عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-08-2020, 04:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي المناسبة بين الآية وما قبلها مباشرة

المناسبة بين الآية وما قبلها مباشرة
محمود حسن عمر





وقد ظهر هذا النوع من المناسبة جليًّا عند الإمام البقاعي، فقد كان يعرض للآيات القرآنية واحدة واحدة، وكان يُظهر - مجتهدًا - وجه الارتباط بين الآية وأختها بنوع من الروابط البلاغية المعروفة، ومن ذلك ما تكون فيه المناسبة على أساس من الالتفات الذي يفيد التنكيت والتبكيت، فالالتفات من الأساليب البلاغية الرفيعة التي تُظهر المناسبة أيَّما ظهور، ومن فوائد هذا الأسلوب وخصوصيته التأثيرية على النفس أن يربط آية بآية أخرى قبلها على سبيل التنكيت والتبكيت، ومن هذا اللون ما يكون على سبيل الاستئناف التبكيتي الممزوج برائحة الالتفات؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159]، وذلك بعد قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158][1].

فآية: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ﴾ ناسَبت ما قبلها، وهي آية: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ ﴾؛ ذكر البقاعي أنه لَمَّا تقدَّم كِتمان بعض أهل الكتاب للحق، وخَتْمُ ما أتبع ذلك - أي: الصفا والمروة - بصفتي الشكر والعلم، فالشكر لمن نصَح لله واتَّبع شرعه، فالله يعلم خائنةَ الأعين وما تُخفي الصدور، حتى وإن دقَّت الأفعال واستترتْ، وبالَغ القوم في كِتمانها وإخفائها، وبعد ذلك - أي: اتِّباع شرعه كاملاً، وشُكر من يقوم بذلك - انعطف الكلام لتبكيت المنافقين، وكذلك المصارحين، ولعَنْهم على كِتمانهم ما يعلمون من الحق[2].

ومما سبق يتَّضح للناظر المتفحص كيف لَعِبَ أسلوب الالتفات التبكيتي دورًا كبيرًا في إظهار المناسبة بين الآية والآية التي قبلها.

وقد يأتي العطف الذي يفيد التشريف والتكريم وسيلةً من وسائل المناسبة بين الآية وما قبلها، ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 19]، فقد جاء قبلها قوله تعالى: ﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الأعراف: 18].

ذكر الإمام البقاعي أن الله عز وجل لَمَّا أوجب للشيطان من الشقاوة لتمادِيه في حسد آدم وذُريته، وما كان من أمره بعد ذلك، وكثرة كلامه في محسوده - التفت الله عز وجل إلى محسوده الذي لم يتكلم فيه كلمة واحدة، بل إنه انشغل بنفسه واكتفى بجزائه، ورضِي بقضاء الله، فقال الله عز وجل - وقد عطف عطفًا تناسبيًّا معجزًا على الآية التي قبلها: ﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا.... ﴾ - قال: ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ... ﴾، فكان هذا الالتفات الرباني فيه من التشريف والإيناس لآدم وزوجه ما فيه[3].

فالناظر يجد نفسه أمام لوحتين معجزتين؛ الأولى: خاصة بإبليس اللعين، فالله عز وجل يذمه ويَطرده من رحمته وجنته، جزاء حسده الدائم لآدم، وفي المقابل في اللوحة الثانية التي تختص بآدم وزوجه، وهما قد رَضِيَا بحكم الله وصبَرَا، فوعدهما الله الجنةَ وسُكناها، والمناسبة هنا تتَّضح من العلاقة التي جمعت إبليس وآدمَ، فكلٌّ منهما كان في الجنة، فعصى إبليس وحسَد، ورَضِي آدم وانشغَل بنفسه، فاختلف الجزاء بين اللعن والطرد، وسُكنى الجنة، وأظهر هذا التناسبَ العطفُ والالتفات من قصة إبليس إلى قصة آدم.


[1] التناسب القرآني عند البقاعي؛ للدكتور مشهور موسى، ص 77.

[2] نظم الدرر؛ للبقاعي، ج2، ص 272 - 273 بتصرف يسير.

[3] السابق نفسه، ج7، ص 371، بتصرف يسير.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 17.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.23 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (3.48%)]