عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 02-06-2009, 03:37 PM
الصورة الرمزية غفساوية
غفساوية غفساوية غير متصل
أستغفر الله
 
تاريخ التسجيل: Jan 2009
مكان الإقامة: بين الأبيض المتوسط والأطلسي
الجنس :
المشاركات: 11,032
افتراضي رد: العبر في بعض قصار الصور ( الشيخ عائض القرني )

سورة المسد


بسم الله الرحمن الرحيم



(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (:3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5)) هذا هجوم ساحق ماحق على ابي لهب. و أبو لهب هو: عم محمد صلى الله عليه و سلم من النسب، لكن المسالة مسالة مبدا و إيمان و معتقد، أبو لهب هذا قطع أواصر القرابة بالفكر، و رابطة النسب بالإلحاد، و صلة المودة بالإعراض. أبو لهب: اسم في قائمة المنبوذين الخاسرين، لم ينفعه نسبه، لم يدافع عنه حسبه، لم تنقذه قرابته، لم يمنعه ماله، لم يذب عنه جاهه. (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) خسرت يداه الاثنتان، هلكت كفاه، و خابت يمينه و شماله،يداه حيث البخل و الإمساك، و الشح و الايذاء، هكذا بلا مقدمات، و لا ديباجة، و لا تعريف، و لا تدرج في الخطاب، بل دفع مباشر، و فتك سريع، و انتقام خاطف. (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) إعلان حرب ضروس على رجل تافه، زائغ الرشد، ضال البصيرة، شارد الإدراك. و هذه السورة نصيب لأبي لهب و امرأته، لا يشاركها أحد، تنزل على هذا البيت صاعقة ماحقة، لتزلزل أركانه، و تنسف كيانه، و هي دفاع عن صاحب الرسالة صلى الله عليه و سلم، و قد اوذي من عمه الجلف الجبار الجاهل، الذي لم يحفظ القرابة، و لم يرع النسب، و لم يصن ابسط حقوق المرؤة، انه القاطع الآثم المحارب، الذي وقف في وجه النور لئلا يصل إلى العيون، و وقف أما الفجر لبئلا يزحف على الظلام. انه رجل جهم المحيا، خاوي الضمير، عابس الوجه، صاخب الصوت، فاحش اللفظ، مقذع السباب،. فليس له إلا قذيفة تحمل اسمه، و تحطم مشاعره، و ترغم انفهن و تذله و تصغره، ليعرف قدره الضئيل الحقير، و هذه السورة قصيرة الفواصل، سريعة الاقاع، بائية، حيث القلقلة و الزلازلو الاخذ، فيه تلتهبو تضطرب و تتحرك غضب و فتك. (تَبَّتْ) فهي تتمواج من أول كلمة، و هي تعلن اسمه في أول سطر، و تذيع كنيته في أول ملة، ليعرف انه المقصود، و لتيسر هذه السورة من شوارد القوارع الخطابية، التي تبقى ابد الدهر لكل من هذا صنيعه، و لكل من هذا منهجه عبرة لمعتبر، و عظة لمتعظ، و خزي لكل مفتر آثم. (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) مال أبى لهب: زاده إلى النار. مال أبى لهب: سم يتجرعه، علقم يحتسيه، زقوم يلتقمه. مال أبى لهب لا بركة فيه، و لا نفع، لانه أداة للتخريب، و وسيلة للإيذاء، و الصد عن سبيل الله، مال ينصر به الحق،و لا يطعم به المساكين، و لا يقرى به الضيف، و لا يؤيد به الفضيلة. مال جمع لمحاربة الله و لرسوله صلى الله عليه و سلم، مال رصد للمعصية، فلا بارك الله فيه، و لا ثمره، و لا زكاه.




عسى ماله زاد إلى النار حاضر
و مركب خزي للدمار سريع
فما كان إلا البخل و الشح و الخنا
يدبره نذل الطباع رقيع




و ماذا ينفع أبا لهب ماله، فلم يتصدق بصدقة، و لم يصطنع به معروفا، و لم يبن به مكرمة، و لم يشيد به فضيلة. و على هذا فقس كل مال حورب به الإسلام، و كل كسب عورض به الحق، فمصيره: الخسار و التباب و الخزي و العار. ( فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ) . أن المال الحرام لن يدفع عن صاحبه بل هو وقود له في جهنم. (سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ) اسمع جزاءه و جائزته، تأمل مرده و مصيره، انظر نهايته و خاتمته. إنها نار ذات لهب، لانه أبو لهب:




كتبت في رأسه بالسيف ملحمة
من اسمه فغدا يدعى بلا نسب
عرفته بالدم القاني فلو قطرت


دماؤه كتبت هذا أبو لهب





و الله، ليحترقن هذا الفاجر بلظى جهنم تضطرم عليه، تتلظى في جسده، تحرق كيانه، يذوق لظاها، يتقلب فيها، يتمرغ على لهبها و شظاياها. (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) و جاء دور شريكة الحياة، و المشاركة في محاربة الله و رسوله صلى الله عليه و سلم، جاء ذكرها هنا، لانها تميزت بالاذاء، و لم يذكر اسمها و نسبها فيه، مشهورة بحمالة الحطب فقط، انها تعرف فحسب بواضعة الشوك في طريق الرسول صلى الله عليه و سلم. و بؤسا لحمالة الحطب هذا المصير المأساوي. أن حمالة الحطب حاربت و أساءت و خانت. أن حمالة الحطب بذلت جهدها في الإساءة، و استفرغت قواها في الإيذاء. و كل امرأة تحارب الملة، و تستهزي بالدين، و تبغض الشريعة فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تصد عن سبيل الله بفعلها، أو كلامها، أو قلمها أو علمها أو أدبها فهي حمالة الحطب.




حي التي هي أغلى منتهى طلبي يا مضرب المثل الأسمى لدى العرب
هي العفاف و في افيائه نبغت حمالة الورد لا حمالة الحطب





و هنا لم يذكر كنيتها، و ذكر كنية زوجها أبو لهب، لان أبا لهب له مناسبة بنار ذات لهب، و هي ام جميل، و ليس لها من الجمال نصيب، فلم تذكر بام جميل، بل بحمالة الحطب.قال بعض المفسرين: معنى حمالة الحطب، أي: إنها تنقل النميمة، فكل امرأة نمامة مفسدة خائنة، فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تتبرج و تتبهرج، و تخطف أضواء الفتنة و الإغراء، فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تهيم في المسرح، و توزع الرذيلة، و تسلب الألباب، و تدوس القيم فهي حمالة الحطب.و كل امرأة تلغي الستر، و تحارب العفاف، و تهون الفاحشة، و تزرع الرجس فهي حمالة الحطب. و كل امرأة تقيم حفلات الغواية، لتفتن الخليقة، و تضل الجيل، و تفتك المشاعر، و تقتل الفضيلة فهي حمالة الحطب. حمالة الحطب قد تكون ممثلة سائبة فاتنة مغرية، خلعت جلباب التقى، و نزعت حجاب الصيانة، و خرجت عن تعاليم الإسلام. حمالة الحطب قد تكون مغنية مائسة، سافرة تفعل بصورتها في القلوب فعل السحر، و تميل بحركتها و رقصاتها عقول مشاهديها. حمالة الحطب قد تكون شاعرة كفارة بالمبدأ ، خاوية الضمير، عابثة الأخلاق و الأعراف، و قد تكون ممثلة مهرجة سخيفة، عقت بيتها، و عافت دينها، و تبران من شرفها، و هجرت قيمها. أن حمالة الحطب من النساء فعلت بالأمة ما لم تفعله الجيوش الغازية، و القنابل الحارقة، و الصواريخ العابرة. أن حمالة الحطب عرضت في المسرح هكذا كاسية عارية، فاتنة متبرجة متبهرجة، مائلة مميلة، فسلبت قلوب اللاهين، و اذهبت عقول الغافلين، فاضاعوا الصلاة، و اتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، قدمت المراة لحما على وضم، فطاف بها ذئاب الشر، ينظرون و يتلذذون و يعشقون و يذوبون و يهيمون. خدريهم يا كوكب الشرق، اسقيهم بكاس الفتون و الإغراء، عذبي كل مهجة بهيام سال من مقلتيك في الأحشاء. (فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) هذه هي حليتها في النار، هذا ذهبها و فضتها. و المرأة تهتم بالجمال، و تتظاهر بالحسن، و ترصع جيدها بالزاهي من الحلي، و المبهج من الزينة، فكان جزاء هذه المراة المحاربة الكافرة: ان يشد عنقها بحبل من مسد، يلتهب عليها نارا. يا له من طوق رهيب يشتعل نارا، و يقدح شرارا، و يذوب حرارة و انصهارا. هذا النكال ينتظر هذه المرأة الكافرة و مثيلاتها من كل مفلسة من القيم، صادة عن الخير محاربة للملة. أن على كل امرأة تحرص على روعة الحلي، و جمال المظهر، و جسن العرض: أن تتحلى بزينة الإيمان، و حلي العفاف، و لباس التقوى، ليحليها الله باجمل حلة، و ابهى زينة، و ابهج مظهر، و احسن نضرة في جنات النعيم.
حور حرائر ما هممن بريبة كظباء مكة صيدهن حرام
حلى التقى زان الصدور بعفة و يصدهن عن الخنا الإسلام
عد الآن إلى مشهد حمالة الحطب في النار، و انظر لتلك الصورة البائسة القاتمة المزعجة، امرأة تعذب في النار، في عنقها حبل من النار، لا يفارقها تجرجره في النار، و تكتوي بلظاه، و تصطلي بسعاره جزاءا و فاقا لما فعلته بصاحب الرسالة من تربص و اذى و نكاية و ملاحقة. و هذا مصير ينتظر كل من فعلت فعلتها، و سارت مسيرتها في الغي و الضلال و الانحراف و العدوان. و سبب نزول السورة: أن الرسول صلى الله عليه و سلم جمع الناس فلما اجتمعوا قال: (( أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا)) فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا؟ فنزلت السورة. و الله ، لا يتب محمد صلى الله عليه و سلم أبدا، و لا يخسر مطلقا، بل هو المظفر سرمدا، المحفوظ دائما، المحفوف بالعناية، المحوط بالرعاية. لن يخسرن فهو رمز الصدق، علم البر، و تاج الصلاح، وهو الواصل إذا قطعت الرحم، و حافظ العهد إذا نقضت الذمم، و حامل الكل إذا كلت العزائم،و المعين على نوائب الحق اذا ادلهمت الخطوب، و مكسب المعدوم اذا شحت النفوس، و انكمشت الايدي عن البر، فوالله، لا يخزيه الله أبدا. و يا لها من عزة للرسول صلى الله عليه و سلم أن يتولى الله الدفاع عنه، و الذب عن شخصه الكريم. و السورة لم تذكر السبب و التفصيل، و كلام أبى لهب، و ما حدث، و ما صار، بل نزلت كالرعد على راس هذا الرعديد، تذله و تحقره و تصغره، و اول هذه الضربة القاتلة(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) و هكذا مثل البرق الخاطف، او السيل الزاحف، او الصاعقة المدمرة في لمح البصر، وومض العين، و رجفة القلب في بلاغة و إيجاز، و مخافة و قوة، لتشفي كل قلب جرحه هذا الآثم، و ترضي كل نفس آذاها هذا الفتان أبو لهب ما لهذا الكافر المعاند و أمثاله إلا الخطاب الناري، و اللهجة المرعبة، و الرد الحاسم، ليكشف زيفهم، و يظهر عوراتهم و يعرف مكرهم، و هذا الفرق بين الحوار الوديع الهادي، و بين الرد الحاسم الجازم، فالذي يحارب الحق على عمد، و يؤذي الصالحين بقصد، و يناصب الملة العداء بترصد و سابق إصرار، ليس له أن يدغدغ بكلام لين، يتالف بحديث معسول، و يشاجى بقول جميل، بل يمرغ تمريغا، و يمزق تمزيقا، ليبطل كيده، و ينسف فكره، و يعلم حاله. إنما الحزم أن ترى النذل حزما بثبات أمضى من السيف حزما
أن من يأفك في المنهج، و يستهزي بالدين و يستهتر الحق، ليس لك أن تفاوضه بلطيف الجمل، و ندى الحديث، ليس لهذا المارد الا فتح النار على راسه، لتكسر شوكته، و يمرغ انفه، و الا فما فائدة البيان الشافي الكافي، و ما قيامة الفصاحة الناصعة الساطعة، و ما قدر الكلمة الأسرة النافذة إذا لم ينصر بها حق، و يرغم بها كفر، و يزهق بها باطل، نعم هنالك حوار هادي، و موعظة حسنة، و جدال بالتي هي احسن، لكن في موطنة و مكانه و مقامه:


فوضع الندى في موضع السيف في العلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى


أما إذا وصل الحال إلى استكبار و اصرار، و تبجح و تمرد، فليس هنالك الا قوارع كبرق تهامة، و صواعق كسكرات الموت، ليبقى الحق مهاب الجانب، مقدس العتبات، و صون الحرمات محترم الكيان، نعم. لن يزرع الحق في الأرض إلا بدرة من الله حاصدة للباطل. و لن يشاد قصر فضيلة إلا بمعمل من الله يهدم أوكار الرذيلة. و لن يحفظ ميثاق الوحي و دستور الشرع إلا بكلمات خطابية تذهل كل مرضعة عما ارضعت، لتحطم بها انوف المردة، و تكسر بها جماجم الطغاة. أن من يرد شبهة الباطل بكلام متهافت ميتـ يزيد من قوة هذا الباطل و جماحه و هياجه، و لهذا كان البيان سحرا، و اللسان البليغ سلاحا فتاكا، و الكلمة النافذة قذيفة ماحقة، و لمثل هذا يمدح البيان، و تحبذ البلاغة، و يعشق الادب، و تبت يدا ابي لهب.



* * * *
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.26 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]