عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 28-02-2020, 03:52 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي اعتقاد أئمة الهدى من الصوفية الجنيد بن محمد، وسهل التستري أنموذجا

اعتقاد أئمة الهدى من الصوفية الجنيد بن محمد، وسهل التستري أنموذجا


أ. د. عبدالله بن صالح البراك





اعتقاد أئمة الهدى من الصوفيَّة


الجنيد بن محمد، وسهل التستري أنموذجًا


بحث محَكَّم ومنشور


قُدم للمؤتمر الدولي العاشر للفلسفة الإسلامية


التصوف بين الواقع والمأمول


ونشر في أبحاثه 145 - 176 سنة 2005م


أ. د/ عبدالله بن صالح البَرَّاك




بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحْبه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.



أما بعدُ:

فهذه نُبْذة مُختصرة في ذكر اعتقاد أئمة الهدى من الصوفيَّة: الإمام الجنيد بن محمد، وسهل التستري أنموذجًا، أردتُ منه إبراز ما كان عليه أئمة الصوفيَّة المتقدمين من سلامة المعتقد، والتزام سُنن الأئمة المتبوعين، وذلك بجَمْع أقوالهم المعروفة مِن مصادرها الأصلية، دون ما زاده المتأخِّرون من الصوفيَّة، وما توَسَّعوا في نسبته لهم منَ الأقوال والكُتُب.



وعلى هذا انتظم البحثُ في القضايا الآتية:

1 - ترجمة مختصرة للإمام الجنيد - رحمه الله - مع بيان ما يصح له من كُتُب ورسائل.

2 - جمع المرْوِيَّات عنه في مسائل الاعتقاد، وقد اقتصرْتُ على بعضها لكثْرة ما رُوي عنه.

3 - ترجمة مختصرة للإمام سهل التُّستري - رحمه الله - مع بيان ما يصحُّ له منَ الكُتُب والرسائل.

4 - جمع المرويات عنه في مسائل الاعتقاد، والمراد البعض دون الكل.



أسأل الله السداد في القوْل والعمل.




وكتب: د. عبدالله بن صالح البراك


الأستاذ المشارك بكلية التربية جامعة الملك سعود




من الصُّعوبات التي تواجِه الباحث في دراسة التصوُّف والمتصوِّفة:


عدمُ تمييز بداية التصوُّف الحقيقي، والتصوف - كما لا يخفى - لَم يكنْ قبل الإسلام، ولَم يكن أحدٌ من الصحابة أو التابعين صوفيًّا، وكان تعبير ابن الجوزي دقيقًا في كتابه "صفة الصفوة" لَمَّا جعل الصحابة والتابعين ومن بعدهم زهَّادًا، ورتَّبهم على طبقات، ثم تطوَّر الزُّهْد في أول نشأته وتحوَّل إلى قضايا أخرى.



لا شك أن دُخُول الأدْعياء - سُلُوكًا وقولاً - وجعل ما يصدر منهم حكمًا على الصُّوفية، له أثرٌ كبير في نقْل صورةٍ مُشوَّهة عن أئمة الصوفيَّة المتقدِّمين[1]، وقد حذَّر السراج في مقدمة كتابه من المتشبعين بأهل التصوُّف[2].

أن أخذ بعض أقوال أئمة التصوُّف العامة - وخاصة أنَّ كلَّ إمام يُدوِّن تجربته وما يجده هو في نفسه مِن معايشته لتجربته - يُشَكِّل خلطًا عند المتلقِّي.

بعض المنتسبين وكُتَّاب المتصوِّفة جعلوا المرْوي عن المتأخرين منهم هو الأصل، ويحكون الأقوال والقصص المستشنعة، فيظن بعض الباحثين أن هذا هو دين الصوفية كلهم[3].



يقول د. محمود النواوي: "وأما التصوُّف المخلوط بالشطح والبدَع الخارجة عن سنن الأولين من السلف الصالحين، فإنه شيء إثمه أكبر مِنْ نفعه"[4].



وهذا الأمر قديمٌ جدًّا، يُمكن أن يُمثل بما ذكر السراج في "اللمع": باب في كلمات شطحيات تُحْكى عن أبي يزيد، قد فسر الجنيد طرفًا منها[5].



ومن الآفات في كتب التصوف: عدم تحرِّي الدقة في النقل وضبط الأقوال والوقائع المرْويَّة[6].



قواعد مهمَّة:

من القواعد المهمة لدراسة اعتقاد أئمة الصوفية أن يُلْحَظ تأكيدهم - رحمهم الله تعالى - على أمر التوحيد والتواصي به، كما ذكر الكلاباذي في "التعرف"[7]، والسراج في "اللمع"[8].



وكذا ما يورده أصحابُ كُتُب العقائد المصنِّفون من الصوفيَّة؛ مثل: ما ذكر عمرو بن عثمان المكي - وهو من صحب الجنيد - في كتابه "التعرف بأحوال العباد والمتعبدين"، من التأكيد على أمر التوحيد وإثبات الصفات لله تعالى[9].



وقد أورد ابن خَفِيف في كتابه "اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات"، أورد جُمَلاً من الاعتقاد ثم قال: "إلا أنني أحببتُ أن أذكر عقود أصحابنا المتصوفة فيما أحدثه طائفة انتسبوا إليهم مما قد تخرصوا من القول مما نزَّه الله المذهب وأهله من ذلك"[10]، ومعمر الأصبهاني في وصيته لأصحابه[11]، وأبو نُعيم الأصبهاني في عقيدته[12].



قال القشيري: "اعلموا أن شيوخ هذه الطائفة بَنَوا قواعد أمرهم على أصول صحيحةٍ في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدَع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السُّنَّة من توحيد ليس فيه تمثيلٌ ولا تعطيلٌ"[13].



وقد أثنى ابن تيميَّة على متَقَدِّمي الصوفيَّة؛ حيث قال: "وهؤلاءِ المشايخ لَم يخرجوا في الأصول الكبار عن أصول أهل السنة والجماعة، بل كان لهم من الترغيب في أصول أهل السنة والدعاء إليه، والحرص على نشرها، ومنابذة مَن خالفها، مع الدين والفضل والصلاح - ما رفع إليه به أقدارهم"[14].



منهج الجمع:

اعتمدتُ في إيراد أقوال الإمام الجُنيد وسهل - رحمهما الله - على:

المُسند من أقوالهما، وما نُقل عنهما في الكُتُب واستفاض شهرة عنهما.

ما نُقل مما يخالف المعهود عنهما[15]، أتوقَّف في نسبته، وأُوضحه بضمِّه إلى المحكم مِن أقوالهم.

"والكلام المجمل مِن كلامهم يُحمَل على ما يناسب سائر كلامهم"[16].

ما رُوي من رسائل مستغربة فيها ألفاظ منكرة تُخالف المعهود من الألفاظ، وتخالف ما ذكر صاحب "اللمع" لما أورد صدور رسائل الجنيد المعهودة عنه..[17]، أو ما في الحلية[18]، وما سوى ذلك، فإنِّي أتوقَّف فيه.

والقاعدة التي نحاكم بها الجنيد وسهلاً ومن قبلهم ومن بعدهم: أنه ما ثَمَّ معصوم من الخطأ غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكلٌّ يؤخَذ من قوله ويترك، إلا صاحب القبر - عليه الصلاة والسلام - وكما سبق: فإن الصوفية أنفسهم قاموا بعملية نقْد ذاتي[19].

بعد جمع المرويات تجمَّع لدي مسائل عديدة، فهذا جَعَلَني أقْتَصر على بعضِ المسائل في مسائل الاعتقاد - كما تراه في هذا البحث - وأَرْجَأت جملةً من المسائل لجزءٍ آخر، منها: الخوف، الرجاء، التوكُّل، الإخلاص، الإيمان، المحبَّة، رؤية الله، المعيَّة، القُرب، الكرامة، السماع، هذا بالنسبة للجنيد.

وأما للإمام سهل: المحبة، الرؤية، الكرامات.

أُعَلِّق على بعض الأقوال - باختصار - مع الإشارة إلى أطراف المسألة في الهامش.



الجُنيد


هو الجنيد بن محمد بن الجنيد النهاوندي، ثم البغدادي، ولد ببغداد سنة نيِّف وعشرين ومائتين، قال أبو نعيم: كان في أول أمره يتفقَّه على مذهب أصحاب الحديث؛ مثل: أبي عبيد، وأبي ثور، قال الخطيب: وأسند الحديث عن الحسن بن عرفة.

ثم أقبل على شأنه وتألَّه وتعبَّد، وصحب الحارث المحاسبي، وأبا حمزة البغدادي، "فسلك مسْلكهما في التحقيق بالعلْم واستعماله"؛ قاله أبو نعيم.

قال الخطيب مؤكِّدًا ذلك: "ثم اشتغل بالعبادة ولازمها حتى علت سِنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره في علْم الأحوال والكلام على لسان الصوفيَّة".

قال ابن المناوي: سمع الحديث الكثير من الشيوخ، وشاهد الصالحين، وأهل المعرفة، ورُزق من الذكاء وصواب الجواب، لَم يُر في زمانه مثله في عِفةٍ وعُزوفٍ عن الدُّنيا.

يقول عن نفْسه - رحمه الله -: كنت أُفتي في حلقة أبي ثور الكلبي (سنة 240)، ولي عشرون سنة، وقد أفرد الهجويري للجنيد فرقة سماها: (الجنيدية)، وفرَّق بينه وبين فرقة (الطيفوريين) ص 419.

محنة الجنيد:

لا يُمكن لدارس الجنيد أن يمرَّ مرور الكرام على هذه الفِتْنة، والتي طالت الصوفية، والجنيد خاصة، واتهم فيها بالكفر والزندقة[20]، وكان المحرِّض لها رجل يُدعى: غلام خليل[21]، أنكر على بعض الصوفية قولهم في المحبة، وكان يقول: الخوف أولى بنا، فطلبهم بأمر الخليفة فاختفى عامتهم، وبعضهم خلَّصته العامة.



ووصفه - أي: غلام خليل - الهجويري بأنه رجل مُراءٍ، ويدَّعي التصوُّف، وذكر سعيه إلى الخليفة ص349.



ويرى صاحبُ كتاب "الإمام الجنيد" زهير ظاظا أنَّ القصَّة مُختَلَقَة، ولَم يُورد الدليل على هذا الاختلاق، إلا تردد بعض المترجمين في تفاصيل القصة، وهذا لا يكفي في ردِّ القصة والفتنة[22]، وأطبق علماء التراجم على الثناء عليه، وعلى فضْله وزُهْده، فمن ذلك:

قال أبو نعيم: كان الجُنيد - رحمه الله - ممن أحكم علْمَ الشريعة[23].

وقال السلمي: "وهو مِن أئمة القوم وسادتهم، مقبولٌ على جميع الألسنة"[24].

وقال ابن تيميَّة: "أحد الأئمة العارفين" [25].

وقال السُّبكي: "سيد الطائفة ومقدَّم الجماعة" [26].

وقال الذهبي: "كان شيخَ العارفين، وقُدوة السائرين، وعَلَم الأولياء في زمانه"[27].



كُتُبه:

لَم ينصَّ أحدٌ من المتقدِّمين على الكُتُب التي تنسب إليه إلا ما نجده عند ابن النديم في "الفهرست"، فهو يقول: له من الكتب: كتاب "المحبة"، "الخوف"، "الوَرَع"، "الرُّهبان"[28]، ولذا يحيط الشك بنسبتها إليه، ما عدا رسائلَه التي لَم تخلُ من إضافات المتأخِّرين، سيّما العجم منهم[29].

سمى له السراج في "اللمع" كتاب: "تفسير كلام أبي يزيد" [30].



له جملةٌ من الرسائل منها:

القصْد إلى الله.

السِّر في أنفاس الصوفيَّة.

الفرْق بين الإخلاص والصِّدق [31].



وغيرها من الرسائل، وله أسئلة مُوجهة إلى علماء؛ مثل: "كتاب الجنيد إلى عمرو بن عثمان المكي"[32]، "كتاب الجنيد إلى يوسف بن يحيى"، وغيرها، وهذه قد أوردها من المتقدمين أبو نعيم في "الحلية" مما يطمئن النفْس في نسبة الرسائل إليه.



أما ما يتعلق بالكتب:

كتاب: "تصحيح الإرادة": نص عليه الهجويري في "كشف المحجوب" ص 584.



رسائل الجنيد:

ويُمكن أن نُمَثِّل لنموذج من النقد الموَجَّه للرسائل:

أ - "رسالة الجنيد إلى أبي يعقوب يوسف بن الحسن الرازي":

نشرها د. علي حسن عبدالقادر في "رسائل الجنيد"، وأثار د/ مجدي محمد إبراهيم التشكيك في صحة الرسالة من وجوه؛ لأن بعض الفصول لا يتفق وروح منهجه وأسلوبه في العرْض، وطريقته في استخدام الجمل، وتركيبات العبارة...[33].



ب - "رسالة القصد إلى الله":

قال د. رجب جمال: فيرى نيكلسون في مجلة "إسلامكا" أن هذا الكتاب ليس مِن عمل الجنيد؛ لأنَّ فيه نصًّا مؤرَّخًا سنة 395 هـ، ثم رأى الدكتور أن الخطأ قد يكون من الناسخ، ص17 هامش (1).



وفاته:

توفي سنة 298 هـ يوم الجمعة في بغداد.



أهم مصادر ترجمته:

"طبقات الصوفية" ص155.

"حلية الأولياء" 10/255.

"تاريخ بغداد" 7/241.

"طبقات الشافعية" 2/260.

"السير" 14/66.

"تاريخ الإسلام" ص118، وفيات سنة 298.

"الطبقات الكبرى"؛ للشعراني 1/72.

"طبقات الأولياء"؛ لابن الملقن 126.



لوازم الطريق وصفات السالكين:[34]

1 - قال الجنيد: "الطرق كلها مسدودةٌ على الخلْق، إلا على مَن اقتفى[35] أثَر[36] الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتبع سنته، ولزم طريقته، فإنَّ طُرُق الخيرات كلها مفْتوحة عليه"[37].

2 - وقال الجنيد: "من لَم يحفظ القرآن، ولَم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في هذا الأمر؛ لأنَّ علمنا هذا مُقيَّد بالكتاب والسُّنَّة"[38].

وساق في "الحلية" بسنده:

3 - قال غير مرة: "علمنا مضبوط: الكتاب[39] والسُّنَّة، من لَم يحفظ القرآن ولَم يكتب الحديث، ولَم يتفَقَّه، لا يُقتَدَى به"[40].

4 - وسُئل عنْ أول مقام التوحيد فقال: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كأنَّك تراه))[41].



التعليق:

وهذه النُّصوص "تُنَبه على أنهم كانوا مجمعين على تعظيم الشريعة، متَّصفين بسُلُوك طريقة الرياضة، متفقين على مُتابعة السنة، غير مخلِّين بشيءٍ من آداب الديانة، وبوب السراج في "اللمع" على ذلك بقوله: "باب ما ذكره عن المشايخ في اتِّباعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتخصيصهم في ذلك"[42].



لا يقبل أن يُفسَّر كلام الإمام الجنيد وغيره في التقيُّد بالكتاب والسنة، أنهم أرادوا دفع المشقَّة عن النفس[43]؛ لأنَّ مفسِّر كلامه هذا التفسير مُطالبٌ بالدليل والبرهان.



5 - قال الهروي في "ذم الكلام": وساق بسنده إلى الجنيد: "أقل ما في الكلام سقوط هيبة الرب من القلْب، والقلْب إذا عري عن الهيبة من الله، فقد عري من الإيمان"[44].



الكلام الذي حذر منه الإمام الجنيد المراد به: ما دخل على المسلمين من إثبات العقائد بالأدلة العقليَّة، والمقاييس المنطقيَّة البعيدة عن الوحي.



وقد رُوي عن أئمة المذاهب الأربعة نحو هذا الكلام، من ذلك: قول الإمام مالك: "إيَّاكم والبدَع، فقيل: يا أبا عبدالله، وما البدَع؟ قال: أهل البِدَع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان"[45].

وقال الإمام الشافعي: "إن سألك رجل عن شيء من الكلام، فلا تجبه"[46].

بل وصل ببعضهم تكفير عوام المسلمين[47].



وهذا لا يمنع من المجادَلة للمخالف، فلا ريب أنَّ هذا قد يكون واجبًا أو مستحبًّا، وما كان كذلك لَم يكنْ مذْمومًا في الشرْع[48].



التوحيد:

6 - قال الجنيد: "التوحيدُ إفرادُ القدم من الحدث"[49].

7 - وقال الجنيد: "التوحيد: علمك وإقرارك بأنَّ الله فرد في أزليته، لا ثاني معه، ولا شيء يفعل فعله"[50].

8 - وسُئل الجنيد عن التوحيد فقال: "إفراد الموحَّد بتحقيق وحْدانيته بكمال أحديته: أنه الواحد، الذي لَم يلدْ ولَم يولد، بنفي الأضداد، والأنداد، والأشباه، بلا تشبيه، ولا تكييف، ولا تصوير، ولا تمثيل ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ "[51].

وأطول منه في "اللمع"[52].



التعليق:

1- مقصود الجنيد التَّوحيد الذي يُشير إليه المشايخ، وهو التوحيد في القصْد والإرادة، وما يَدْخل في ذلك من الإخلاص والتوَكُّل والمحبَّة، وهو أن يُفْرَدَ الحقّ سبحانه - وهو القديم - بهذا كله، فلا يشركه في ذلك مُحدث، وتمييز الرب منَ المربوب في اعتقادك وعبادتك...[53].



فهم الجنيد الفرق بين ما يأمر الله به، وما ينهى عنه، وهو الفرق بين ما يحبه ويبغضه، ومن لَم يسلك في القدر مسلكه، بل سوى بين الجميع، لزمه ألا يُفرق بين الحسنات والسيئات، فلا يقول: إن الله يحبُّ هؤلاءِ وهذه الأعمال، ولا يبغض هؤلاء وهذه الأعمال، بل جميع الحوادث: هو يحبها كما يريدها[54].



2 - من القواعد المهمة في فهم نصوص الأئمة: "أن الكلام المجمل من كلامهم يُحمل على ما يناسب سائر كلامهم، وهؤلاء أكثر ما يُبتلون بالاتحاديَّة والحلولية، الذين يجعلون الرب حالاًّ في المخلوقات، محدودًا بحدودها"[55].



قال السراج: "والذي غلط في الحلول، غلط لأنه لَم يحسنْ أن يميز بين أوصاف الحق، وبين أوصاف الخلق؛ لأن الله تعالى لا يحلُّ في القلوب، وإنما يحل في القلوب الإيمان به، والتصديق له"[56].



9 - وقال الجنيد: "سُئل بعض العلماء عن التَّوحيد فقال: هو اليقين، فقال السائل: بيّن لي ما هو؟ فقال: هو معرفتك أن حركات الخلْق وسكونهم فعْل الله وحده لا شريك له، فإذا فعلت ذلك فقد وحَّدته"[57].

10 - وقال الجنيد: "متى يتصلُ من لا شبيه له ولا نظير له بمن له شبيهٌ ونظير؟ هيهات، هذا ظنٌّ عجيب إلا بما لَطَفَ اللطيف من حيث لا دَرْك ولا وهْم، ولا إحاطة إلا إشارةُ اليقين وتحقيق الإيمان"[58].

11 - وحُكي عن الجنيد أنه قال: "أشرف كلمة في التوحيد قول أبي بكر: سبحانه لَم يجعل للخلق طريقًا إلى معرفته إلا العجز عن معرفته"[59].



ومن منثور كلامه عن التوحيد:

12 - قال الجنيد: "إن أول ما يحتاج إليه مَن عقد الحكمة تعريف المصنوع صانعه، والمحدث كيف كان أحدثه، وكيف كان أوله، وكيف أحدث بعد موته، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث، فيعرف المربوب ربه، والمصنوع صانعه، والعبد الضعيف سيده، فيعبده ويوحده، ويعظمه ويذل لدَعْوته، ويعترف بوُجُوب طاعته، فإن لَم يعرف مالكه لَم يعترف بالملك لمن استوجبه، ولَم يضف الخلق في تدبير إلى وليِّه، والتوحيدُ: علمك وإقرارك بالله، فرد في أوليته وأزليته، لا ثاني معه، ولا شيء يفعل فعله، وأفعاله التي أخلصها لنفسه: أن يعلم أن ليس شيء يضر ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع ولا يسقم ولا يبرئ، ولا يرفع ولا يضع، ولا يخلق ولا يرزق، ولا يميت ولا يُحْيي، ولا يسكن ولا يحرك غيره - جلَّ جلاله"[60].

13 - وقال الجنيد في "جوابات الشاميين": "التوكُّل عمل القلب[61]، والتوحيد قولُ القلْب"[62].

14 - وقال الجنيد في موضعٍ آخر، وسُئل عن المعرفة فقال: "وأعلم خلقه به أشدهم إقرارًا بالعجز عن إدراك عظمته، أو تكشف ذاته لمعرفتهم بعجْزهم عن إدراك من لا شيء مثله، إذ هو القديم وما سواه محْدث، وإذ هو الأزلي وغيره المبدَأ، وإذ هو الإله وما سواه مألوه... وكل عالم فبعلمه عَلِم، سبحانه الأول بغير بداية، والباقي إلى غير نهاية، ولا يستحق هذا الوصْف غيره، ولا يليق بسواه... فالشاهد على أدناها - أي: المعرفة - الإقرار بتوحيد الله، وخلع الأنداد من دونه، والتصديق به وبكتابه وفرضه فيه ونهيه"[63].

15 - قال أبو محمد الجريري: "سمعتُ الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة، فقال الرجل: أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرُّب إلى الله، فقال الجنيد: إن هذا قولُ قومٍ تكلموا بإسقاط الأعمال، وهذه عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا!"[64].

16 - ونص آخر يؤكد أهمية العمل عن الجنيد ما ذكره عند قوله تعالى: ﴿ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ﴾ [الأعراف: 169]، قال: "تركوا العمل به"[65].



ويفهم من كلام الجنيد أيضًا أن المزية لا ترفع التكليف، وهذا ما عبر عنه أبو العباس أحمد بن زروق؛ إذ قال: "ثبوت المزية لا يقضي برفع الأحكام، ولزومه الأحكام لا يرفع خصوص المزيّة، فمن ثبت عليه أو لزمه حد وقع عليه، مع حِفْظ حرمته الإيمانيَّة أصْلاً، فلا يُمتهن عرضه إلا بحقه على قدر الحق المسوغ له، وإن ثبتت مزيَّة دينيَّة لَم تُرفع إلا بموجب رفعها"[66].



وعقد السراج فصلاً في "اللمع": "باب في ذكر الفرقة التي غلطت في الإباحة والحظر والرد عليهم".

ثم علَّق: "وإنما غلطوا في ذلك بدقيقة خفيتْ عليهم، من جهلهم بالأصول، وقلة حظهم من علم الشريعة"[67].

وهو في ذلك يمثل خير تمثيل قمة الشرع وقمة العقل، وغاية ما ينتهي إليه التصوُّف الإيجابي[68].



ويوافق الإمام الجنيد أبو علي الروذباري الصُّوفي، حين سُئِل عمَّن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلال؛ لأنِّي وصلتُ إلى درجة لا تؤثر فيَّ اختلاف الأحوال، فقال: نعم، وصل، ولكن إلى سقر"[69].






يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 52.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 52.36 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.18%)]