عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 17-08-2020, 04:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية والرسائل والوصايا والعهود

نصوص من الأدب الإسلامي في الخطابة الإسلامية

والرسائل والوصايا والعهود (2)

د. محمد بن سعد الدبل
إذا كان الاستدلال يُغري بذكر الكثير مِن عطاء الأدباء، فهذه عبارات مِن جيِّد المنظوم والمنثور مِن كلام العرب أوردها الحصري في كتابه: "زهر الآداب وثمر الألباب".


قال أبو إسحاق:
أهدى الكِنديُّ إلى بعض إخوانه سيفًا صقيلاً فكتب إليه:
"الحمد لله الذي خصَّك بمنافعَ كمنافع ما أهديتَ، وجعلك تهتز للمكارم اهتزاز الصارم، وتمضي في الأمور مضاء حِدَّة المأثور، وتصون عِرضك بالأرفاد، كما تُصان السيوف بالأغماد، ويطَّرد ماء الحياة في صفحات خدِّك المشوف كما يشفُّ الرَّونق في صفائح السيوف، وتَصقُل شرفك بالعَطيَّات كما تصقل متون المشرفيات"[1].


هذه العبارات التي ساقها أبو إسحاق الحصري من كلام أحد الأدباء تتميز بخصائص فنية ثلاث:
أولها: تَراوُح الفقرات بين الطول والقصر.


وثانيها: اعتماد هذا الكتاب على أسلوب السجع الذي تبدو عليه مسحَة مِن تكلُّف.


وثالثها: أن طوَّع هذا الكاتب مباني كلماته لمعاني الغرض الذي يقصد إليه، وهذا مِن الخصائص الفنية التي يَكاد كلام العرب ألا يَحيد عنها في أغلب الظروف والأحوال.


وثمة خصوصية أخرى تميَّز بها كلام ذلك الأديب: أنها أسلوب الحقيقة، وهذا يعني أن الصور الأدبية تكتسب رُواءها مِن أسلوب الحقيقة بقدر ما تكتسبها من أسلوب المجاز، ويعود تحقُّق هذه الخصوصية إلى قدرة الأديب على تطويع كلماته وَفْق معانيها.


وانظر إلى ما جرى مِن وفد الشام بين يدَي المنصور، واستمع إلى كلام الحارث بن عبدالرحمن الغِفاري أحد الوافدين، فلسوف يتبيَّن لك قدرة الأديب على تخيُّر الكلمات لما يمكن أن تحمله من معنى.


يقول الحارث: "يا أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة، ولكنا وفد توبة استخفَّت حليمَنا، فنحن بما قدمنا معترفون، وبما سلف منا معتذرون، فإن تُعاقبْنا فبما أجرمْنا، وإن تعفُ عنا فطالما أحسنت إلى مَن أساء"، قال أبو إسحاق: فقال له المنصور: أنت خطيب القوم، وردَّ عليه ضياعه بالغوطة"[2].


هذه العبارات شفعت لصاحبها ولمستمعيها مِن وفد الشام، شفعت لهم عند السلطان بطيب ألفاظها وتوفيق معانيها، وسِحر بيانها، الذي أخذ بمجامع القلوب، فصار إلى قَبول توبة التائبين أنصفَ في حقِّ المُعتذِرين.


قال أبو إسحاق:
"ومِن المواقف التي أنصفَت صاحبها موقف تميم بن جميل عند الخليفة المعتصم، حدث أن قام تميم بن جميل بشاطئ الفرات، واجتمع إليه كثير من الأعراب فعَظُم أمره، وبَعُد ذِكرُه، فكتب المعتصم إلى مالك بن طوق في النهوض إليه، فتبدَّد جَمعُه، وظفر به موثقًا إلى المعتصم، فقال أحد رجال الخليفة: ما رأيتُ رجلاً عايَن الموت فما هاله ولا شغله عما كان يجب عليه أن يفعله مثل تميم بن جميل، فإنه لما مثل بين يدي المعتصم وأُحضر السيف والنطع ووقف بينهما تأمله المعتصم - وكان جميلاً وسيمًا - فأحبَّ أن يعلم أين لسانه مِن منظره، فقال له: تكلم يا تميم، فقال تميم للخليفة: أما إذ أذنتَ - يا أمير المؤمنين - فأنا أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، يا أمير المؤمنين، جبَر الله بك صدعَ الدِّين، ولمَّ بك شعث المسلمين، وأوضحَ بك سبُل الحق، وأخمدَ بك فتنة الباطل، إن الذنوب تُخرس الألسن الفصيحة، وتُثقِل الأفئدة الصحيحة، ولقد عَظُمت الجريرة، وانقطعَت الحُجَّة، وساء الظنُّ، فلم يبقَ إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربَهما مني وأسرعهما إليَّ أشبههما بك وأولاهما بكرمك، ثم أنشد:
أرى الموت بين السيف والنِّطْع كامنًا
يُلاحِظني مِن حيثما أتلفَّت

وأكبر ظنِّي أنك اليوم قاتلي
وأيُّ امرئ مما قضى الله يفلت

وأيُّ امرئ يأتي بعذر وحُجَّة
وسيف المنايا بين عينَيه مُصلَت

وما جزعي مِن أن أموت، وإنني
لأعلم أن الموت شيء مؤقَّت

ولكنَّ خلفي صبية قد تركتهم
وأكبادهم مِن حسرة تتفتَّت

كأني أراهم حين أُنعى إليهم
وقد خمشوا تلك الوجوه وصوَّتوا

فإن عشتُ عاشوا سالِمين بغِبطة
أذود الردى عنهم وإن متُّ موتوا

يعزُّ على الأوس بن خزرج موقِف
يُسلُّ عليَّ السيف فيه وأَسكُت

وكم قائلٍ لا يبعد الله روحه
وآخر جذلان يسرُّ ويشمَت



قال أبو إسحاق: فتبسَّم المُعتصِم، وقال: يا جميل، قد وهبتُك للصِّبية، وغفرتُ لك الصَّبوة، ثم أمر بفك قيوده، وخلَع عليه، وعقد له على شاطئ الفرات[3].


ومِن خلال هذه النصوص يتبيَّن لنا أن أهم فنون الأدب الإسلامي منذ عهد النبوة وما وليه من عصور الأدب إلى عصر النهضة الحديثة، لا يتجاوز الكلام المنثور والمنظوم في إطار ألوانٍ أدبية معيَّنة مِن خطبة، ووصية، وعهد، وميثاق، ورسالة، وقصة، وتوقيعات، وشِعر.


أما المسرحية فلونٌ شاع وكَثُر في العصر الحديث، والقصة ويتبَع المسرحية ألوان أخرى؛ كالأقصوصة، والخاطرة، والأسطورة، والمقالة، والقصة القصيرة.


ولم تُعرَف هذه الألوان الأخيرة وبخاصة فن المسرحية في حياة العرب الأدبية، ولم تنشأ أثناء نقلتهم الإسلامية إلا في العصر الحديث، غير أن القصة بمفهومها الأدبي وفوارقها الفنية التي تميِّزها عن الخَطابة كانت مِن أهمِّ فنون الأدب بعامة، والأدب الإسلامي بخاصة، ويكفي - دليلاً - على ذلك اشتمال الأدب النبوي على طائفة مِن القصص، مما سنتحدَّث عنه بالتفصيل في موضع آخَر مِن هذه الدراسة.


وإذا كانت الخطابة والقصة والشعر هي أرحَب ميدان لاستيعاب أغراض الأدب الإسلامي وموضوعاته، فسنقصر الدراسة على هذه الألوان الثلاثة، مُبتدئين بفنِّ الخَطابة؛ فهي مِن أخطر فنون الأدب الإسلامي في حياة المسلمين منذ فجر الدعوة الإسلامية على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - وإلى اليوم، مُشيرين - باختصار شديد - إلى بعض الألوان الأدبية الأخرى؛ كالرسائل، والوصايا، والعهود.


وإذا كانت الخَطابة العربية أسبق في الظهور مِن الشعر جاهلية وإسلامًا فما أهم وبلاغتها، وما الخصائص الفنية التي تميَّزت بها في ألفاظها وجُمَلها وتراكيبها ومعانيها وبلاغتها، وما قيمتها الفنية في معايير النقد الأدبي؟ ذلك ما سندرسه في الصفحات التالية، وقبل أن نتحدث عن هذه القضايا يَحسن أن نلمَّ بشيء عن تاريخ الخطابة عند العرب قبل الإسلام، وما كان لهذا الفنِّ مِن أثر في حياتهم الاجتماعية والأدبية.


كانت الدوافع والأغراض لفن الخطابة عند الجاهليين تكاد لا تتجاوز الموضوعات التالية: "النعرة والحمية الجاهلية، وشن الغارة مدافعة عن النفس والمال والعِرض، أو للتحريض على السطو والسلب.


ومِن أهم موضوعاتها عندهم:
"المُفاخَرة بالشِّعر والنسَب والحسب، وقوة العصبية إلى جانب عدد من الخِصال الحميدة؛ كالشجاعة والكرم والنجدة والإيثار وحماية الجار وإباء الضيم"[4]، وقد سارت الخطابة عند العرب في جاهليتهم سَير الشِّعر في كثير مِن الأغراض والموضوعات، غير أن عِنايتهم في أول الأمر كانت خاصة بالشِّعر دون الخَطابة؛ لصعوبة حفظ النثر وسهولة حفظ المنظوم، ولأن الخَطابة فنٌّ قضَت به طبيعة حياتهم المعيشية، ودعَت إليه حالتهم الاجتماعية، فتفتَّقت بها ألسنتهم صيانةً لعزِّها، وحِفظًا لمَجدِها، وتخليدًا لمآثرها، وتأييدًا لمفاخرها[5].


وعلى الرغم مِن قِدَم عنايتهم بالشعر دون الخطابة فإنه قد نزَل مُستوى الشِّعر عندهم وعلا شأن الخطابة لما اتَّجه الشعراء إلى موضوعاتٍ تُقلِّل مِن قيمتهم؛ حيث استعملوا الشِّعر في ثلب الأنساب والطعن في الحرُمات، وهتْك الأعراض، وإثارة الضغائن، واتخذوه وسيلة للعيش والتكسُّب.


مِن أجل ذلك اتجه الخطباء بخُطبِهم في ذلك العصر إلى موضوعات ذات قيَم إنسانية رفيعة بخلاف ما كان عليه الشعر، فاستُعمِلت الخطابة في تكريم الأشراف وتأبين العظماء، والصُّلح بين الفريقَين.

[1] زهر الآداب وثمر الألباب للحصري جـ3 ص 828، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، شرح: زكي مبارك.

[2] المصدر السابق للحصري ص 828.

[3] المصدر السابق للحصري ص 829 وما بعدها.

[4] الخطابة لعلي محفوظ ص 18، ط الرابعة.

[5] المصدر السابق ص 18.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.91 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.28 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.25%)]