عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 22-11-2022, 04:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,445
الدولة : Egypt
افتراضي بين الرافعي والشاعر محمد بركات.. قلت في الحزن..

بين الرافعي والشاعر محمد بركات.. قلت في الحزن..
منجية بن صالح





أما قبل، فالنقد عندي إن لم يقرأ الناقدُ النصَّ بعين بصيرة، وينفذ إلى ما وراءه، يرافق أبعاده، ويستبق مراميَها ومآلاتِها - فهو ليس بنقد؛ بل إعادة سرد من طرف الناقد لما تضمَّنه الخطاب مع تحليل لمكوناته اللغوية واللسانية، وما ذلك إلا اجترارٌ وإعادة تدوير لما جاء في النص الأصلي.

لقد اخترت لهذا المقال عنوان "وقلت في الحزن..."، رغم أن ما حفز قلمي للكتابة في هذا الموضوع كان قصيدة للشاعر محمد بركات، وهي تندرج ضمن سلسلة مقالات بعنوان: "ما لم يقله الرافعي في رسائل الأحزان"، والجدير أن يكون العنوان مستمدًّا من الموضوع نفسه، وكأني هنا أقارع رأيًا برأي، أو أتبنى فكرة مقابل أخرى تتطابق معها، لكن الأمرَ غيرُ ذلك.

"وقلت في الحزن..." مقال يتطرق لمشاعرَ تطغى على حياة الإنسانية، خلَّدها الرافعيُّ في كتاباته، فكانت رسائل الأحزان، وكان السحاب الأحمر، وكان منها الإلهام للشاعر محمد بركات، في سلسلة مقالات بعنوان: "ما لم يقله الرافعي في رسائل الأحزان"، فهل حقًّا ما كتبه محمد بركات لم يقله الرافعي؟!

من نِعَمِ الله علينا أن تتشارك الإنسانية بالفطرة في نفس المشاعر، كما تتشارك في تجسيدها وتَحمُّل تداعياتها على المستوى النفسيِّ والوجداني، والاختلافُ الوحيد يكون في الزمان والمكان، وطريقة التعبير عنها، التي تخضع لعدة اعتبارات، منها اللغة، وحال الأديب ما قبل الكتابة وأثناءها، والعنصر الأهم في خضم كلِّ هذا هو نقاء الكاتب وصدقُه مع نفسه.

لقائل أن يقول: ما دخل هذا بذاك؟
أقول: إن الكتابة هي لحظةُ تجلٍّ يعيشها الكاتب مع نفسه، فيعبِّر عنها وكأنه يعبر عن رؤية من عالم الغيب، إنها ومضة حضور مع ذات تمرُّ بلحظة فارقة في زمن خارج الزمان، إن كانت حبًّا أو حزنًا، وهذا ما يعطي النصَّ روحًا من روح الكاتب.
هكذا نص يكون له حياة وتأثير تتوارثه الأجيال، ولنا في تراث الأدب العربيِّ أمثلةٌ عديدة، وليس أصدق من المثال الذي بين أيدينا: أعمال الرافعي وتواصُل روحه الكاتبة مع أجيال من بعده، وها نحن نلاحظ مدى تأثيرها في روح النص العربي، وتحديدًا في رسائل الشاعر محمد بركات.

فكلما كان الإنسان صادقًا مع نفسه، مستلهمًا من الروح نقاءً، ومن النفس المطمئنة نزاهة، ومن القلب وفاء، كانت كتابته تنبض حياةً وحركة فاعلة، تشبع نهمَ القارئ، تغذي روحه، وتنمي فيه ملَكة التفكير، وتصقل ذوقه الأدبيَّ، ليكون مبدعًا بكل مكونات إنسانيته، فالإبداع لغةً يشير إلى معنى الحقيقة وهي خالدة، لا تضاهيها أفكار أخرى، ولا تستطيع مجاراتها، ولا تغييرها، فالنفس تشف وترف لتتماهى مع الروح وتستنير بنورها، يقول لنا الرافعي: "إن في نفس هذا الإنسان أعماقًا بعيدة تنحدر أغوارها من مهوى إلى مهوى إلى ما لا نعلم؛ لأن النفس ما برحت جزءًا من الأزل، كبعض النور من النور، ينفصل عنه وهو مستقر فيه"؛ (صفحة 127 من روائع الرافعي).

كنت قد طرحت هذا السؤال: هل حقًّا ما كتبه محمد بركات لم يقله الرافعيُّ؟ أو أن ما جاء في رسائل الشاعر هو فيض من غيض، والنبع واحد؟!
تسكننا مشاعرُ توحِّدها التسميات، ونختلف في الإحساس بها، والتعبير عنها حسب البيئة والموروث الثقافيِّ و الحضاري، ولا شك في أن علاقة الرجل بالمرأة هي أساس تناسل هذه المشاعر؛ بحكم وجود ميل فطريٍّ يجمعهما، وما كتبه الرافعي كان حقيقة عاشها بفطرة الشاعر العاشق، وأقول: إن الحقيقة واحدة يمتلكها كلُّ من اكتملت عنده شروطها؛ لهذا نرى أن ما قاله الرافعي في "رسائل الأحزان" لامَسَ حقيقة مشاعر كاتب رسائل "ما لم يقله الرافعي"... فلو كان موجودًا لتشارك القلمان في التعبير عن الحزن بنفس الإحساس، وأفصحا عن نفس الحقيقة التي كتب لها الله سبحانه الخلودَ عبر مخلوقاته، لكن بأساليبَ مختلفة.

يقول الرافعي: "إن في القلم لشيئًا إلهيًّا يدفع الموت والنسيان عن المعاني التي تكتب إلى أجل طويل، كأن القلم ينتزعها من الإنسان الذي هو قطعة من الفناء؛ ليبعد الفناء عنها"؛ (الرسائل ص19).
هناك أقلام تجعلك تعود إلى هذا البعد الفلسفيِّ الإنساني، الذي تختزله الذاكرة بكل أبعادها التي تستمدها من عالمَي الغيب والشهادة، في محاولة جريئة لإدراك معانٍ تتلاقح تحت وقع صرير الأقلام، تتوالد صورًا من وحي الخيال، فتكون أسلوب كتابة وكلمات تبهرك بجمالها، وسلاسة قوامها اللغويِّ، وأساليبها المغرية، وكأنها يوسف في حضرة النسوة، إنها لعبة الخيال الذي حبانا به الله ليكون مرآةً عاكسةً لِما يتفاعل فينا من جمال وقبح، من حب وبغض، من سعادة لقاء وحزن فراق، إنها مشاعر تحدونا إلى المجهول، لا ندرك مصدرها ولا نهايتها.

ما لم يقله الرافعي في رسائل الأحزان: هي سلسلة مقالات وأشعار جادت بها قريحة محمد بركات، عبَّر من خلالها عن مشاعر إنسان الوجود بتقلباته: أفراحه وأتراحه، فكانت قمة حزنه تتمثل في سعادة منشودة، وقمة السعادة وجودُه بين يدي أنثى ملكت عليه مشاعره.

ما لم يقله الرافعي، قاله محمد بركات بأسلوبه الشائق، ليبقى الموضوع واحدًا بين الرافعي الأصل والرافعي القلم، وهذا ما جعلني أحاول أن أدرك أبعاد تفاعلهما مع هذا القاسم المشترك، ألا وهو الحزن: لماذا ركز كلاهما على هذه المشاعر، وكأنها اختزَلَت مأساة إنسان العصر؟ فكنت أتنقل بين قلم الرافعي وقلم رافعيِّ الهوى، في محاولة لإيجاد المساحة المشتركة التي تقاسماها على مستوى الفكر، مع اختلاف الأسلوب، فكانت هذه النقاط التي سأتناولها، وهي على النحو التالي:
رسائل الأحزان بين الحقيقة والخيال:
إن الفرد منَّا كتلةٌ من المشاعر، تتقلب تحت ضغط تصاريف الحياة التي لا تهدأ تقلباتُها، ليجد الإنسان أنه مُسيَّر في كثير من الأحيان، فهو يخضع لمشاعر تجتاحه فيكون طوع بنانها، هكذا كانت رسائل الرافعي إملاءاتِ قلب سكنه الحبُّ وأضناه الهجر، فلم يختر أيًّا منهما، ولا هو قادر على فراق من أحبَّ، إنه بين حب تحوَّل إلى بغض، وبين بغض له حنين لأصله، ألا وهو الحب، وبين البينين كُتبت رسائل الرافعي، فكانت من الروائع التي خلدها الأدب، وتناقلتها الأجيال، ما سر جمالها وخلودها؟ وأين هي الحقيقة من الخيال؟!

يقول الرافعي في مقدمة رسائل الأحزان: "رجل وامرأة كانا ذرتين متجاورتين في طينة الخلق الأزلية، وخرجَا من يد الله معًا، هي بروعتها ودلالها وسحرها، وهو بأحزانه وقوته وفلسفته، فكان منهما شيء إلى شيء".
لقد أفصح الرافعيُّ عن سر من أسرار الوجود، ألا وهو قوة رسوخ الكلمة التي تحمل سرها، وما سرها إلا روح من روح كاتبها المحمَّل بمعاني حقيقة الوجود الإنساني، ففي البدء كانت الكلمة، وكان آدم، وكانت منه حواء، جزء انفصل عن أصله وترك مكانه شاغرًا، يعذِّبه الفراق؛ فيحتويه الحزن، ويعزيه الحضور، فبين حبٍّ يشجيه وحزنٍ يستحيل إلى بغض، قضى الرافعي حياته، فنراه يقول: "ولن تظهر قدرة الجمال وما فيه من القوة الأزلية إلا إذا حملك على بغضه بعد أن يحملك على حبه، فيقتلك مرتين، كلُّ مرة بسلاح، وكل مرة على أسلوب، وكل مرة بنوع من الألم، وذلك ضرب من العذاب لا تملكه قوة في الأرض؛ لا في الملوك ولا في الجبابرة، لكن تملكه بعضُ النساء الضعيفات، ويعذِّبن به حتى الملوك والجبابرة"؛ (رسائل الأحزان، ص29).

أما الشاعر محمد بركات، فيستحيل حبُّه إلى حزن أنيق فلا يعرف البغض، إذ يقول:
وَبِرُغْمِ حُزْنِي فِي هَوَاكِ فَإِنَّنِي
لَوْ عَادَ عُمْرِي لِلْوَرَا سَأُكَرِّرُهْ

يَكْفِي بِأَنَّ فُؤَادَكُمْ بِيَ شَاعِرٌ
وَبِأَنَّنِي بَيْنَ الأَحِبَّةِ شَاعِرُهْ

حُزْنِي أَنِيقٌ مِنْ أَنَاقَةِ حُبِّنَا
فَالحُزْنُ مِنْ تَرَفِ المَحَبَّةِ قَاهِرُهْ

تَبْدُو حُرُوفُ الحُزْنِ زَهْرًا بَاكِيًا
يَقْتَاتُ غَيْثًا مِنْ جُفُونِكِ تُمْطِرُهْ


يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 29-11-2022 الساعة 08:44 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.42 كيلو بايت... تم توفير 0.65 كيلو بايت...بمعدل (2.96%)]