الموضوع: خوف النفوس
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 05-04-2020, 04:57 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,466
الدولة : Egypt
افتراضي خوف النفوس

خوف النفوس


الشيخ حسين شعبان وهدان




الحمد لله، الغني عن عبادِه، والمخلِف عليْهِم فيوضَ الرِّزق على حكمتِه ومُراده.

وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله، وحْده لا شريكَ له، الملِك الحقِّ المبين، حجابُه النُّور، وعطاؤه الوافي المدْرار، وهو الحسيب على كلِّ نفسٍ بما قدَّمت وأخَّرت، وهو الرَّحيم الغفَّار.

أشهد أنَّ سيدنا محمَّدًا عبد الله ورسوله، وصفيُّه من خلقه وحبيبه.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليْه وعلى آلِه وصحْبِه أجْمعين.

أمَّا بعد:
فالدُّيون حقوقٌ ثابتة في ذِمم العباد، منها ما هو لله تعالى ومنْها ما هو لخلقه، وفي زحْمة الحياة وضغْطِها كثيرًا ما ينسى الإنسانُ ديونًا عليْه كان يجب قضاؤُها منذ أزمان، لكن غرَّه الأمل وشغلتْه الدنيا حتى فقَد معالم هذه الديون وأربابَها، وربَّما يلْقَى ربَّه ضِمْن مباغتات القدَر المفاجئة التي لا تنتهي عجائبُها، قدِ انتهت حياته، ولم تنتهِ بعدُ آثارُها؛ قال الله - تعالى -: {يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].

وهناك حيثُ لا شفاعةَ تنفع ولا واسطةَ تُجير؛ {إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]، يبدأ الحساب من الله بين الخلائِق لتحْقيق العدْل الإلهي المطْلق؛ {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً} [طه: 108].

ماذا سيفعل الإنسان ساعتَها؟

أعباءٌ ثقيلةٌ:
ولا يخفى على عاقلٍ أنَّ الديون تورث أعباءً نفسيَّةً مزعِجةً، واجتِماعيَّة مرْبِكة للدَّائن والمَدين، فهمُّها الباطن والمعْلَن ثقيل على الطَّرفين.

- فهي للدَّائن خسارة وخصْم من أملاكِه الماليَّة، وربَّما تكون فتنةً له في إقْدامه على منْع المال وحِرْمان طلاَّبه بسبب مُماطلة المدينين وعدَم الإيفاء بالوعود، عندئذٍ يَركنُ إلى الإمساك بِحجَّة المحافظة على ماله، وهذا ضرْب من الفتنة في الدين.

- وهي للمدين: همٌّ مؤرّق باللَّيل وذلٌّ بالنَّهار، وقلق دائم بائن على محيَّاه، ولا شكَّ أنَّه يخشى ويُحاذر أن يعرف النَّاس سرَّه، وأن يُذاع بين الخلْق أمرُه، ويذهب لبُّه ويطيش صوابُه مع اقتراب ميعاد السداد بين الزِّيادة في الفوائد عند التَّأخير ، أو إشْهار الإفلاس والاستِحْواذ على أغْلى ما يملك من بيت أو أرْض أو منقول، والبنوك الربويَّة المدمِّرة للدنيا تعجُّ بِمحترفي خراب البيوت من المهنيّين والمنظرين؛ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان: 20].

من هنا كانت الدُّيون خوفًا للنُّفوس بما انتظم في عقْدها من أصحاب أموال أو مقْترضين؛ قال النَّبيُّ الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا تُخيفوا أنفُسَكم بعد أمْنِها)) قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ((الدين))؛ أخْرجه ابن حجَر الهيتمي في "الزَّواجر" (1/ 394) بسند صحيح، والألباني في "صحيح التَّرغيب" (1797)، وفي صحيح الجامع بلفظ: ((لا تُخيفوا أنفُسَكم بالدَّين)) (7359) بإسناد حسن، ووردتِ الرِّوايات كلُّها عن عُقبة بن عامر - رضِي الله تعالى عنه.

إنَّه خوفٌ فوق مستوى طاقةِ البَشر، يصطدِم المدين بتبِعاتِه في الدُّنيا والآخرة، منها: حرمان صاحب الديْن من صلاة رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم – عليْه؛ فعَن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُتِي برجُلٍ ليصلِّي عليْه، فقال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((صلُّوا على صاحبِكم فإنَّ عليْه دينًا))؛ صحيح الترمذي (1/ 310)، وعن سلمة بن الأكوع - رضي الله تعالى عنه - قال: كنَّا جلوسًا عند النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ أُتِي بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها، فقال: ((هل عليْه دين؟))، قالوا: لا، قال: ((فهل ترَك شيئًا)) قالوا: لا، فصلَّى عليْه، ثمَّ أُتِي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله، صلِّ عليْها، قال: ((هل عليه دَيْن؟)) قيل: نعم، قال: ((فهل ترك شيئًا؟)) قالوا: ثلاثة دنانير، فصلَّى عليْها، ثمَّ أُتِي بالثَّالثة، فقالوا: صلِّ عليْها، قال: ((هل ترك شيئًا؟)) قالوا: لا، قال: ((فهل عليه دين؟)) قالُوا: ثلاثة دنانير، قال: ((صلُّوا على صاحبِكم))، قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينه، فصلَّى عليْه؛ أخرجه البخاري في الجامع الصحيح (2289).

ولا يزال الديْن حائلاً بين رجاء الرَّحْمة والنَّعيم في الآخِرة وبين قضائِه؛ فعن أبِي هُرَيْرة - رضِي الله تعالى عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((نفس المؤمن معلَّقة بدَيْنِه حتَّى يقضى عنه))؛ صحيح الترمذي (1/ 312).

ويمتدُّ أثر الدُّيون في تعْطيل النَّعيم حتَّى على الشُّهداء، هؤلاء الَّذين لهم المنزِلة والشَّفاعة والنُّور يوم القيامة، ويكفي في ذلك قولُ الله - تعالى -: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [آل عمران: 169 - 170].

لكن هذا النَّعيم موْقوف على قضاء الدُّيون؛ فعن محمَّد بن جحْش - رضِي الله عنه - قال: كنا جلوسًا عند رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فرفع رأْسَه إلى السَّماء، ثمَّ وضع راحتَه على جبهتِه، ثم قال: ((سبحان الله! ماذا نزل من التَّشْديد؟)) فسكتنا، وفزعنا، فلمَّا كان من الغد، سألته: يا رسول الله، ما هذا التَّشديد الذي نزل؟ فقال: ((والَّذي نفسي بيدِه، لو أنَّ رجُلاً قُتل في سبيل الله، ثم أُحْيِي، ثم قُتِل، ثمَّ أُحْيِي، ثم قُتِل، وعليْه دين، ما دخل الجنَّة حتَّى يقضى عنه دينه))؛ الألباني "صحيح النسائي" 4698 بإسناد حسن.

ولهذا؛ فقد استعاذ النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من الدُّيون جميعًا، وعلَّم الصَّحابة ذلك، بعدما رأى صحابيَّه الجليل أبا أمامة - رضِي الله تعالى عنه - في المسجِد فقال: ((يا أبا أُمامة، ما لي أراك في المسجِد في غير وقت صلاة؟)) فقال: هُموم لزِمَتني وديون يا رسول الله، فقال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أفلا أعلِّمُك كلامًا إذا أنت قُلْتَه أذْهَبَ الله - عزَّ وجلَّ – همَّك، وقضى عنْك دَيْنك؟)) قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللَّهُمَّ إنِّي أَعوذ بكَ من الهمِّ والحزَن، وأعوذ بك من العجْز والكسَل، وأَعُوذ بك من الجُبْن والبُخْل، وأعوذ بك من غلَبة الدَّين وقهر الرِّجال))، قال: ففعلتُ ذلك فأذْهَب الله - عزَّ وجلَّ همِّي وقضى عني ديني؛ سنن أبي داود (1365) عن أبي سعيدٍ الخُدْري - رضِي الله عنه.

العدل المطلقيوم القيامة:
ويوْم القيامة ينطِق ميزان العدْل المطلَق بردِّ الحقوق إلى أهلِها؛ قال الله تعالى: {وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].

وعن أبي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه -: أنَّ النَّبيَّ الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلِها يوم القيامة حتَّى يُقاد للشَّاة الجلحاء من الشَّاة القرْناء))؛ مسلم في المسند الصحيح (2583).

وسيظهر المعنى الحقيقي للإفلاس والذي عناه النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا مَن لا دِرْهَم له ولا متاع، فقال: ((إنَّ المفلس من أمَّتي، يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعْطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناته، فإن فنِيَت حسناتُه، قبل أن يُقْضَى ما عليه، أُخِذ من خطاياهم فطُرِحت عليه، ثم طرح في النار))؛ مسلم في المسند الصحيح (2581) عن أبِي هُرَيْرة - رضِي الله تعالى عنه.

ولهذا؛ فعلى المسلم أن يتحلَّل من ديون المظالِم وأكْل أموال النَّاس بالباطل قبل اليوم الموعود؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((مَن كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلَّله منها، فإنَّه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أُخِذ من سيئات أخيه فطُرِحَت عليه))؛ البخاري في الجامع الصحيح (6534).

تنبيهات هامة متعلقةبالديون:
أوَّلاً: سرعة الخروج من الديون:
وذلك بِعدم الإبْطاء أو المُماطلة في إيفاء النَّاس حقَّها، فالدَّين لا يسقُط أبدًا ولا ينتهي طلبُه، لا من الله - تعالى - ولا من العبْد إلاَّ بعد سدادِه، لهذا؛ على المسلِم دائمًا مُحاولة الخُروج من ديونه قبل فوات الأوان، وقبل أن يأتي ملك الموت فينزع منه حبْل الوتين، فليحمل العبد همَّ دَينه وليَسْتَعن بالله على قضائِه؛ فعن أبي هُرَيْرة - رضِي الله عنْه - قال: قال النَّبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن أخذ أمْوال النَّاس يُريد أداءَها أدَّى الله عنْه، ومَن أخذ أموال النَّاس يريد إتْلافها أتْلفه الله))؛ البُخاري في الجامع الصَّحيح (2387).

وإذا لَم يستطِع الوفاء بدُيونه في حياتِه، فعليْه أن يوصي بها إلى أوْلادِه وأهْلِه حتَّى ينجو من عذاب الله - تعالى - في يوم الجزاء.

ثانيًا: لا استدانة إلاَّ عند الضرورة:
فلا مجال لما يفعله كثيرٌ من النَّاس في زمانِنا هذا بكثْرة الشِّراء والتطلُّع إلى الاستِهْلاك الدَّائم في المأْكل والمشْرب والكماليات الكثيرة، والَّتي غلَّفها الإعْلام بثوب الضَّرورات الَّتي لا تكون الحياة إلاَّ بها، ومِن ثمَّ يمدُّون أياديَهم إلى خلْق الله، ويُوغِلون في الشِّراء بلا ضرورة، ولنا في رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الأُسوة الحسنة؛ فإنَّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لَم يستَدِنْ لشراء حاجيات لا ضرورةَ فيها، وإنَّما كان ذلك لمجرَّد القوت؛ فعن أمِّ المؤْمنين عائشةَ - رضِي الله عنْها -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - اشترى من يهوديٍّ طعامًا إلى أجل معلوم، وارْتَهن منْه درعًا من حديدٍ"؛ البخاري في الجامع الصحيح (2252).

ثالثًا: لا استِدانة من البنوك الربويَّة:
من الصور الاجتِماعيَّة المنْكورة والَّتي تعوَّدَ عليْها كثيرٌ من المسلمين، ولَم يعودوا يَجدون في ذلك حرجًا أنَّهم يستدينون من البنوك الربويَّة أو الأشْخاص الربويِّين، وهُم سمُّ المجتمعات وآفة الحياة التي يعيشُها مَن أُُغرقوا في بحار الدُّيون المهلكة، وعلى أيديهم يكون خراب البيوت العامِرة والبلاد الآمنة، وما يحدث الآن في العالَم أجْمع من هزَّات اقتِصاديَّة مُرْبِكة خيرُ دليلٍ على استِئْثار النِّظام الربوي بكلِّ قبيح في الحياة؛ لهذا نرجو مقاطعة هذه البنوك قدْر المستطاع، والبُعْد عن الأشخاص الَّذين يُغْرِقون غيرَهم في ديون ربويَّة مهلكة.

رابعًا: الدُّعاء الدَّائم بقضاء الدُّيون:
فإنَّ الدعاء سلاح المؤمن مع الاستِعانة بالله مسبِّب الأسباب، وقد مضى كيْف أنَّ النَّبيَّ الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - علَّم أبا أمامة - رضِي الله عنه - الدُّعاء عند الدين: ((وأعوذ بك من غلَبة الدَّين وقهْر الرِّجال))، وعن أبي وائلٍ عن عليِّ بن أبي طالب - رضِي الله عنْه - أنَّ مكاتبًا جاءه فقال: إنِّي قد عجزت عن كتابتِي فأعنِّي، قال: ألا أعلِّمك كلماتٍ علَّمنيهنَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لو كان عليْك مثل جبل صير دينًا أدَّاه الله عنك؟ قال: ((قُل: اللَّهُمَّ اكفني بِحلالك عن حرامِك وأغْنِني بفضلك عن سواك))؛ الألباني في صحيح الترمذي (3563) بإسناد حسن.

فليُسارع أصحاب الدُّيون بقضائها، وليستعينوا بالله قاضي الحاجات.

ونسأل الله - تعالى - أن يَحمل عنَّا التَّبعات ويطهِّرنا بطاعتِه من الأوْزار والسيِّئات.

والحمْد لله في بدْءٍ وفي ختم.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.01 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]