء الوطن العربي، فأعلن السلجوقيُّون في الشطر الشرقي من الدولة الإسلامية اتخاذ الفارسية لغةً رسمية، وكَثُرت المؤلفات بالفارسية، وإن لم تتخلَّ هذه المؤلفات عن المصطلحات العربية.

وفي غير هذه المنطقة كانت السيطرة العثمانية إلى القرن التاسع عشر، فكانت التركية هي اللغة الرسمية؛ لغة الإدارة والوظائف والدواوين، والمادة الأساسية في كل المدارس، حتى بعد دخول الإنجليز مصر، وإن بدؤوا يُزيحونها من المدارس تدريجيًّا، وكانت العربية في المدارس الحديثة تدرس مع الدين في سياق واحد، فبعض المدارس كان يُسمِّي هذه المادة الواحدة: "نحو وصرف ومُطالعة وتوحيد وواجبات العبادة والأدب"، وظل الأزهر يؤدِّي دورًا مهمًّا في حماية الدين والعربية.



وهكذا ارتبطت اللغة العربية الفصحى طوال هذه الفترة التي بلغت قرابة عشرة قرون - بالطبقات غير الحاكمة في المجتمع؛ فالمتحدِّثون بالعربية كانوا يمثلون الطبقات المحكومة، وكانت العناصر الحاكمة من أصول غير عربية.

كما ارتبطت دراسة العربية الفصحى في الوجدان الشعبي بدراسة الدين، وأصبح رجل الدين والمتخصص في العربية شخصًا واحدًا هدفه الدين، ووسيلته العربية[16].



وفي العصر الحديث تعرَّضت اللغة لمؤامرات متعددة لنَخرِ بُنيانها، بل لنَحرها، والقضاء عليها، وإحلال البديل أو البدائل لتحتل مكانها، وبذلك يتسع المجال للقضاء على الإسلام نفسه، بالقضاء على لغة كتابه، ودستوره العظيم.

وأنا لست من أنصار "التفسير التآمُري للتاريخ" وهو تفسير يخلع على كل دعوة غربية، أو تصرُّف أجنبي، أو اجتهاد شخصي من الآخرين في أمورنا وعلومنا صفة "التآمر" المنبثق من سوء النية، وما أقوله لا يعني أن هذا التفسير خاطئ تمامًا، فهناك - ولا شك - مؤامرات حيكت وتحاك ضد الإسلام والمسلمين والعروبة والعربية... ما زلنا نعيش آثارها المنكودة حتى الآن، ولكن مصدر الخطأ في هذا التفسير هو التعميم الحاد في الحكم بالتآمرية على كل ما يصدر عن هؤلاء.

وأعود فأكرِّر أن حكمي هذا لا ينفي وجود هذه النزعة عند كثيرين من الغربيين، ومَن يسير على دربهم من عرب ومصريِّين، وحتى يستقيم الحكم على الدعوة أو العمل بالتآمُرية لا بد من الاستئناس بأمور متعدِّدة أهمها:
1- المواقف السابقة للشخص من قيمنا ولغتِنا وقضايانا، فلا يقيم الجديد إلا في ظل السوابق والعطاءات السابقة.

2- التحقُّق من طبيعة العمل المطروح، أو الدعوة المعروضة، ودراستها دراسة موضوعية جادَّة، لمعرفة طبيعتها وأبعادها وآثارها ونتائجها.

3- تجنُّب عمومية النظر، وتعميم الحكم، بل ينظر إلى "الشخص الفرد" وعمله المنسوب إليه، ولا يحكم عليه كجزء من تيار أو اتجاه أو مذهبية حكم عليها مسبقًا بالإدانة[17].



وفي العصر الحديث نهضت دعوات "لإصلاح" اللغة العربية وتيسيرها والنهوض بها، فمِن هذه الدعوات ما كان وراءه حسْنُ النية والحرص على ازدهار العربية، بصرف النظر عن قيمة مضمون الدعوة، ومن هذه الدعوات ما كان تآمُريًّا، يهدف إلى هدم العربية وتخريبها، وإن ادعى أصحابها نقيض ذلك.

وفيما يلي من مقالات نَعرض لهذَين اللونين متخذين "محمود تيمور" مثلاً لدعاة تيسير العربية، فنتعرَّف - في إيجاز - على مضامين دعوته، ثم نقف معها وقفة نقدية.


[1] لمعرفة كيف تكونت اللهجات ارجع إلى الصفحات من 18 إلى 22 من كتاب "في اللهجات العربية"؛ للدكتور إبراهيم أنيس.

[2] تَذكر بعض الروايات التاريخية أن خالد بن الوليد حينما أسر بني يربوع من تميم في حروب الردة، كان الجو باردًا جدًّا، فنادى في حراس الأسرى "أدفِئوا أسراكم" فقتَلهم الحراس؛ لأنهم كانوا من كنانة، وأدفأ في لغة كنانة تعني القتل؛ تاريخ الطبري (3 / 378).

[3] ريمون ودنير طحان: اللغة العربية وتحديات العصر (ص: 17).

[4] انظر: د. إبراهيم أنيس: "مستقبل اللغة المشتركة" (ص: 8)، وانظر كذلك: "المرونة في اللغة العربية"؛ بحث للأستاذ عبدالحميد حسن، وخصوصًا الصفحات (127 - 129)، وهو منشور في مجلد الدورة التاسعة والعشرين للمجمع اللغوي بالقاهرة (1962 - 1963).

[5]- انظر في تفاصيل هذا الخلاف البحث القيم الذي كتبه الدكتور حسن عيسى أبو ياسين بعنوان: "الفصحى بين نظريتين؛ نظرية القدماء، ونظرية المحدثين" من ص: 3 إلى ص: 23 من مجلة جامعة الملك سعود، م / 3 - الآداب - 1414).

[6] ومن أشهر الأخبار الأدبية التي تُنوقلت عن عكاظ: قصة احتكام الخنساء وحسان بن ثابت إلى النابغة الذبياني في شعرها، وما دار بينه وبينهما؛ (انظر المرزباني: الموشح 82 - 84)، وانظر كذلك: شوق ضيف: العصر الجاهلي (ص: 133).

[7] انظر: د. إبراهيم بيومي مدكور: في اللغة والأدب (ص: 32).

[8] مقدمة ابن خلدون (ص: 1072).

[9] لسان العرب، مادة (عرب) (4: 2865).

[10] المزهر في علوم اللغة (1 / 128) (والنص نسَبَه السيوطي إلى الفراء).

[11] لسان العرب: السابق: الصفحة نفسها.

[12] ضيف: العصر الجاهلي (ص: 137).

[13] وأشهر وأخلص مَن قام بمحاولات جادة في هذا الشأن: الرئيس الباكستاني ضياء الحق - رحمه الله - فقد كان يحرص على نشر العربية في باكستان على نطاق واسع، تمهيدًا لاتخاذها اللغة الرسمية للبلاد بدلاً من الأوردية والإنجليزية، ومن حسناته: "إنشاء الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد في نوفمبر 1980 بالتعاون مع جامعة الملك عبدالعزيز بجدة لتخريج القضاة والعلماء الذين يعملون في حقل الدعوة الإسلامية، وإنعاش اللغة العربية التي زادت أهميتها في الأيام الأخيرة"؛ "د. محمود محمد عبدالله: اللغة العربية في باكستان 112 - 124"؛ وقد أنشئ في الجامعة بعد ذلك معهد مستقل للغة العربية، وكان لي شرف التدريس في هذه الجامعة لمدة خمس سنوات (1984 - 1989).

[14] أنيس: في اللهجات العربية (ص: 23).

[15] السابق: الصفحة نفسها.

[16] انظر في تفصيل هذه المسيرة التاريخية: د. محمود فهمي حجازي: "اللغة العربية عبر القرون" (ص: 52 - 68)، وكذلك: جرجي زيدان: "الفلسفة اللغوية والألفاظ العربية" (34 - 38)، وانظر كذلك (ص: 9 – 11) من محاضرة الدكتور محمود حافظ "اللغة العربية في مؤسسات التعليم العام والتعليم العالي، ووسائل النهوض بها في مصر"، وهي منشورة في كتاب الموسم الثقافي السادس لمجمع اللغة العربية الأردني.

[17] كالحكم على كل المستشرقين بأنهم جميعًا يُمثِّلون تيارًا يهدف إلى القضاء على الإسلام والعربية، مع أن فيهم من قدم أعمالاً جليلة للإسلام والعربية؛ مثل المستشرقة "زيغريد هونكة" في كتابها (شمس العرب تشرق على الغرب)، ومثل ليوبولد فايس الذي كتب: روح الإسلام، والطريق إلى مكة، وقد قادته دراسته العميقة للإسلام إلى إعلان إسلامه، وسُمي باسم (محمد أسد)؛ انظر: جابر قميحة: آثار التبشير والاستشراق على الشباب المسلم (15 - 22).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.79 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.16 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.11%)]