عرض مشاركة واحدة
  #48  
قديم 08-03-2024, 08:52 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,062
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمة ضالة المؤمن (51)

بئس مطية الرجل: زعموا


فرضت طبيعة العصر المتسارعة، وغلبة التقنيات الحديثة على وسائل الاتصال المتنوعة نمطاً جديداً من الحياة، وصبغت حياة الناس بأساليب جديدة من التفكير والتواصل، فالهواتف الذكية وما فيها من نظم مدهشة ساعدت في سرعة انتشار الأخبار، وسهولة متابعة الأحداث - الشخصية والمحلية والعالمية - وإمكانية التعبير عن الرأي في كل جليل وتافه من الأمور، جعلت كثيرا من مقتنيها أسرى لتلك الأجهزة لا يملكون فكاكاً منها ، ولا خلاصا لعقولهم ولا قلوبهم من سحرها.
ومن الآفات التي نتجت عن بعض تلك الممارسات، العجلة في نشر الأخبار، والتسرع في التعليق على الأحداث دون تثبت ولا روية، وأحيانا بنشر الشائعات، وتلفيق الوقائع وتزوير الحقائق، ولاسيما بدء الكلام بـ: يقولون، وقالوا، وسمعنا، وغيرها من كلمات تدل على نقل غير موثق ، وخبر غير دقيق.
والشرع المطهر يذم النقل بلا روية، ونشر الأخبار بغير تثبت ، لما يترتب على ذلك مفاسد وأضرار عاجلة وآجلة، وقد دل على هذا المعنى أدلة كثيرة منها:
1- قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، قال القرطبي: نادمين على العجلة وترك التأني».
وقال الشيخ ابن سعدي: «الواجب عند خبر الفاسق التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه».
2- قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا} الآية، أخرج الترمذي عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله صلومعه غنم فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم، فقاموا فقتلوه، وأخذوا غنمه ، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قال الشيخ ابن سعدي: «يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جهادًا في سبيله وابتغاء مرضاته أن يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة، فإن الأمور قسمان: واضحة وغير واضحة. فالواضحة البيِّنة لا تحتاج إلى تثبت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الإنسان يحتاج إلى التثبت فيها والتبين، ليعرف هل يقدم عليها أم لا؟ فإن التثبت في هذه الأمور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكف لشرور عظيمة، ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته، بخلاف المستعجل للأمور في بدايتها قبل أن يتبين له حكمها، فإن ذلك يؤدي إلى ما لا ينبغي، كما جرى لهؤلاء الذين عاتبهم الله في الآية لمـَّا لم يتثبتوا وقتلوا من سلم عليهم».
3- وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلا} .
قال الشيخ ابن سعدي: «هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي: والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك. وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا،فيحجم عنه؟»
4- وقال صلى الله عليه وسلم : «التأني من الله، والعجلة من الشيطان»، قال ابن القيم: «إنما كانت العجلة من الشيطان لأنها خفة وطيش ، وحدّة العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم وتوجب وضع الشيء في غير محله وتجلب الشرور».
5- وقال حذيفة لأبي مسعود: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في «زعموا»؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :» بئس مطية الرجل زعموا»، فالمقصود أن جعل المتحدث كلمة (زعموا) مقدمة لكلامه، ووسيلة لأغراضه أمر مستقبح، لأنه قد يجر إلى الكذب أو الخطأ وكلاهما مذموم.
قال ابن الأثير في النهاية: «ومعناه:أن الرجل إذا أراد المسير إلى بلد والظعن في حاجة ركب مطيته، وسار حتى يقضي إربه، فشبه ما يقدمه المتكلم أمام كلامه، ويتوصل به إلى غرضه من قوله: زعموا كذا وكذا بالمطية التي يتوصل بها إلى الحاجة، وإنما يقال: زعموا في حديث لا سند له ولا ثبت فيه، وإنما يحكى على الألسن على سبيل البلاغ، فذم من الحديث ما كان هذا سبيله، والزعم - بالضم والفتح - قريب من الظن».
وفي الآداب الشرعية لابن مفلح: قال ابن الجوزي في تفسيره: كان ابن عمر يقول: زعموا: كنية الكذب، وكان مجاهد يكره أن يقول الرجل: زعم فلان.
وجاء في شرح الأدب المفرد :»فقه الحديث: إن الإخبار بخبر مبناه على الشك والتخمين دون الجزم واليقين قبيح، بل ينبغي أن يكون لخبره سند وثبوت، ويكون القائل على ثقة من ذلك، لا مجرد حكاية على ظن وحسبان، وفي المثل: «زعموا مطية الكذب».
وقال ابن بدران: «ومعناه: ذم الإنسان الذي يحكي ما لم يعلم صدقه، فيقول: قال فلان كذا ، ولا حجة له على صدقه، والمقصود: الأمر بأن يتثبت الإنسان فيما يحكيه، ويحتاط فيما يرويه، قال ابن بطال: إن من أكثر الحديث لما لم يعلم صدقه، لم يؤمن عليه الوقوع في الكذب، فبئست هذه اللفظة مطية لما لا يعلم، فإنها تؤدي إلى الكذب».
فواجب المسلم - عموما - ومستعملي الهواتف الذكية على وجه الخصوص التثبت في نقل الأخبار والروية قبل نشر الآراء والأقوال، والله المستعان.


اعداد: د.وليد خالد الربيع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.51 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.12%)]