عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-05-2020, 10:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: خطبة عيد الفطر لعام 1426هـ




رابعًا: العيد والرحيل: ها هو العيد - أيها المسلمون - أقبل كما يقبل كل عام، أقبل وهو يلبس ثوب الفرح، أقبل يخالج القلوب، ويعيش في وهج المشاعر، أقبل بعد أن خلّف شهر رمضان في طيات الزمن، وكتب عليه الرحيل، أقبل بكل ما فيه، وهناك، بعيدًا عنه في الجانب الآخر صورة تمثّل رمضان في إدباره ورحيله، وكأن لسان المعايدين اليوم يستلهم هذا الوداع فيقول:




ترحَّلَ الشهرُ وَا لَهْفَاهُ وانْصَرَما

واختَصَّ بالفَوْزِ في الجنَّاتِ مَن خَدَمَا




وَأَصْبَحَ الغافِلُ المسكينُ مُنْكَسِرًا

مِثْلِي فَيَا ويْحَهُ! يا عُظْمَ ما حُرِما




من فاته الزرع في وقت البِذَارِ فما

تراهُ يحصدُ إلا الهَمَّ والندَما






ولكل هؤلاء جميعًا، أيًا كانت حسرتهم على فوات شهر رمضان، لا يسعنا أن نقول لهم في يوم العيد: رحل رمضان، ولم يبق لنا من رحيله إلا هتاف علي يقول: ليت شعري! من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه.




رحل رمضان ولم يبق لنا من رحيله إلا قول ابن مسعود: أيها المقبول هنيئًا لك، أيها المردود جبر الله مصيبتك.




لقد رحل رمضان وكأنه لم يكن، رحل هذا العام وترك من يشهد العيد وهو يلبس الجديد، غير أنا لا ندري أيعود ونحن شهود، أم يعود وقد طمس آثارنا الزمن، ووارى أجسادنا التراب، واندثرت أخبارنا في كثرة الراحلين؟ ولكأني بالشاعر يخاطبني ويخاطب كل مودع نادم مثلي فيقول:




دَعِ البُكاءَ عَلى الأطلالِ والدارِ

واذكُر لمن بان مِن خِلٍّ ومِن جَارِ




واذرِفْ دموعاً نحيبًا وابْكِ مِن أسَفٍ

عَلَى فِراقِ ليالٍ ذاتِ أنوارِ




على ليالٍ لشَهْرِ الصومِ ما جُعلَتْ

إلا لتمحيصِ آثامٍ وأوزارِ






ولم أجد أصدَقَ تعبيرًا لحالي وحال أمثالي من أن نقول:




يا لائمي في البُكا زِدْنِي به كَلَفَاً

واسْمَع غريبَ أحاديثٍ وأخبارِ




ما كانَ أحسنَنَا والشمل مُجتمع

مِنَّا المصلِّي ومنا القانِتُ القاري






إن هذا الرحيل صورة من صور الوداع المُرِّ في حياة الإنسان، والعاقل الفطن يجهّز للرحيل المنتظر لحياته من على وجه هذه الأرض، ولئن شهدنا اليوم وداع رمضان فإن الأيام حبالى بتوديع ذواتنا أو توديع أحبابنا في الرحلة الحتمية لبني الإنسان أيًا كان. فاللهَ اللهَ أن نبرهن بالعمل على صدق النية، والاستعداد للنّقلة! فإن الغد المنتظر أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، ولا يغرنكم التسويف فإنما آجالنا قد كُتبت، ورحيلنا ربما قد حان.




خامسًا: العيد والإخاء: جاء العيد أيها المسلمون - ليرسم على الشفاه معاني الحب، ويكتب في حياة المسلمين حياة من الإخاء الصادق، يقول: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام".




والسؤال الذي يطرح نفسه في ساحة العيد بالذات: القلوب المتنافرة أما آن لها أن تتصافح؟! أما زالت مصرة على معاندتها للفطر السوية؟! أما زال الكبر يوقد ضرامها ويشعل فتيل حقدها؟! ألا يمكن أن ينجح العيد في أن يعيد البسمة لشفاه قد طال شقاقها؟! إن هذه القلوب يُخشى عليها إن لم تُفلح الأعياد في ليّها للحق فإن لفح جهنم قد يكون هو الحل الأخير القادر على كسر مكابرتها ولي عناقها.




إلى متى هؤلاء يصمّون آذانهم عن قول رسول الهدى: "هجْر المسلم سَنَةً كسفك دمه"، وقوله: "تُعرض الأعمال على الله كل اثنين وخميس إلا المتخاصمَيْن، فيقول الله: أنظروا هذين حتى يصطلحا"؟!.




وإن لم يُفلح العيد في تحليل صلابة هذه القلوب فوعيد الله تعالى غير بعيد حين قال في كتابه الكريم: ï´؟ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ï´¾ [محمد: 22-23].




وقوم أصابتهم لعنة الله تعالى في أنفسهم، وعاشت معهم في حياتهم، أنّى يجدون طعم الراحة والاستقرار؟! فهذا العيد وهذه أيامه والفرصة سانحة، فلا تفوّتْها، لا حرمك الله من الصفاء والوفاء.




سادسًا: العيد والعبادة: لقد رسم شهر رمضان في كثير من النفوس أثر الإقبال على العبادة، والذي أوصلها إلى صفاء في الروح، ولذة في المناجاة، وصدقًا في التوجه، وأودع في نفوس الكثيرين درسًا عظيمًا مُفَادُهُ أن الإنسان مهما أظلته المعصية، وأركسته في حمأتها، وأحاطت بنفسه عن التحليق في روحانية العبادة، إلا أنه قادر - بإذن الله تعالى - على تجاوز هذا المنعطف في حياته متى ما وصلته الكلمة الهادفة، والنصيحة الواعية، وهو يتطلّع اليوم إلى توجيه يرشده إلى طرق أخرى لهذا السمو ولذاك الرقي الذي وجده في رمضان، وهو يتساءل: هل يمكن أن يجد هذه المعاني بعد رمضان؟ وهل يمكن أن يصل إلى تلك النوعية من اللذة التي وجد أثرها في ليالي رمضان وأيامه؟.




فنقول له ولأمثاله المتطلعين: نعم! يمكن أن تستمر هذه المعاني، وتصل بالفرد إلى أعلى ما يتخيله من آمال وطموحات على مستوى الحياة بأسرها.




إن الصيام الذي خلق في النفس روحانية عجيبة ما زال اليوم موجودًا، والفرد مدعو لامتثاله في قول رسول الله: "مَن صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر".




وحينما يتخطى شَهْرَهُ الذي يشهد فيه العيد، يبدأ في تحقيق وصية رسول الله في صيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو في صيام الاثنين والخميس التي قال فيها لما سئل عن سر صيامها: "إن الأعمال تُعرض فيها وأحب أن يعرض عملي فيها وأنا صائم".




والصلاة التي وجد فيها سر المناجاة بينه وبين خالقه ما زالت متاحة لم يغلق بابها بعد، فهذا رسول الهدى يقول: "ينزل الله تعالى في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له" الحديث. فمن يحول بينك وبين هذه اللذة وتلك المناجاة؟.




وحينما يتأمل الإنسان في معنى العبادة الذي جاء لتحقيقها يجد المعنى الذي قرره شيخ الإسلام حينما قال: العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. اهـ.




وأوسع باب يلج منه إلى تحقيق هذه المعاني فيجد أمام ناظريه الأذى في الطريق فيبادر إلى إزالته، فيلقى على ذلك الأجر في قول رسوله: "وتميطُ الأذى عن الطريق صدقة".




وحينما يرى ذلك الرجل يجهد في الركوب على دابته ومن ثم لا يستطيع لكبره وضعف جهده فيبادر إلى مساعدته، يلقى جزاء هذه المساعدة في توجيه رسوله الكريم حين قال: "وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو تحمل له متاعه صدقة".




وحينما يجد أخاه في الطريق فيبتسم للقياه تعبيرًا منه على صدق المودة يجد العِوض قريبًا، والأجر حاضرًا، وهو قوله: "وتبسّمك في وجه أخيك صدقة".




وحين يرى منكرًا فيسعى لتغييره وإزالته يجد الثناء عظيمًا من ربه ومولاه في قوله تعالى: ï´؟ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 104].




وعندما يسعى بجهده في إقامة معروف وإشاعة فضيلة لا يجد جزاء أوفى من قول رسوله الكريم: "مَن سن في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة".




بل يصل المعنى الذي قرره شيخ الإسلام حتى إلى أن مداعبة الرجل لأهله على سبيل المزاح أمر يؤجر عليه المسلم، ويحصّل به خيرًا كثيرًا عند ربه تبارك وتعالى، حين قال رسول الهدى: "حتى اللقمة يرفعها إلى في زوجته له بها أجر". إلى غير ذلك من أنواع العبادات التي حث الشرع عليها وأرشد لها.




والمتطلع إلى أجر الذي أوصله وجْدُه على فراق رمضان إلى حد البكاء، يمكن أن يعيش في ظل الإيمان والبحث عن الخير والمحافظة على المعروف إلى أرقى معاني العبودية بينه وبين ربه تبارك وتعالى.




وأخيرًا - أيها المسلمون - العيد صورة من الفرحة تبدو واضحة حين يداعب الرجل أهله وأبناءه في يوم العيد، وحين يشاركهم لهوهم وسعادتهم في مثل هذه الأيام، ويبدو العيد أكثر فرحة حين تمتد اللقاءات بين الجيران والأصدقاء، حين يخرج المرء من بيته قاصدًا أهله وصحبه وإخوانه، لا لشيء إلا لمدّ فرحة العيد في قلوب الآخرين.




وتبدو أكثر أثرًا وأوضح صورة حين يتجاوز أحدنا خلافاته مع الآخرين فينطلق إليهم إلى بيوتهم، فيقبلهم داعيًا لهم بهذه القدوة إلى نوع من الإبداع في صورة العيد في نفوسهم.




نحتاج إلى عيد خالٍ من دنس المعصية، بعيدًا عن جرح النفوس الفرحة بالعيد على وجه العبادة. العيد صورة من صور العبادة لله تعالى، والفرحة التي نعيشها فيه إنما تنطلق من سياج العبودية العظيم، والفرح حقيقة هو الفرح في ظل هذا السياج العظيم. فاحذر - أخي المسلم - أن تبدد الفرحة اليوم بمقارفة منكر، أو دنَسِ رِيبَةٍ، وحلِّقْ بقلبك في سمو هذه الشريعة، تجد فناءها أوسع فناء.




هنيئًا بالعيد يا أهل العيد، وأدام الله عليكم أيام الفرح، وسقاكم سلسبيل الحب والإخاء، ولا أراكم في يوم عيدكم مكروهًا.





ألا وصَلُّوا وسلِّموا على من أُمرتم بالصلاة والسلام عليه...
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.65 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.02 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.27%)]