عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 29-10-2020, 05:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء

من وصايا أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء (1)












د. نبيل محمد رشاد








الوصية الأولى


يا مالك، المنيَّة ولا الدنيَّة


والمنيَّة هي الموتُ، والدنيَّة هي الخسَّة والضَّعة، وأوس بن حارثة يُوصِي ولده ها هنا بالترفُّع والاستعلاء، والإباء والشَّمَم، ويقول له: إن ألجأتك تصاريفُ الزمان إلى أن تختار بين أن تموت كريمًا عزيزًا، أو أن تعيش خسيسًا وضيعًا، فاختَرْ أن تموتَ كريمًا عزيزًا.





والسرُّ الكامن وراء هذه الوصية وما بعدها من وصايا، هو ما يبتغيه أوس لولده من بعدِه من مكانة، إن أوسًا يريد أن يرِثَ مالكٌ السيادةَ من بعدِه، وهو يعلم أن الناس تُجمِع على اختيار الحر العزيز، والشريف الأَبِي سيدًا وزعيمًا، وتأنف أن يلي أمرَها خسيس أو وضيع أو حقير، ومن ثَمَّ كانت العزَّة أول خَلَّةٍ أوصى بها أوسٌ ولدَه في هذه الوصية الجامعة.





الوصية الثانية


والعتاب قبل العقاب


ونلاحظ أن هذه الوصيَّة الثانية تختلفُ بعض الشيء عن الوصية الأولى؛ ففي الوصية الأولى أمرٌ ونهي:


أمرٌ بالإقبال على الموت، والاحتفاء به، والسعي إليه، وذلك حين تتعذَّر على الإنسان (مالك) سُبُل الحياة الكريمة التي تليق به وبأمثاله من أبناء الرجال الكبار.





وفيها نهيٌ عن الوقوع في مخالب الدناءة والخسة، وبَرَاثِن السُّفول والضَّعةِ.





أما هذه الوصية، ففيها أمران؛ أمر بالعتاب، وأمر آخر بالعقاب، غير أن أوس بن حارثة يلفِتُ نظر ولده مالكٍ إلى ضرورة تقديم العتاب على العقاب، وذلك لما يعلم من طبائع الناس، ولما يرغب فيه من السُّؤدد لولدِه، إن أوسًا يعلم أن من الناس مَن يُجدِي معه العتاب، ويؤثِّر فيه القولُ اللَّيِّن، فيؤوبُ إلى الرشد، ويثوبُ إلى الحق، ويرجِعُ عن التمادي في الباطل، والتخبط في متاهات الضلال، ومن ثَمَّ فهو يُوجِّه ولده إلى أن هذا وأمثاله من الأوَّابينَ تجبُ معاتبتهم، ولا تجبُ مبادرتهم بالعقوبة؛ لأن التعاملَ معهم بالرِّفقِ واللِّين قد يُؤدِّي إلى استجلابِ مودَّتِهم، ودَرْء عداوتهم، أما أولئك الذين لا يردعُهم إلا الزَّجْر والضربُ، فليس هناك من سبيلٍ أمام مالكٍ بعد معاتبتِهم سوى أن يعاملهم بما تجدُرُ معاملتهم به من الشدة والحزم.





وهنا نسأل أنفسنا: ولِمَ وجَّه أوس ولدَه مالكًا إلى معاتبة هذا الصنف الثاني من الناس قبل مفاجأتهم بالعقوبة؟


والجواب: لأن أوسَ بن حارثة يُدرِك أن ولده مالكًا لا يزالُ في سن الشباب، وهي سن تدفع صاحبها دائمًا إلى الطيش والنَّزَق، وتُزيِّن له التشفِّي والانتقام، ومن ثَمَّ أراد أن يُنبِّهَه إلى قيمةِ الحِلم؛ وذلك لما يعلم من رغبة القبيلة في أن يكونَ سيِّدُها حليمًا رفيقًا، ومن أَنَفتِها من أن يليَ أمرَها طائشٌ نَزِقٌ؛ لأن الحليم الرفيق هو الذي يعملُ على رَأْب الصدع، ويسعى في إصلاح ذات البَيْن، أما الطائش النَّزِقُ، فإنه غالبًا ما يُورِد قومَه مواردَ الهلاك والتلف، ومن ثَمَّ كانت هذه الدعوةُ إلى الترفُّق والحِلم في هذه الوصية الثانية من الأهميةِ بمكانٍ بعد الدعوة إلى التعزُّز والترفُّع في الوصية الأولى.





الوصية الثالثة


والتجلُّد لا التبلُّد


وفي هذه الوصية أمرٌ ونهي؛ أمرٌ بالتجلد، ونهي عن التبلد، والتجلد هو أن يتكلَّف الإنسان الجَلَد؛ أي: القوة والشدة عندما تحلُّ به النكبات والرزايا، حتى لا يشمَتَ به شامتٌ، وحتى لا يتنقَّصَه عائب.





وتكمُنُ قيمةُ هذه الوصية فيما تَشِي به من إدراكِ أوس بن حارثة لطبائع الرجال، إنها تدُل على أنه يُدرِك أن الإنسان (مالكًا) الذي ينتمي إلى أصل كريمٍ، ومَحْتِدٍ طيِّب قد تخُونه عواطفه أحيانًا فيهتزُّ ويرتعش، ويفزَعُ ويجزَعُ إذا ما أصابه مكروهٌ في نفسِه أو في ذريته أو في ماله، أو في أحد أقربائه أو بني قومه، ومن ثَمَّ فهو يلفِتُ نظر ذلك الإنسان (مالك) إلى ضرورة التحلي بخلق التجلُّد حتى يكون قدوةً وأسوةً لغيرِه ممَّن حوله، وحتى يستطيعَ إحسانَ التصرُّف والتعامل مع ما تدهَمُه به الأيام من المصائب والشدائد بما يجدُرُ بمثلِه من الثبات في المواقف، والحزم في القرارات، والعمل على دفع الملمَّات.





ويأتي النهي عن التبلُّد في هذا السياق ليدلَّ على تمام وَعْي هذا الوالد الجليل، وعميق خبرته بالفوارق الدَّقيقة، والخيوط الرفيعة الفاصلة بين غُرَر الخصائص الواضحة، وعُرَر النقائص الفاضحة.





إن أوسًا يدعو ولدَه ها هنا إلى عدم الإفراط في التجلُّد؛ لأن الإفراط في التجلُّد يُؤدِّي إلى شعور الآخرين ببلادةِ الإنسان، وتحجُّر عواطفه، وانعدام إحساسه بما هم فيه من ضيق وكرب.





وإنه لحريٌّ بمالك - وبمَن في مثل مكانته ممن بوَّأه قومُه مقاعدَ السؤدد - أن يلتَفِتَ كما التفت أوسٌ من قبلُ إلى هذا الخيط الفاصل الدقيق بين إظهار التماسك والقدرة على التحمل، وإظهار اللامبالاة وانعدام التهيُّؤ عند استقبال النوائب، وتلقِّي حادثات الزمان.





الوصية الرابعة


واعلم أن القبر خير من الفقر


وأوسُ بن حارثةَ يُوصِي ولدَه ها هنا بالحرص على الاحترافِ والعمل؛ لأن الاحترافَ والعمل هما السبيلُ التي تُمكِّن الإنسان من الحصولِ على المال الذي يكفي به نفسَه، ويَعُولُ به غيره ممَّن تلزمُهم نفقته، ويدفعُ به المغارم والدِّيَات عندما تنوبُ النوائب، وتحُلُّ الشدائد والخطوب.





والملاحظ أنه بدأ هذه الوصية وما بعدها من وصايا بقوله: "واعلم"، ثم ساق الكلام بعدها في أسلوب فيه تفضيلُ شيءٍ على شيء، وهو في هذه الوصية يُفضِّل الموت على المعيشة الضنكى، فيقول لولدِه: إن من الخير للإنسان أن يموتَ ويُقبَر على أن يحيا فقيرًا مُعْدِمًا يسأل هذا، ويسأل هذا، ويُرِيق ماء وجهِه من أجل الحصول من الآخرين على أكلة أو شربة.





وهنا نسأل أنفسَنا:


ولِمَ بدأ أوسٌ هذه الوصيةَ وما بعدها من وصايا بقوله: "واعلم"، ولم يبدأ ما سبق من وصايا بمثل هذا الخطاب الآمر بالعلم؟


والجواب: لأنه ها هنا يفاضلُ بين أمرينِ لا يتَّفقُ معه في المفاضلة بينَهما معظمُ الناس، فهناك من البشر مَن يحرِصُ على الحياة بأي شكل وبأية صورة كانت، فالمهم عنده أن يحيا، وليس يعنيه كيف يحيا، كاليهود الذين قال الله -تعالى- فيهم: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [البقرة: 96].





أمَّا ما سبق من وصايا، فإن غالبية الناس يتَّفقون مع أوسٍ في منطقيَّتها وصوابها، فكل أحدٍ من الناس يُدرِك بشاعة الدنايا، ويوَدُّ في دخيلة نفسه ألا يكون من أربابها، وكل أحد من الناس يعرف أهمية العتاب ويُفضِّله على المؤاخذة والعقاب، وكل بني البشر يقدرون قيمةَ التجلُّد قدرها، ولا يرضَوْنَ لأنفسهم أن يكونوا متبلِّدي الإحساس، منعدمي الشعور.





الوصية الخامسة


وشرُّ شاربٍ المُشتَف، وأقبح طاعم المُقْتَف


والمُشْتَفُّ هو الذي يشرب البقية المتبقية في الإناء، والمقتفُّ هو الذي يلتَهِمُ الطعام بسرعة، وأنت ترى أن أوسَ بن حارثة يُعلِّم ولده آداب السُّفرة، وإنه ليقولُ له: إن شر الشاربين هو ذلك الذي يشرب البقية المتبقية في الإناء، وإنما كان هذا شرَّ شاربٍ؛ لأن صنيعَه هذا يدل على ما يتصف به من الشراهة والدناءة والبخل، وسيد القوم لا ينبغي له أن يكون شَرِهًا أو دنيئًا أو بخيلاً؛ لأن الشراهة والدناءة تجعلانِه صغيرًا في أعين الناس، وتجعلانه قَمِينًا بانتقاصهم من قدره، ومخالفتهم لأمره ونهيه؛ ولأن البخل والحرص يجعلانه يغُلُّ يدَه فلا يبسُطُها بتحمل المغارم، ودفع الملمَّات عن أهله وعشيرته، ومن ثَمَّ يسوء رأيُهم فيه، ولا يفزعون إليه إن أَعْوَزَتْهم الحاجة إلى الاستغاثة به واللُّجوء إلى فِناء داره.





ويقول أوس أيضًا: إن أقبح الطاعمين هو ذلك الذي يلتهمُ الطعام بسرعة دون أن يعطي نفسه فرصةَ مضغِه جيدًا قبل بلعه، وإنما كان هذا أقبَحَ طاعم لسببين:


الأول: أن صنيعَه هذا يُنذِرُ بضياع صحته، ووَهَن قوَّته، وتصالح الأمراض على جسده، وما على هذا ينبغي أن يكون سيد القوم، وإنما ينبغي أن يكون سيد القوم صحيحًا سليمًا معافًى من العلل والأمراض، حتى يستطيع القيام بما يجب عليه القيام به من شؤون الزعامة والملك، هذا عن السب الأول.





أما السبب الآخر الذي يجعل الآكلَ بسرعةٍ أقبحَ طاعمٍ، فهو يرجع في تصوري إلى بشاعة منظر الآكل بهذه الطريقة في أعين مَن يشاركونه الطعام، ولأن سيد القوم كثيرًا ما تلجئه الضرورة إلى أن يجلس مع كبار رجالات قومه على موائدهم، فإن أوسًا يَلْفِتُ نظر ولدِه إلى ضرورة الأكل بتُؤَدةٍ وتمهُّل حتى يكتسب حُسْنَ السيرة عند الناس بعد انفضاض المجلس؛ لأن الناس بعد انتهاء الطعام وخروجهم للرواح إلى منازلهم يأخذ بعضهم في الحديثِ إلى بعض، ويسترجعون ما كان من أمر المائدة، وما كان عليها من أطايب الطعام، وما كان عليه المدعوون إليها من التوقُّر والتصوُّن والتعفُّف، أو الشراهة والنَّزَق والطيش في الآنية والصِّحاف، وهم في استرجاعِهم كلَّ هذا تثني ألسنتهم على أخلاق المتعفِّفين المتوقرين، وتلوك أعراض الطائشين غير المتعفِّفين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.17%)]