عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 22-01-2020, 10:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي رد: منهج أهل الزيغ في الاستدلال


وإذا صح لهم مثل هذا في نصوص الكتاب والسُّنة، فلا عجب أن يستعملوا هذا المنهج التشكيكي الإفسادي مع نصوص العلماء وأقوالهم، فيأخذوا بالمتشابه منها، ويتركوا المحكم الصريح، الذي يبيِّن مرادَهم ويكشف عن قناعاتهم، فينسبون لهم ما لم يقولوه، ويحملون كلامهم على ما لم يقصدوه. وقد يبترون النص المنقول عن سياقه، ويفصلونه عن أسبابه ومبرراته، وقد يكون كلاماً في حادثة خاصة، أو ظرف معيَّن، أو رخصة لضرورة أو حاجة ماسَّة، فيعممون الحكم، ويأخذونه على إطلاقه، ويجردونه من ضوابطه وشروطه... ويساعدهم في تحقيق ذلك أن العلماء مهما بلغوا من العلم والفهم فإنهم ليس عندهم من الاحتياط والدقة، والبلاغة والإحكام، ووضوح العبارة وقَصْرِها على المقصود مثل ما جعله الله - تعالى - للوحي المعصوم من نصوص الكتاب والسُّنة؛ فالله المستعان.
وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من هؤلاء المحرِّفين للكتاب والسُّنة، والمتبعين للمتشابهات ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل كلام الله على غير مراده؛ فعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَت: «تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: ظ§]. قَالَت: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِك الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»[5].
وقال صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خَلَف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»[6].
قال ابن القيم: «فأخبر أن الغالين يحرِّفون ما جاء به، والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلون يتأولونه على غير تأويله، وفساد الإسلام من هؤلاء الطوائف الثلاثة؛ فلولا أن الله - تعالى - يقيم لدينه من ينفي عنه ذلك لجرى عليه ما جرى على أديان الأنبياء قبله من هؤلاء»[7].
وقد تكاثرت نصوص الكتاب والسُّنة في التحذير من الأئمة المضلين، والجهلة المتمعلمين، والمتصدرين للفتوى وليسوا من أهلها، ولهذا أمرنا الله - تعالى - بسؤال أهل الذكر خاصة فقال - سبحانه -: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: ظ§]، وأهل الذكر هم العلماء الراسخون، الذين شهدت لهم الأمة بالعلم والإمامة في الدين، أما أدعياء العلم، وأنصاف المتعلمين، والمتطفلون على موائد العلماء، فليسوا أهلاً لِأَن يستفتوا ويُصدَر عن رأيهم، وبخاصة في الأمور العامة التي تمس مصالح الأمة.
والنبي صلى الله عليه وسلم يحذر من هؤلاء تحذيراً شديداً فيقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»[8].
وهذا يتضمن التحذير من ترئيس الجهال، وتخلية الساحة لهم، بقعود العلماء الراسخين عما أوجبه الله عليهم من البلاغ والتبيين. وفيه التحذير من استفتاء أدعياء العلم وأنصاف المتعلمين، ومن يتصدرون للفتوى وهم في الحقيقة جهال أدعياء. وفيه التحذير الشديد لهؤلاء من القول على الله بلا علم، وإقحام أنفسهم في ما لا يحسـنون، والخوض في بحر لا يجيدون السباحة فيه، فيَضِلون ويُضِلون، ويتحملون أوزارهم وأوزار من يضلونهم بغير علم.
وقد صحَّ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: «يهدم الإسلام زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون»[9]؛ فإذا كانت زلة العالم تهدم الإسلام، وتضل الأنام، فكيف بفتاوى أئمة الضلالة وأرباب الجهالة والغواية؛ فليس شيء أخطر على الأمة، ولا أضيع لدينها من جاهل دعي، أو منافق ذكي، يستعمل ذكاءه وعلمه وفصاحته في إضلال الخلق، وصدهم عن الهدى ودين الحق؛ فعن أبي عثمان النهدي قال: إني لجالس تحت منبر عمر - رضي الله عنه - وهو يخطب الناس، فقال في خطبته: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة كل منافق عليم اللسان»[10].
فإذا كان المنافق عليمَ اللسان، قويَّ البيان، كان ذلك سبباً لفتنة الناس ولَبْس الحق بالباطل، ولهذا كان أخوف شيء يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته هم أئمة الضلالة هؤلاء، وذلك لشـدة خطرهم، وعموم ضررهم؛ فعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين»، وفي رواية: «أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون»[11].
بل كان يخاف على أمته منهم أشد من خوفه عليهم من فتنة المسيح الدجال، الذي أمرنا بالتعوذ من فتنته في كل صلاة، وما من نبي إلا وأنذر أمته الدجال[12]؛ وذلك لعظيم خطره، وشدة فتنته، ومع ذلك فأئمة الضلالة أشد ضرراً على الأمة من فتنته؛ فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «كنت مخاصر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إلى منزله، فسمعته يقول: غير الدجال أخوف على أمتي من الدجـال. فلما خشـيت أن يدخل قلت: يا رسول الله! أي شيء أخوف على أمتك من الدجال؟ قال: الأئمة المضلين»[13]، وعن علي - رضي الله عنه - قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فذكرنا الدجال، فاستيقظ محمرّاً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عندي عليكم من الدجال: أئمة مضلون»[14].
ويؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين حذر من فتنة الخوارج، وأمر بقتلهم، بيَّن أنهم إنما أُتوا من قِبَل جهلهم، وقلة فقههم، فجنوا على أنفسهم وعلى أمتهم، ولم يشفع لهم حُسْن نيتهم، وسلامة قصدهم، وكثرة عبادتهم؛ فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سيخرج في آخر الزمان قوم حُدثَاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة»[15].
وكلما تقادم الزمان، وبَعُد الناس عن عهد النبوة، كثر جهلهم، وقلَّ فقههم، ورقَّ دينهم، وتصدوا لما لا يعنيهم، وخاضوا في ما ليس من شأنهم، وتكلم الجهلة والغوغاء، والمنافقون وأهل الأهواء في مصالح الأمة وقضاياها العامة، فلبَّسوا الحق بالباطل، واستحلُّوا الحرمات، ووقعوا في المنكرات، واتبعوا الأهواء والشهوات، وتجرؤوا على حِمَى الشريعة، وحرماتها المنيعة، وهذا من أشراط الساعة، التي نبَّه عليها نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: «إن بين يدي الساعة سنين خداعة، يصدَّق فيها الكاذب، ويكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»[16]، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يُرفَع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنى، ويُشرَب الخمر، ويذهب الرجال، وتبقى النساء، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد»[17].
وقد بين الإمام الشاطبي خطورة الاستدلال بالمتشابهات، وتأويلها على غير وجهها، وأن هذا من أكبر سمات المبتدعة وأهل الأهواء، وذكر لذلك أمثلةً كثيرة، كما نبه على المنهج الشرعي في التعامل مع هذه المتشابهات فقال: «ومنها: انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف، وطلب الأخذ بها تأويلاً - كمـا أخبر الله تعالى في كتابه - إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوثي بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ} [آل عمران: ظ§]، وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه، ويُشتَرَط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي، فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك، أو عارضه قطعي كظهور تشبيه فليس بدليل؛ لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه ودالاً على غيره، وإلا احتيج إلى دليل، فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى أن لا يكون دليلاً.
ولا يمكن أن تعارض الفروعُ الجزئيةُ الأصولَ الكلية؛ لأن الفروع الجزئية إن لم تقتضِ عملاً، فهي في محل التوقف، وإن اقتضت عملاً، فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم... ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد: وهو الجهل بمقاصد الشرع، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض، فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامِّها المرتب على خاصِّها، ومطلَقِها المحمول على مقيَّدِها، ومجملها المفسَّر ببيِّنها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها؛ فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذي نظمت به حين استنبطت.
وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي؛ فكما أن الإنسان لا يكون إنساناً حتى يستنطق، فلا ينطق باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنساناً، كــذلك الشـــريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، لا من دليل منها؛ أي دليل كان... فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها، كأعضاء الإنسان إذا صوِّرت صورة مثمرة. وشأن متبعي المتشابهــات أخـذ دليل مَّا؛ أي دليل كــان، عفـواً وأخـذاً أوَّليــاً، وإن كان ثَمَّ ما يعارضه من كُلِّي أو جـزئــي. فكان العضو الواحد لا يعطي في مفهوم أحكام الشريعـة حكماً حقيقـياً، فمتبعه متَّبِع متشابَه، ولا يتبعه إلا من فــي قلبــه زيـغ كما شهد الله به: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122]»[18].






[1] روى أبو نعيم والديلمي (4672) عن ابن عباس أنه قال: «القرآن ذو وجوه، فاحملوه على أحسن وجوهه»، ورواه الدارقطني: (4/144) عن ابن عباس مرفوعاً، وضعفه الألباني في سلسلة الضعيفة (1036)، وينظر: كنز العمال (2469)، والجامع الكبير للسيوطي1/15074).
[2] صحيح البخاري برقم (4216)، وصحيح مسلم برقم (1407).
[3] برقم (1406).
[4] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: 5/35. وينظر: تفسير الطبري: 8/175 ، وتفسير ابن كثير: 2/259، وتفسير السعدي: 1/174.
[5] رواه البخاري: 4547، ومسلم: 2665.
[6] رواه البيهقي في السنن الكبرى: 10/209 ، والطبراني: 584، والطحاوي: 3269، وصححه الألباني في» مشكاة المصابيح« 1/53 .
[7] إغاثة اللهفان: 1/159.
[8] رواه البخاري: 100، ومسلم: 2673.
[9] رواه الدارمي: 1/244 وابن المبارك في:«الزهد» 1475، وصححه ابن تيمية في«بيان تلبيس الجهمية» 2/279 والألباني في مشكاة المصابيح: 1/57.
[10] رواه أحمد: 1/44 - 399 ، والبزار: 1/434، وله شاهد من حديث عمران بن حصين، وصححهما الألباني في السلسلة الصحيحة: 3/11، 3/87.
[11] رواه أبو داود: 4252 ، والترمذي: 2229، والدارمي: 209 ،2752، وأحمد: 22448، وابن حبان:. 6714وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في«سلسلة الأحاديث الصحيحة»4/109 ، وذكر له شواهد عديدة من حديث عمر، وأبي الدرداء، وأبي ذر، وشداد بن أوس، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
[12] روى مسلم في صحيحه: (2933) عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبي إلا وقد أنذر أمته الأعور الكذاب».
[13] رواه أحمد 21335:ويشهد له الأحاديث التي قبله؛ ولذا قال الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة»: 4/643 فالحديث بمجموع ذلك صحيح.
[14] رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده: 466 وقد ضعف إسناده الألباني في «سلسلة الأحاديث الصحيحة»:4/111 لكن تشهد له الأحاديث التي قبله.
[15] رواه البخاري: 3415 ، 4770 ، 6531 ، ومسلم:1066.
[16] رواه ابن ماجه: 4042، والحاكم: 4/ 465- 512 ، وأحمد: 2/291، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
[17] رواه البخاري: 81 ، 4933، ومسلم:2671.
[18] الاعتصام:1/185،181


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.55 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.71%)]