عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 11-01-2020, 12:51 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي تخريج حديث: (أنا مدينة العلم) وبيان علله

تخريج حديث: (أنا مدينة العلم) وبيان علله


محمد زياد التكلة


بسم الله الرحمن الرحيم

قال محمد زياد عُفي عنه:
رُوي هذا الحديث عن ابن عباس، وعلي، وجابر بن عبدالله، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود، وعن عدة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين.

فأما حديث ابن عباس:
فيُروى من طرق عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا، وهذا بيانها:

الطريق الأولى: عن أبي معاوية محمد بن خازم الضرير عن الأعمش به، ورواه عن أبي معاوية جماعة:
1) أبو الصلت عبدالسلام بن صالح الهروي عنه: أخرجه ابن محرز في معرفة الرجال (2/242) وابن جرير الطبري في تهذيب الآثار (ص105 مسند علي) والطبراني في الكبير (11/65-66) وابن عدي (5/67) والحاكم (127-126/3) وابن عبدالبر في الاستيعاب (ذكره ابن حجر في أجوبة أحاديث المصابيح (1789/3) والذي في مطبوعة الاستيعاب 8/155 أو 3/38 دون إسناد) والخطيب (11/48 و49) وابن المغازلي في المناقب (121 و123 و124) وأبوالخير الطالقاني في الأربعين المنتقاة (30) وأخطب خوارزم في المناقب (69) وفي مقتل الحسين (24) وابن عساكر (380/4) وابن الجوزي في الموضوعات (1/351) وابن الأثير في أسد الغابة (4/109) وابن حمويه الجويني في فرائد السمطين (كما في نفحات الأزهار وحاشيته 10/181) والمزي في تهذيب الكمال (18/77) والذهبي في تذكرة الحفاظ (4/1231) من طرق عنه.
وهذا أشهر مخارج الحديث، بل الحديث معروفٌ بأبي الصلت كما نصّ جماعة من الحفاظ، منهم: مطيّن، وابن حبان، وابن عدي، والدارقطني، وابن عساكر.
وهذا ضعيف جداً، فأبوالصلت رافضيٌّ منكر الحديث، واتهمه غير واحد بالكذب، بل صرَّح العقيلي وابن طاهر وابن الجوزي أنه كذاب، وقال بعض الأئمة فيه: هو أكذب من روث حمار الدجال!

* وهذه بعض أقوال أهل العلم في حديث أبي الصلت هذا:
فقال المروذي في العلل (308 ومن طريقه الخطيب 11/48): سئل أبوعبدالله [يعني الإمام أحمد] عن أبي الصلت، فقال: روى أحاديث مناكير. قيل له: روى حديث مجاهد عن علي: "أنا مدينة العلم وعلي بابها"؟ قال: ما سمعنا بهذا! قيل له: هذا الذي تنكر عليه؟ قال: غير هذا، أما هذا فما سمعنا به! وروى عن عبدالرزاق أحاديث لا نعرفها ولم نسمعها!
وقال الخلال في العلل (120 منتخبه): أخبرنا محمد بن علي، ثنا محمد بن أبي يحيى، قال: سألت أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا مدينة العلم وعلي بابها". فقال أحمد: قبح الله أبا الصلت، ذاك ذكر عن عبد الرزاق حديثا ليس له أصل.

قلت: هو بمعنى الذي قبله، والأول أصح، فإن محمد بن أبي يحيى لم أعرفه، وكذا قال الألباني في الضعيفة (6/521)، وقال: إن ابن أبي يعلى لم يذكره في طبقات الحنابلة.
وذكر الخطيب في غنية الملتمس (379) راويين بهذا الاسم، وهما متقدمان عن هذا، وليس هو محمد بن أبي يحيى الزهري الأصبهاني المترجم في طيقات المحدثين بأصبهان (3/542) وتاريخ الإسلام (23/328)، فهذا لم يدرك الرواية عن أحمد وابن معين.
وقال أبوجعفر محمد بن عبد الله الحضرمي المعروف بمطين: لم يرو هذا الحديث عن أبي معاوية من الثقات أحد، رواه أبو الصلت فكذبوه. رواه الخطيب (7/172) ومن طريقه ابن عساكر (42/381).
وقال ابن حبان في المجروحين (2/151): هذا شيء لا أصل له، ليس من حديث ابن عباس، ولا مجاهد، ولا الأعمش، ولا أبومعاوية حدّث به، وكل من حدث بهذا المتن فإنما سرقه من أبي الصلت هذا؛ وإن أقلب إسناده.
ونقله السمعاني محتجاً به في الأنساب (5/637 الثقافية).
وقال ابن عدي (1/189): وهذا الحديث يعرف بأبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، سرقه منه أحمد بن سلمة هذا، ومعه جماعة ضعفاء.
وقال أيضا (2/341): هذا حديث أبي الصلت الهروي عن أبي معاوية، على أنه قد حدث به غيره، وسرق منه من الضعفاء، وليس أحد ممن رواه عن أبي معاوية خير وأصدق من الحسن بن علي بن راشد، والذي ألزقه العدوي عليه.
وقال أيضا (3/412): وهذا يروي عن أبي معاوية عن الأعمش، وعن أبي معاوية يعرف بأبي الصلت الهروي عنه، وقد سرقه عن أبي الصلت جماعة ضعفاء.
وقال أيضا (5/67): والحديث لأبي الصلت عن أبي معاوية، وبه يُعرف، وعندي أن هؤلاء كلهم سرقوا منه.
وقال أيضا (5/177): وهذا الحديث في الجملة معضل عن الأعمش، ويروي عن أبي معاوية عن الأعمش، ويرويه عن أبي معاوية أبو الصلت الهروي، وقد سرقه من أبي الصلت جماعة ضعفاء.
وقال الدارقطني في تعليقاته على المجروحين (179): قيل إن أبا الصلت وضعه على أبي معاوية، وسرقه منه جماعة فحدثوا به عن أبي معاوية.. ثم سرد جماعة.
وأشار أبونعيم لنكارته بقوله عن أبي الصلت في الضعفاء (140): يروي عن حماد بن زيد وأبي معاوية وعباد بن العوام وغيرهم أحاديث منكرة.
وقال ابن عساكر في تاريخه (42/380) بعد أن سرد عدة طرق للحديث: كل هذه الروايات غير محفوظة، وهذا الحديث يُعرف بأبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي.
وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ (4/1231-1232): هذا الحديث غير صحيح، وأبو الصلت هو عبد السلام متهم.
وقال ابن كثير في جامع المسانيد والسنن (مسند ابن عباس رقم 1940): عبد السلام بن صالح الهروي، وهو متروك. (وعنده تصحيف، ولعل الصواب ما أثبت).
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/114): فيه عبد السلام بن صالح الهروي، وهو ضعيف.
فهذا مما فيه النص على رواية أبي الصلت، وتأتي أقوال جملة من الحفاظ حكموا أن الحديث برمّته لا أصل له، كما يأتي مزيد إعلال لمخرج الحديث قريباً.

* إلا أن ابن معين نُقل عنه ما يفيد تمشية هذه الطريق، أو تليين القول في الحديث، على اضطراب واضح في النقول عنه، بل في بعضها تضاد، نسوقها جميعاً في هذا الموضع ثم نناقشها:
فقال ابن معين في رواية عن الدوري عنه: ثقة. هكذا روى الحاكم المستدرك (3/126-127)، بينما جاءت في رواية الخطيب (11/50 ومن طريقه ابن عساكر 42/381) من طريق الدوري أيضاً: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت. ولم أجد ذلك في تاريخ الدوري المطبوع.
وقال ابن معين في رواية صالح بن محمد: صدوق. على ما جاء في المستدرك (1/127)، وجاءت العبارة عند الخطيب (11/50): رأيت يحيى بن معين يُحسن القول فيه.
وقال في رواية عبدالخالق بن منصور: ما أعرفه. رواها الخطيب (11/49).
وقال في رواية ابن الجنيد (ضمن سؤالاته 387 و497 ومن طريقه الخطيب 11/48-49): قد سمع، وما أعرفه بالكذب. وقال أيضا: لم يكن أبوالصلت عندنا من أهل الكذب، وهذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها.
وقال في رواية ابن محرز (1/79 ومن طريقه ابن عساكر 42/382): ليس ممن يكذب.
وقال في رواية حاتم بن يونس الجرجاني الحافظ (كما في السير 11/448): صدوق أحمق.
وقال في رواية عمر بن الحسن بن علي بن مالك عن أبيه عنه: ثقة صدوق إلا أنه يتشيع. رواها الخطيب (48/11) وعمر وأبوه ضعيفان.
فهذا كلامه في الرجل، وأما الحديث فقد قال في رواية عبد الخالق بن منصور الآنفة لما سئل عن رواية أبي الصلت: ما هذا الحديث بشيء.
وقال في رواية ابن الجنيد: ما سمعت به قط، وما بلغني إلا عنه. وقال في الموضع الثاني: هذه الأحاديث التي يرويها لا نعرفها.
ولما أخبر الدوري وصالح بن محمد ابنَ معين أن أبا الصلت يروي حديث أبي معاوية عن الأعمش هذا أجابهما أنه محمد بن جعفر الفيدي تابعه، وزاد عند في رواية الحاكم عن الدوري أن الفيدي ثقة مأمون.
وسأله أبومنصور يحيى بن أحمد بن زياد الشيباني الهروي (في أحاديثه عن ابن معين رقم 40، ومن طريقه الخطيب 11/49) عن حديث أبي الصلت هذا فأنكره جدا.
ورواه الخطيب في موضع آخر (11/205) من نفس الطريق، لكن لفظه: سألت يحيى بن معين عن حديث أبي معاوية عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أنا مدينة العلم، فأنكره جدا.
وقال ابن مـحرز (1/79 ومن طريقه الخطيب 11/50): سـألت يحيى بن مـعين عن أبي الصلت عبد السلام بن صـالح الـهروي؟ قال: ليس ممن يكذب، فقيل لـه في حديث أبي مـعاوية، عن الأعمش، عن مـجاهد، عن ابن عباس: "أنا مـدينة العلم ، وعلي بابها"، فقال: هو من حديث أبي معاوية، أخبرني ابن نـمير قال: حدّث به أبو مـعاوية قديماً ثم كف عنه. وكان أبو الصلت رجلاً موسراً، يطلب هذه الأحاديث، ويكرم المشايخ، وكانوا يحدّثونه بها.
ولما سأل ابن الجنيد ابن معين عن رواية أبي الصلت لحديث الأعمش هذا قال: ما سمعت به قط، وما بلغني إلا عنه. وقال في موضع آخر: هذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها.
ولما سأله القاسم بن عبد الرحمن الأنباري عن حديث أبي الصلت هذا قال: هو صحيح. رواه الخطيب (11/49) ومن طريقه ابن عساكر (42/380) والمزي (18/77).
وقال ابن معين عن رواية عمر بن إسماعيل بن مجالد الآتية: حدّث عن أبي معاوية بحديث ليس له أصل، كذبٌ عن الأعمش: عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: عليٌّ مدينة العلم، أو كلام هذا معناه. كما في العلل لعبد الله بن أحمد (3/9)، ورواه عنه بمعناه ابن أبي حاتم والعقيلي.
وقال ابن الجنيد (53 ومن طريقه الخطيب 204/11): سمعت يحيى بن معين وسئل عن عمر بن إسماعيل بن مجالد بن سعيد، فقال: كذاب، يُحدِّث أيضاً بحديث أبي معاوية عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنا مدينة العلم وعلي بابها، وهذا حديث كذب ليس له أصل.
وذكر أبوزرعة في الضعفاء (520 وانظر الجرح والتعديل 6/99 وتاريخ بغداد 11/205) أنه سمع من عمر بن إسماعيل هذا الحديث، فأنكره عليه قائلا له: ولا كل هذا بمرة! ثم قال: فأتيتُ ابن معين فذكرتُ ذلك له، فقال: قل له: يا عدو الله! متى كتبت أنت هذا عن أبي معاوية؟ إنما كتبتَ أنت عن أبي معاوية ببغداد، ومتى روى هو هذا الحديث ببغداد؟
وروى الخلال (121) عن محمد بن أبي يحيى، عن ابن معين أنه قال: حدثني به ثقة: محمد بن الطفيل عن أبي معاوية.

* فهذا ما وقفنا عليه من كلام ابن معين عن الحديث وراويه أبي الصلت، وهو كما ترى مختلف جدا، وقد حاول الخطيب في تاريخه (49/11) التوفيق قائلاً: أحسب عبد الخالق سأل يحيى بن معين عن حال أبي الصلت قديما، ولم يكن يحيى إذ ذاك يعرفه، ثم عرفه بعد، فأجاب إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن حاله. وأما حديث الأعمش فإن أبا الصلت كان يرويه عن أبي معاوية عنه، فأنكره أحمد بن حنبل ويحيى بن معين من حديث أبي معاوية، ثم بحث يحيى عنه فوجد غير أبي الصلت قد رواه عن أبي معاوية.
وقال في توجيه تصحيح ابن معين المذكور في رواية ابن الأنباري قائلا (11/50): أراد أنه صحيح من حديث أبي معاوية، وليس بباطل، إذ قد رواه غير واحد عنه.

قلت: من الظاهر من هذه النقول أن يحيى بن معين -على إمامته وسعة معرفته وروايته- لم يكن قد سمع بالحديث في البداية، مع أنه مذكورٌ عن مجاهد، والأعمش، وأبي معاوية، وهم من هم! وكذلك الشأن مع الإمام أحمد -وهو القائل: كل حديث لا يعرفه ابن معين فليس هو بحديث - فكيف يفوتهما هذا الحديث ويظهر في القرن الثالث عند أبي الصلت؟ وعن أبي معاوية شيخ ابن معين وأحمد! ثم لما أخبر أصحابُ ابن معين شيخَهم بالحديث مستنكرين له كانت إجابته على أضرب:

أما عن الأعمش فقد نص أنه كذبٌ عليه ولا أصل له عنه وأنه لم يسمع به قط، ولم يُذكر عن ابن معين خلاف هذا بخصوص رواية الأعمش، وهذا كافٍ في الحكم على الطريق، على أن لابن معين حكماً في مسألة رواية الأعمش عن مجاهد، فقال في رواية ابن طهمان الدقاق عنه (59): الأعمش سمع من مجاهد، وكل شيء يرويه عنه لم يسمع، إنما مرسلة مُدلَّسة.

وأما عن أبي معاوية فقد صرَّح في بعض الروايات أنه لا يعرف روايته، وقال في واحدة منها إنه من حديثه الذي كفَّ عنه، على ما أخبره ابن نُمير - وفي هذا الأمر استشكال يأتي قريباً- وقال في رواية أخرى أنه حدثه ثقة عن أبي معاوية - والراوي لهذا عنه لم أجد له ترجمة- ولكن على فرض ثبوت ذلك فقد جمع الخطيب بين القولين كما تقدم، كما أن الأمر إن كان كما نقل عن ابن نُمير فهذا يلتقي مع حكم ابن معين أن الحديث كذبٌ لا أصل له عن الأعمش، فلولا أن أبا معاوية علم وهنه وأنه ليس من حديث شيخه الأعمش ما كفَّ عنه، وأشار لهذا العلامة المعلمي في حاشيته على الفوائد المجموعة للشوكاني (352)، وأما إن كان الأمر كما كان يقول ابن معين -وجماعة سواه- إنه لا يعرفه عن أبي معاوية مطلقاً فالحال أشد.

نعم، وأما ما نقل أبوزرعة عن ابن معين أن أبا معاوية لم يحدّث بهذا الحديث في بغداد فيحتمل أمرين: الأول: أن يكون قد حدّث به خارج بغداد، وهنا قد يكون أُدخل عليه في بلده الكوفة التي يكثر فيها التشيع وأخوه الوضع، أو أنه وهم ودخل عليه شيء في شيء، ثم تنبّه، وهذا قد يلتقي مع نقل ابن نمير أنه حدَّث به ثم كفَّ عنه ورجع، وقد يؤيد هذا الرواية التي فيها إثبات ابن معين لرواية الفيدي للحديث عن أبي معاوية، وكلاهما كوفي، فربما كانت عمدة ابن معين في أن أبا معاوية حدَّث به خارج بغداد، ولكن يأتي بيان حال متابعة الفيدي هذه، وأنها معلولة.

والاحتمال الثاني: أنه يُنكر حالة خاصة، فقد علم أن سماع الرجل من أبي معاوية كان ببغداد، وهي بلد ابن معين وغيره من أصحاب أبي معاوية -كالإمام أحمد- وما سمعوا قط أن شيخهم - مع شهرته وانتشار حديثه- قد حدّث بهذا الحديث، فلو كان مما حدّث بها لعلمه أصحابه فيها من باب أولى، فلا يفوت على حفاظ هذا البلد ويُغرب عليهم فيه ضعيفٌ جاءهم من خارجها! ولهذا في نفس الجواب الذي فيه نفي ابن معين أن يكون أبومعاوية حدَّث به في بغداد قال: إنه حديث كذب ولا أصل له. وهذه العبارة تقوّي هذا الاحتمال.
بقي تحرير حكم ابن معين في رواية أبي الصلت نفسه، فهو معاصر لابن معين، وتوفي بعده سنة 236، وهذا سببٌ لئلا يسبر ابن معين حديثه جيداً، إذ ليس من طبقة شيوخه، ولهذا قال في البداية إنه لا يعرفه، ولم يعرف أن هذا من أحاديثه، وكان أصحابه وتلامذته يُعلمونه بها، فظهر بذلك أن معرفة ابن معين بحال الرجل كانت قاصرة.

ثم كان أبوالصلت من خواص الخليفة المأمون وجيهاً موسراً، فضلاً عن زهده الظاهر، وقد نقل الخطيب (11/50) عن صالح بن محمد أن ابن معين كان يُحسن القول فيه، وأنه رآه عنده. ولما سأله ابن محرز عن حاله ذكر ابن معين أنه يُكرم الشيوخ ويُحسن إليهم، فهنا ابن معين هو الذي يزور أبا الصلت بنفسه، ويُجيب بهذا الجواب، فكان الأمر كما قال الحافظ الذهبي عن أبي الصلت في السير (11/447): "جُبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وكان هذا بارًّا بيحيى، ونحن نسمع من يحيى دائماً ونحتج بقوله في الرجال، ما لم يتبرهن لنا وهن رجل انفرد بتقويته أو قوة من وهّاه".

كما يظهر أن أبا الصلت كان يتجمل لابن معين بشكل خاص، فإنه فضلا عن إحسانه وإكرامه له: كان يكتم عنه مناكيره، يدل على ذلك أن ابن معين لم يعرف حديثه هذا إلا من غير أبي الصلت، ولا نُقل له كلام في أحاديثه المنكرة الأخرى عن آل البيت، رغم أنه يجالسه ويزوره، فهذا من دهاء أبي الصلت، فقد كان يبثّ المناكير ويُشيعها مع حرصه على إخفائها عن الأئمة كابن معين وأحمد، وأشار لهذا المعنى المعلمي في حاشية الفوائد المجموعة، ولا سيما أنه منقولٌ في ترجمة ابن معين أن المشايخ كانوا يتهيبونه ويُكرمونه ويجّلونه إجلالاً خاصًّا.
ولهذا وذاك يظهر أن ابن معين جامل أبا الصلت في الحكم على روايته، أو أنه لم تظهر له حقيقة حاله فعلاً، فكان يدافع عن أبي الصلت أنه لم يسمع الحديث منه، وأن ظاهر الرجل عنده عدم الكذب، وأن الحديث ليس من عهدته، وذلك (في أكثر الروايات) بأنه توبع، أو أن الحديث كان عند أبي معاوية فعلا.
ويظهر أن بقاء أبي الصلت حيًّا بعد يحيى واستمرار إحسانه وتستره له منع يحيى من الكلام الصريح فيه، فإجاباته لأصحابه الذين يستنكرون حديثه هذا بالذات تظهر فيها المدافعة والتحرج، فيقول حيناً: ما أعرفه! وحيناً: قد سمع، وما أعرفه بالكذب، ولم يكن عندنا من أهل الكذب، وأحياناً يجيب بجواب فيه الإدانة بشكل غير مباشر بقوله: هذه الأحاديث التي يرويها ما نعرفها!

وأما ما رُوي عنه من إطلاق توثيقه ففيه وقفة، فما نقله الحاكم عن الدوري من قول ابن معين عنه: "ثقة" ليس في تاريخ الدوري المطبوع، ولما أورده الخطيب من طريق الدوري جاءت العبارة: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت. وهذه العبارة يُمكن أن تجتمع مع نقل صالح بن محمد أن ابن معين كان يُحسن القول فيه، خلافاً لما نقله الحاكم عن صالح بن محمد نفسه بلفظ: صدوق! فبين العبارتين فرقٌ، والحاكم له عدة أوهام ومخالفات في النقل في المستدرك عموما، وفي هذا الحديث خصوصاً، كما سبق ويأتي، ولعله تسمّح ونقل بالمعنى الذي فهمه.
وأما رواية الحسن بن علي بن مالك عن ابن معين أنه قال فيه: ثقة صدوق؛ فهي ضعيفة السند كما تقدم، وأما رواية الجرجاني عنه قوله: صدوق أحمق فإن ثبتت فتلتقي مع قوله: ما أعرفه بالكذب.
فهذا ما يتعلق بتحرير كلام ابن معين في أبي الصلت، وكله منصب في دفع جناية الحديث به، وأن الفيدي تابعه.

* لكن كان ابن معين يرتاح أكثر في الكلام على الحديث منفصلاً دون قرنه بحال أبي الصلت، فقد صرَّح في رواية عبد الخالق بن منصور: ما هذا الحديث بشيء. وفي رواية يحيى الشيباني: أنكره جداً. وفي غير رواية: ما أعرفه أو ما سمعت به قط. وسبقت رواية عبد الله بن أحمد في أنه كذب لا أصل له عن الأعمش. وأما ما نُقل عنه من تصحيحه فقد مضى توجيه الخطيب له.
فظهر بذلك أن حكم ابن معين على الحديث لا يتأثر عند التحقيق بموقفه الشخصي من أبي الصلت، وقال الألباني في الضعيفة (6/522): إن أكثر الروايات عن ابن معين تميل إلى تضعيف الحديث.
وإن أردنا الترجيح أكثر فرواية عبد الله بن أحمد (ت290) متأخرة فيما يظهر عن الرواية المذكورة عن الدوري (ت271)، ولا سيما أن الإمام أحمد أيَّد ابنَ معين في حكمه، وقد توفي أحمدُ بعد ابن معين، ولم ينقل عنه عبد الله بن أحمد تعقباً ولا تغيراً في الحكم على الحديث، وعاضدته رواية يحيى بن أحمد الشيباني عن ابن معين (ت298) - وهو من أواخر الرواة عنه - في أن الحديث منكر جداً، ولعل هذا ما استقر عليه رأي الإمام ابن معين، وبذلك يوافق سائر الحفاظ والحمد لله.
ثم لنفترض أن ابن معين يوثق أبا الصلت، فهذا مخالِفٌ لجرح سائر الحفاظ له، وكثير منهم جرحُه مفسر، بل شديد، ولا شك أن كلامهم مقدَّم، وتقدم كلام الذهبي في السير (11/447): ونحن نسمع من يحيى دائما ونحتج بقوله في الرجال ما لم يتبرهن لنا وهن رجل انفرد بتقويته أو قوة من وهاه.
كما قال الخطيب بعد إيراده لأقوال ابن معين: وقد ضعَّف جماعة من الأئمة أبا الصلت وتكلموا فيه بغير هذا الحديث. ثم سرد أقوال جماعة.

* وقبل الفراغ من تحقيق موقف ابن معين أرى التنبيه على أربع مسائل:
الأولى: ما تقدم في رواية ابن محرز عن ابن معين من قوله: هو من حديث أبي معاوية، أخبرني ابن نمير، قال: حدّث به أبو معاوية قديماً ثم كفّ عنه.
فأقول: إن هذا مخالف لسائر الحفاظ الذين أنكروه عن أبي معاوية أصلا، والنفس تتساءل: لماذا لم يكن هذا جواب ابن معين عن رواية أبي الصلت من البداية؟ فما كان أبوالصلت بحاجة إلى متابع إن كان الحديث ثابتا أصلا من حديث أبي معاوية، ثم إن ابن معين قال في رواية عمر بن إسماعيل بن مجالد عن أبي معاوية الآتية: هذا حديث كذب ليس له أصل. واستدل على كذب ابن مجالد أنه روى هذا عن أبي معاوية، فلو كان محفوظاً عند ابن معين عن أبي معاوية فلماذا يكذّبه؟ ثم إنه يتعارض مع قول ابن معين لما سئل عن حديث أبي الصلت هذا: ما بلغني إلا عنه.
فهذا يحتاج إلى تأمل، ولا سيما مع إعراض الحفاظ بعد ابن معين عن الاعتبار بكلامه هذا، والله أعلم.
وقد قال المعلمي في حاشيته في الفوائد المجموعة (ص350): قد يُقال: يحتمل أن ابن نمير ظن ظنًّا، وذلك أنه رأى ذينك الرجلين زعما أنهما سمعاه من أبي معاوية، وهما ممن سمع منه قديماً، وأكثر أصحاب أبي معاوية لا يعرفونه، فوقع في ظنه ما وقع.

الثانية: نبّه العلامة المعلّمي أن من وثّق أبا الصلت لزمه الطعن في علي بن موسى الرضا، فقد تكلم فيه ابن حبان وابن طاهر لروايته العجائب عن آبائه، ودافع الذهبي وابن حجر أن علة ذلك من الرواة عنه، ومن أشهرهم أبوالصلت، فمن مشّى أبا الصلت فقد ألزق علة تلك الأباطيل بالرضا.

الثالثة: ذكر الغماري في جزئه عن الحديث أن أبا داود قال عن أبي الصلت: كان ضابطا، ورأيتُ ابن معين عنده؛ وهذا من أخطائه الكثيرة في الحديث، فأبوداود قاله في عبد السلام بن مطهر، وليس ابن صالح الهروي راوي الحديث! نعم، هذا الوهم مذكور في ترجمة الهروي في التهذيب، ولكن الغماري شنَّع في جزئه على من قلَّد غيره في هذا الحديث، ثم قلَّد في هذا وغيره من الأوهام!
ومن أخطائه أنه عدّ رواية عبد الله بن أحمد عن أبي الصلت توثيقاً، وزعم تبعاً أن الإمام أحمد وثقه تبعاً، وكلا ذلك افتراء، فالإمام ضعّف أبا الصلت وأنكر حديثه كما تقدم، وكذا ابنه عبد الله بن أحمد تَكلم في أبي الصلت أيضاً؛ كما في ضعفاء العقيلي (3/70) وإكمال مغلطاي (8/274)! فضلا أن مجرد روايته عنه لا تلزم التوثيق، كما فصَّل الكواري في جزئه عن الحديث (ص18).
ومن أخطاء الغماري الفاحشة أنه روى الحديث بإسناده في فاتحة جزئه من طريق الذهبي في التذكرة (4/1231 دون إشارة!) من طريق أبي محمد الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ من هذا الوجه، ودلّس الغماري فزعم أنه رواه من كتاب بحر الأسانيد للسمرقندي، وهو لم يره، وإنما اعتمد على وصفه من قبل الذهبي، وهو بدوره نقلا عن النسفي في كتاب القند، ولم ينص الذهبي أن الحديث الذي أورده منقول من الكتاب المذكور! ولا ذكر ما يفيد أنه رآه بنفسه! وبعد أن زعم الغماري أخذه من الكتاب المذكور أوهم أن السمرقندي صححه فيه! وكرر ذلك في جزئه، وكل ذلك من الهوى، والله المستعان.

الرابعة: بالإمكان إضافة المزيد من الأئمة الذين أنكروا الحديث على أبي الصلت، وهم جل الذين سألوا ابن معين عنه، مثل: صالح بن محمد الحافظ الملقب جزرة، وابن الجنيد، والدوري، وعبد الخالق بن منصور، فيتضح من سياق أسئلتهم ورواياتهم أنهم يُنكرون ويستغربون حديثه هذا بالذات، وأنهم ما سألوا يحيى عن الرجل إلا لأجل الحديث فيما يظهر، ولهذا عندما يحيى كان يجيبهم إجابة فيها تردد أو عدم معرفة له كانوا يُخبرونه أنه روى حديث كذا، ومن تأمل ظهر له ذلك.



وبعد الفراغ من رواية أبي الصلت نعود إلى سياق الطرق عن أبي معاوية:
2) محمد بن جعفر الفَيْدي عن أبي معاوية:
ذكره هذه الرواية ابن معين كما سبق، وأخرجها الحاكم (3/127) عن محمد بن أحمد بن تميم القنطري، ثنا الحسين بن فهم، ثنا محمد بن يحيى بن الضريس، ثنا محمد بن جعفر الفيدي به.
قال الحاكم: ليعلم المستفيد لهذا العلم أن الحسين بن فهم بن عبد الرحمن ثقة مأمون حافظ.
قلت: كذا قال هنا، ولكنه قال في موضع آخر: ليس بالقوي، وقال شيخه الدارقطني: ليس بالقوي. (انظر: اللسان 2/308-309)، فالظاهر أن توثيقه هنا هو أحد أخطائه الكثيرة في المستدرك، ولا ننسى ما ذكره ابن حجر أن الحاكم ألف كتابه في آخر عمره، وأنه لم يُمْلِ إلا نحو الربع من الكتاب، ثم توفي دون إملاء بقيته، وكثر في القدر الباقي التساهل والوهم، حتى إنه صحح لبعض من كذّبهم وضعّفهم في كتبه الأخرى، وهذا الحديث جاء في النصف الثاني من الكتاب.
والقنطري ليّنه ابن أبي الفوارس، وأما الفيدي فقد روى الحاكم عن الدوري عن ابن معين توثيقه كما سبق، ولكن في النفس منه، فقد رواه الخطيب (11/50) من طريق الدوري دون ذكر التوثيق، وليس في ما بين أيدينا من تاريخ الدوري المطبوع، وهذا الذي اعتمده المزي في التهذيب (18/79)، بل جاء في نقل ابن حجر عن مستدرك الحاكم في إتحاف المهرة (8/41): قد حدّث به محمد بن جعفر الفيدي وهو معه. والنص يحتمل التصحيف ويحتمل عدمه. كما قال عنه البزار: صالح. وذكره ابن حبان في الثقات، وهما متساهلان، بينما اتهمه الدارقطني نصًّا في تعليقاته على المجروحين (179) بسرقة هذا الحديث من أبي الصلت، وتعمُّه تهمة جماعة من الحفاظ بسرقة الحديث من أبي الصلت، وأنه لم يروه من الثقات أحد عن أبي معاوية، وقال ابن حجر في التهذيب: له أحاديث خولف فيها. وقال في التقريب: مقبول.
وكما نرى أن الكلام تعارض فيه، فذُكر بنوع توثيق - على الخلاف المذكور في ثبوته - وجُرح، وقد فُسِّر الجرح بسرقة الحديث والمخالفة، فيُقَدّم كما هي القاعدة، بل جوَّز الألباني في الضعيفة (6/524) أن يكون هو بعينه جعفر بن محمد البغدادي الذي أشار مطين لكذبه -وتأتي روايته قريباً- ولكن انقلب اسمه، فإن الفيدي كوفي نزل بغداد، وكلاهما روى عنه مطين، فإن كان هو فيتأكد الجرح الشديد في حاله.
وعلى كل حال فمع ضعف سند الحاكم وتعدد العلل فيه فإنه قد خولف:
فرواه ابن محرز في معرفة الرجال (2/242) وابن المغازلي (128) عن محمد بن جعفر الفيدي، عن محمد بن الطفيل، عن أبي معاوية به.
وهذا أقوى من رواية الحاكم، وقد كشف علة أخرى، وهي أن الفيدي لم يسمعه من أبي معاوية، بل هناك واسطة بينهما، فسقطت حجة من اعتمد على متابعة الفيدي لأبي الصلت لتبرئته.
وابن الطفيل هذا كوفي مستور، ولم أجد فيه توثيقاً معتبراً، فالظاهر أنه من المجاهيل والضعفاء الذين عمّهم الحفاظ بتهمة سرقة الحديث من أبي الصلت، أو أنه أُدخل عليه من قبل الكوفيين الشيعة -مخرج الحديث-، ولا سيما أنني لم أَرَ له عن أبي معاوية حديثاً غير هذا بعد البحث، فروايته عنه غريبة، بل رأيتُ ابن الطفيل يروي عن الأعمش عدة أحاديث بواسطة شريك وغيره، لا عن أبي معاوية (كما في المعجم الأوسط 2/275 و276 والكبير للطبراني 5/166 رقم 4970 وبحر الفوائد للكلاباذي 302 والسنة للالكائي 8/1389 وتالي تلخيص المتشابه 2/467)، والله أعلم.
نعم، رُوي أن ابن معين وثق ابن الطفيل (علل الخلال 121 منتخبه)، ولكن راويه عن ابن معين -محمد بن أبي يحيى- لا يُعرف، وتقدم الكلام عليه في الطريق السابقة، ولم يذكر التوثيق أحد من رواة ابن معين المعروفين.



وللموضوع تتمة


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]