عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 25-08-2020, 04:42 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود

نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل (4)

د. محمد بن سعد الدبل





لنَعِش مع نموذج مِن بدائع الخطب الإسلامية، وحيث البيان الرائع في كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِن خطبته في حجة الوداع، تلك الخطبة الإسلامية التي لم يزل يَستقي منها البلغاء والعلماء في تثبيت معانيهم اقتباسًا وتضمينًا؛ يقول - صلوات الله وسلامه عليه -:
((الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونَستغفِره ونتوب إليه، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومِن سيئات أعمالنا، مَن يَهدِ الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثُّكم على طاعته، وأَستفتِح بالذي هو خير، أما بعد، فأيها الناس، اسمعوا مني أُبيِّن لكم؛ فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.


أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.


فمن كانت عنده أمانة فليؤدِّها إلى الذي ائتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربًا أبدأ به ربا عمِّي العباس بن عبدالمطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة والسقاية، والعَمْد قَودٌ، وشِبه العمد ما قتَل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمَن زاد فهو مِن أهل الجاهلية.


أيها الناس:
إن الشيطان قد يئس أن يُعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يُطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم.


أيها الناس:
إن النسيء زيادة في الكفر، يُضلُّ به الذين كفروا، يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا ليُواطؤوا عدة ما حرم الله[1]، فيحلوا ما حرم الله تعالى، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله -تعالى- السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله -تعالى- يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات وواحد فرد، ذو القعدة وذو الحجَّة والمحرَّم، ورجب الذي بين جُمادى وشعبان، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد.


أيها الناس:
إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهنَّ حقًّا؛ لكم عليهنَّ ألا يُوطِئنَ فرُشَكم غيركم، ولا يُدخلنَ أحدًا تَكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يَأتين فاحِشةً مُبينة، فإن فعلْنَ فإن الله قد أَذِن لكم أن تَعضلوهن وتَهجُروهن في المضاجع وتضربوهنَّ ضربًا غير مُبرِّح، فإن انتهَين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ألا وإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنَّ شيئًا؛ أخذتموهنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهنَّ خيرًا، ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.


أيها الناس:
إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مسلم مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد.


فلا ترجعوا بعدي كفارًا يَضرب بعضكم رقاب بعض؛ فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تَضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي، اللهم هل بلغتُ؟ اللهم اشهد.


أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم مِن تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغتُ؟ اللهم اشهد)).


قالوا: نعم، قال: (فليبلغ الشاهد الغائب)).


أيها الناس:
إن الله - تعالى - قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، مَن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صرف ولا عدل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته))[2].


وبعد:
فما يقول الناظر في هذا النص الشريف على طوله ووجازته، وتوسُّطه واعتدال فِقَرِه، لقد جمع بين طرفَي نقيض مِن الإطناب غير الممل والإيجاز غير المُخلِّ، حتى طابقت ألفاظه معانيه، ولم يسلك به - صلى الله عليه وسلم - مسلك صناع الكلام، على الرغم من كثرة المعاني السامية الشريفة التي تخلَّلت جزيئاته، وهذه المعاني كثيرًا ما تكون بحاجة ماسَّة إلى كثير مِن زخرف القول؛ لتأكيد هذا المعنى، ونفيهذا المعنى، وتفصيل هذا المعنى، واختصار هذا دون ذاك، لكنها العناية الربانية التي تمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتزوده بالمعارف التامة، فحاشاه مِن زخرف القول، وتكلُّف الصنعة؛ فإنه لا ينطق عن الهوى، وإنما هو وحي يوحى، يقول ابن قيم الجوزية في سرد خصائص كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان أفصح خلق الله، وأعذبهم كلامًا، وأسرعهم أداءً، وأحلاهم منطقًا، وحتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب، ويَسبي الأرواح، ويَشهد له بذلك أعداؤه، وكان إذا تكلَّم بكلام مفصَّل مبيَّن يَعدُّه العادُّ، ليس بهذا مسرعًا لا يُحفظ، ولا منقطعًا تتخلَّله السكتات بين إفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهَدي.


ويقول ابن قيم الجوزية في هدي خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يَخطب خطبة إلا بدأها بحمد الله والثناء عليه، وكان يختمها بالاستغفار، وكان كثيرًا ما يَخطب بالقرآن، بل كان مدار خطبه - صلى الله عليه وسلم - على حمد الله -تعالى- والثناء عليه بآلائه، وأوصاف كماله ومحامده، وتعليم قواعد الإسلام، وذكر الجنة والنار والمعاد، والأمر بتقوى الله، وتبيُّن موارد غضبه، ومواقع رضاه، وكان يقصر خطبته أحيانًا، ويُطيلها بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة[3].


ولا شك أن كلام ابن قيم الجوزية وكلام غيره ممن سبقه وممن جاء بعده قول فصل في وصف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يستطيع أديبٌ ولا متأدِّب أن يُحصي الخصائص الفنية لجميع كلامه الشريف، وحسْبُنا أن نتلمَّس تلك الخصائص التي تميِّز كلامه في كل لون مِن ألوان النصوص النبوية من حديثٍ إلى خطبة إلى رسالة إلى وصية إلى موعظة، خصائص تنأى بكلامه الشريف وترتفع به عن كلام المُتفاصِحين والبُلَغاء والأدباء صُنَّاع الكلام.


إن أول خصوصية في هذا النصِّ تلك الرابطة الوثيقة بين معاني هذه الخطبة وتدرُّجها في أسلوب الأمر والنَّهي، والتحذير، وترتيب النتائج، وحسْن الربط بين البدء والختام بما لا مزيد عليه.


والبناء في تركيب الجمل ضِمن الألفاظ المُفرَدة تراه يشعُّ بالرَّونق والطلاوة مِن غير تكلُّف في تخيُّر الألفاظ وانتقائها؛ لأن المعنى هو الذي يَطلب اللفظ، فلا تكلُّف ولا صنعة، إنما هي عبارة جزلة فخمَة في موضع التفخيم ليِّنة سهلة في موضع اللين والسهولة، تُطاوع كلُّ لفظة أختَها في أداء المعنى وإقراره.


وفي ثنايا هذه الخطبة الشريفة عدد مِن المُقابلات العجيبة، التي تحقَّق مِن خلالها ما ساعد على وضوح الفكرة؛ لأن استعمال الكلمات المتقابِلة المُتضادَّة مما يزيد في البيان، ويوضِّح خواصه، على أن يخلو هذا اللون من الأسلوب مما يُفضي به إلى الغلو، حتى لا يعود صنعة بديعيَّة تُفسد الأسلوب[4].


وقد عريت هذه الخطبة الشريفة مِن هذه الصفات ذات الصنعة؛ فإن أسلوب التقابل والتضاد قد جاء عفويًّا مِن غير قصد إليه.


من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن يهدِ الله فلا مُضلَّ له))، ((يُحلونه عامًا ويُحرِّمونه عامًا))، ((السموات والأرض))، ((ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى))، ((فليبلغ الشاهد الغائب)).


إنها عبارات فنية عجيبة، لم تُتصيَّد، ولم تُتخيَّر بالبحث والاستقصاء، وإنما سلك بها مسلك الطبع الفِطريِّ الذي لا تكلُّف فيه ولا تعمُّل، ولم يأتِ أيُّ أسلوب مِن هذه المقابلات إلا لأنه نوع "مِن التحدي بين المعاني والمنافَسة في ظهور الغرض، وهذه قوة المعاني"[5]، وإذا تأملنا معاني هذه الخطبة ألفَينا أنماطًا من القيم الخلقية الإنسانية الرفيعة، فهي تدعو إلى التقوى، وإلى الأخوة، وإلى العدل في الحقوق الإنسانية، كما يُحدِّد ذلك ويُفصح عنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأحثُّكم على طاعته، وأستفتح بالذي هو خير))، وعن تقرير مبدأ الأخوة يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مالُ أخيه إلا عن طيب نفس منه))، بل تقترن الأخوة بالتقوى في أسلوب هذه الخطبة، فهما جناحا النجاة؛ حيث يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم مِن تراب))، وهذا جناح الأخوة يلتحم مباشرة مع جناح التقوى من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى))[6].


ونلحظ تدرُّج هذه الخطبة في عَرضِ موضوعاتها مبتدأة مِن أدنى الحقوق الإنسانية والقيم الخلقية إلى أعلاها، فحين تتحدَّث عن نصيب الإرث تَنتقِل إلى الحديث عن حق النسب من قوله - صلى الله عليه وسلم -(أيها الناس، إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية، ولا تجوز وصية في أكثرَ من الثلث))، ثم يقول عن حقوق النسب: ((والولد للفراش، وللعاهر الحجَر، فهنا عدل في حق اجتماعي وآخَر قضائي، وهذا منتهى السمو في مدارج البلاغة العربية الذي يشفُّ عنه إلهام النبوة وقدرتها على التصرف في فنون القول))؛ إذ لم يكن الإسلام الذي يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - ويوطِّد دعائمه دينًا جمودًا فيقف عند المطالب الأُخرويَّة شأن ما سبقه من الأديان، بل جاوَزها إلى تحقيق المصالح الدُّنيوية، فكان لا بد للشارع الحكيم من أن يتعرَّض لكل ما به تصلح أمور البشرية في العقيدة والتشريع والمعاملات، والحُكم والسياسة، والاجتماع والأخلاق والفكر[7] إلى ما هو أدق وأخطر؛ كمبدأ الصِّلة والتقارُب والتحابِّ بين الأفراد والجماعات، سواء كان هؤلاء الأفراد والجماعات مِن ذوي القربى أو من غيرهم؛ وذلك لخطورة هذه القيم وصلتها الوثيقة بحماية الفرد والمجتمع، فنرى تلك الخطبة قد تنقلت بواسطة هذه الموضوعات من معلم إلى معلَم، ومن غرض إلى غرض، وكل فكرة تحملها ذات طابع فني جميل.


فقد أتى - صلى الله عليه وسلم - في مطلع خطبته بمقدمة مثيرة للانتباه إلى ما بعدها، ثم انتهى منها إلى قوله: ((أيها الناس))، وأخذ يبيِّن معالم الدين وحدوده، ويحضُّ سامعيه في أمر دينهم ودنياهم؛ إذ يقول: ((إن لنسائكم عليكم، حقًّا، ولكم عليهن حقًّا))، وفي هذا انتقال مِن الكلام عن الأمور العامة إلى الكلام عن الشؤون الخاصة، ومن المسائل الجماعية إلى المسائل الشخصية، وبهذا وذاك يسعد المجتمع، وتتهيأ أسباب الحياة الصالحة للناس كافة.


وتلك الموضوعات المُندرِجة في ثنايا تلك الخطبة، ذات معانٍ شريفة سامية، تأخذ بلُباب السامع والقارئ؛ لأنها مِن إلهام النبوة، ونِتاج الحِكمة وغاية العقل، فلننظر إلى خصائص الأسلوب الذي أُديَت به تلك المعاني.


إنه بأدنى نظرة فاحصة تتبدى لنا فنية الكلمة التي تأخذ مكانها في مِعيار الفصاحة، فلئن كانت الفصاحة راجعة إلى حسْن الملائمة بين الحروف باعتبار أصواتها ومخارجها، حتى تستوي في تأليفها على مذاهب الإيقاع اللغوي، فهذا أمر لم يتمَّ إلا لمُحمَّد - صلى الله عليه وسلم - فقد تهيأ له مِن إحكام الضبط وإتقان الأداء لفظ مُشبَع، لسان بليل، وتجويد فخم، ومنطق عذب ونظم مُتساوق[8]، فكل جملة أخذت مكانها، وأدَّت معناها الذي سيقَت له، وَفْق إحكام بديع، تزينه كناية لطيفة، مِن مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما النساء عندكم عوان))؛ فلفظة ((عوان)) كناية عن ضعفِ المرأة.


ولكن لِم قال - صلى الله عليه وسلم - هنا: ((اتقوا الله في النساء))، وقال في خطبة أخرى: ((فاتقوا النساء))؟ لا خلاف بين القولَين، ولا تناقض في الوصيتين؛ فإن في النساء لخطرًا يخشى قد تضعف الرجال حياله، فجاء التركيب هناك بجملة ((فاتقوا النساء))، وإن في النساء لضعفًا يُرحم قد تصول الرجال إزاءه، فجاء التركيب منتظمًا من خلال قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فاتقوا الله في النساء))، وتأمل هذا المجاز من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع))؛ فهو تعبير تذهب فيه الكلمة كل مذهب، وتبقى النفس إزاءه متشعِّبة، لكن سرعان ما تهدأ وقد علمت أنه مجاز المراد به إذلال أمر الجاهلية، وحطُّ أعلامها، ونقض أحكامها، كما يذل الشيء الموطوء الذي تدوسه الأَخامص الساعية، والأقدام الواطئة، فلا يبقى منه مرفوع إلا وضع، ولا قائم إلا صُرع[9].


وانظر إلى وجازة هذا المثل في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر))؛ فهو من الفرائد التي اختص بها النبي الكريم، ومعناه لا حق له في نسب الولد"[10].


وأمعن النظر في التركيب مراعيًا ذلك "الختام الموسيقى للصوت" يلتزمه - صلى الله عليه وسلم - آخِر كل مقطع مِن مقاطع هذه الخطبة، تلك العبارة الجميلة ذات الإيقاع الصوتي العذب، والنغم الممتد: ((ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد))، إنها الفطرة السليمة، والذوق الرفيع يَهديان عفوًا إلى مَن تقصر دونه بلاغة البلغاء مِن كل صاحب صنعة، وفن مجلوب، بل هذه هي اللازمة التي ردَّدها - صلى الله عليه وسلم - عبر هذه الخطبة، وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها ومعناها؛ لأنها لخَّصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات، فما كانت حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها بعملها وقولها وحركتها وسكونها إلا حياة تبليغ وبلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد))[11].


وإذا كان الموضوع هو الغرض الأساس الذي من أجله يُقصد العمل الأدبي فتلقى الخطبة، أو تنشأ الرسالة، أو تنظم القصيدة، وإذا كانت الأعمال الأدبية في بيئة ما إنما هي صدى دقيق لما يتردَّد في هذه البيئة من أحداث، وما يجري فيها من أمور، فلا بدَّ أن يسلك الأديب طريقة فذَّة في التعبير، تملك إلى قوة التأثير واستثارة العواطف تحريك العقول؛ طلبًا للامتثال، فلا يَجنح الأديب في تعبيره إلى إحكام الصنعة متناسيًا تحقيق المعنى في صورة متلائمة، وتلك الخاصية نلحظها في تعبير النبيِّ الكريم؛ فهو لا يَحفل بصياغة القوالب، بقدر ما يحفل بالمعنى وتبليغه أذهان السامعين، وشاهد ذلك ما لمسناه في خطبته تلك؛ فقد تناسقت ألفاظها، وتلاءمت تراكيبها، فجات أنماطًا مِن التعبير المبتكر.


وآية ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما النساء عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا))، ((الولد للفراش، وللعاهر الحجر))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد)).


المعنى هو المقصود من تلك التراكيب طلبًا للامتثال، وقد حرك الشعور واستشعار العقل دون تكلف في الصناعة اللفظية.


ومن أروع خصائص التعبير في هذا النص الكريم:
اكتمال الوحدة الموضوعية؛ فعلى الرغم من تناول عدد من الموضوعات في هذا النص فإننا نلحظ بناءه على الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، والتزهيد في الدنيا، والغضِّ مِن قيمتها، والتحبيب في الآخِرة والعمل لها، فكأنما هذا النص قد نُظم في خيط واحد، لا اختلال في عقده، ولا عيب يلحَق مبناه ومعناه.


وخلاصة القول:
إن أسلوب هذه الخطبة، وأسلوب غيرها من الكلام النبوي الشريف لا يملك أي ناظر إلا أن يقول فيه: "إن الجمال الفني في بلاغة محمد - صلى الله عليه وسلم - أثر على الكلام من روحه النبوية الجديدة على الدنيا وتاريخها؛ فكلامه - صلى الله عليه وسلم - يجري مجرى عمله، كلُّه دين وتقوى وتعليم، وكله روحانية وقوة وحياة، فيه روح الشريعة ونظامها وعزيمتها في نسق هادئ هدوء اليقين من روح نبي مُصلِح رحيم"[12]، ولا يُستعذَب التكرار وطول الاستشهاد بهذه الدرر من روائع الأدب الإسلامي في الخطابة، ولا نص أجمل ولا أجود من خطبه - صلى الله عليه وسلم - وخطب صحابته الأجلاء، ومنهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، وقد سبق أن درسنا نصًّا خطابيًّا للخليفة الراشد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه.

[1] نص الآية قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [التوبة: 37].

[2] الخطبة في البيان والتبيين للجاحظ، جـ2 ص 31 وما بعدها، وفي العقد الفريد لابن عبد ربه جـ4 ص 57، 58، شرح وتصحيح: أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري.

[3] زاد المعاد في هدي خير العباد لابن قيم الجوزية، ص 182، 188، 191، تحقيق وتخريج وتعليق: شعيب الأرناؤوط، جـ1، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت.

[4] الأسلوب لأحمد الشايب، ص 189، الطبعة السادسة 1966م، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

[5] المصدر السابق ص 197.

[6] القيم الخلُقية في الخطابة العربية ص 73، د. سعيد حسين منصور، الطبعة الثانية 1399هـ.

[7] الخطابة في صدر الإسلام د. طاهر درويش ص 138، 215، 216.

[8] إعجاز القرآن والبلاغة النبوية للرافعي ص 367، 384، 386.

[9] المجازات النبوية للشريف الرضي ص 102، شرح: طه عبدالرؤوف سعد، مطبعة الحلبي، مصر 1391هـ.

[10] العقد الفريد لابن عبد ربه جـ1 ص 5، تحقيق: محمد سعيد العريان.

[11] الخطابة في صدر الإسلام للدكتور محمد طاهر درويش، ص 217، وموسوعة العقاد الإسلامية ص 83، المجلد 2، نشر دار الكتاب العربي، بيروت.

[12] وحي القلم للرافعي ص 6، 10 جـ3، دار الكتاب العربي ببيروت.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 35.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.75%)]