عرض مشاركة واحدة
  #33  
قديم 05-03-2024, 10:16 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,356
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

صفية الشقيفي


(8) صفة القوم الذين تحداهم القرآن وصفة لغتهم
قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (8)
هذا بعض ما أدى إليه النظر المجرد في استخراج المعنى الذي هو مناط التحدي، ومفصل الإعجاز، وأرجو أن أكون قد بلغت في كشفه مقنعًا ورضى. ولكن بقى ما لا بد منه: أن نستنبط بهذا الأسلوب من النظر المجرد، صفة القوم الذين تحداهم، وصفة لغتهم.
فإذا صح أن (الإعجاز) كائن في رصف القرآن ونظمه وبيانه بلسان عربي مبين، وأن خصائصه مباينة للمعهود من خصائص كل نظم وبيان تطيقه قوى البشر في بيانهم، لم يكن لتحديهم به معنى إلا أن تجتمع لهم وللغتهم صفات بعينها.
أولها: أن اللغة التي نزل بها القرآن معجزًا، قادرة بطبيعتها هي، أن تحتمل هذا القدر الهائل من المفارقة بين كلامين: كلام هو الغاية في البيان فيما تطيقه القوى، وكلام يقطع هذه القوى ببيان ظاهر المباينة له من كل الوجوه.
[مداخل إعجاز القرآن: 164]
ثانيها: أن أهلها قادرون على إدراك هذا الحجاز الفاصل بين الكلامين. وهذا إدراك دال على أنهم قد أتوا من لطف تذوق البيان، ومن العلم بأسراره ووجوهه، قدرًا وافرًا يصح معه أن يتحداهم بهذا القرآن، وأن يطالبهم بالشهادة عند سماعه، أن تاليه عليهم نبي من عند الله مرسل.
ثالثها: أن البيان كان في أنفسهم أجل من أن يخونوا الأمانة فيه، أو يجوروا عن الإنصاف في الحكم عليه. فقد قرعهم وعيرهم وسفه أحلامهم وأديانهم، حتى استخرج أقصى الضراوة في عداوتهم له، وظل مع ذلك يتحداهم، فنهتهم أمانتهم على البيان عن معارضته ومناقضته، وكان أبلغ ما قالوه: (؟؟؟)، ولكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئًا. هذه واحدة. وأخرى أنه لم ينصب لهم حكمًا، بل خلى بينهم وبين الحكم على ما يأتون به معارضين له، ثقة بإنصافهم في الحكم على البيان، فهذه التخلية مرتبة من الإنصاف لا تدانيها مرتبة.
رابعها: أن الذين اقتدروا على مثل هذه اللغة، وأوتوا هذا القدر من تذوق البيان، ومن العلم بأسراه، ومن الأمانة عليه، ومن ترك الجور في الحكم عليه، يوجب العقل أن يكونوا كانوا قد بلغوا في الإعراب عن أنفسهم، بألسنتهم المبينة عنهم، مبلغًا لا يداني.
[مداخل إعجاز القرآن: 165]
وهذه الصفات تفضي بنا إلى التماس ما ينبغي أن تكون عليه صفة كلامهم، إن كان بقى من كلامهم شيء، فالنظر المجرد أيضًا، يوجب أمرين في نعت ما خلفوه:
الأول: أن يكون ما بقي من كلامهم، شاهدًا على بلوغ لغتهم غاية من التمام والكمال والاستواء، حتى لا تعجزها الإبانة عن شيء مما يعتلج في صدر كل مبين منهم.
الثاني: أن تجتمع فيه ضروب مختلفة من البيان لا يجزئ أن تكون دالة على سعة لغتهم وتمامها، بل علي سجاحتها أيضًا، حتى تلين لكل بيان تطيقه ألسنة البشر على اختلاف ألسنتهم.
فهل بقى من كلامهم شيء يستحق أن يكون شاهدًا على هذا ودليلاً...؟ نعم، بقى (الشعر الجاهلي)!
وإذن.؟ ... إذن ينبغي أن نعيد تصور المشكلة وتصويرها. فإن النظر المجرد، والمنطق المتساوق، والتمحيص المتتابع، كل ذلك قد أفضى بنا إلى تجريد معنى (إعجاز القرآن) مما شابه وعلق به، حتى خلص لنا أنه من قبل النظم والبيان، ثم ساقنا الاستدلال إلى تحديد صفة القوم الذين تحداهم وصفة لغتهم، ثم خرج بنا إلى طلب نعت كلامهم، ثم التمسنا الشاهد والدليل على الذي أدانا إليه النظر، فإذا هو ... (الشعر الجاهلي).
[مداخل إعجاز القرآن: 166]
وإذن؛ فالشعر الجاهلي، هو أساس مشكلة (إعجاز القرآن) كما ينبغي أن يواجهها العقل الحديث، وليس أساس هذه المشكلة هو تفسير القرآن على المنهج القديم، كما ظن آخي مالك، وكما يذهب إليه أكثر من بحث أمر إعجاز القرآن على وجه من الوجوه.
ولكن (الشعر الجاهلي) قد صب عليه بلاء كثير، آخرها وأبلغها فسادًا وإفسادًا، ذلك المنهج الذي ابتدعته مرجليوث لينسف الثقة به، فيزعم أنه شعر مشكوك في روايته، وأنه موضوع بعد الإسلام، وهذا المكر الخفي الذي مكره مرجليوث وشيعته وكهنته، والذي ارتكبوا له من السفسطة والغش والكذب ما ارتكبوا، كما شهد بذلك رجل من جنسه، هو آربري؛ كان يطوى تحت أدلته ومناهجه وحججه، إدراكًا لمنزلة الشعر الجاهلي في شأن إعجاز القرآن، لا إدراكًا صحيحًا مستبينًا، بل إدراكًا خفيًا مبهمًا؛ تخالطه ضغينة مستكنة للعرب وللإسلام.
وهذا المستشرق وشيعته وكهنته، كانوا أهون شأنًا من أن يجوزوا كبيرًا بمنهجهم الذي سلكوه، وأدلتهم التي احتطبوها، لما في تشكيكهم من الزيف والخداع. ولكنهم بلغوا ما بلغوا من استضافة مكرهم، وتغلغله في جامعاتنا، وفي العقل الحديث في
[مداخل إعجاز القرآن: 167]
العالم الإسلامي، بوسائل أعانت على نفاذهم، ليست من العلم ولا من النظر الصحيح في شيء، وقد استطاع رجال من أهل العلم، أن يسلكوا إلى إثبات صحة الشعر الجاهلي، مناهج لا شك في صدقها وسلامتها، بلا غش في الاستدلال، وبلا خداع في التطبيق، وبلا مراء في الذي يسلم به صريح العقل وصريح النقل، إلا أنهم لم يملكوا بعد من الوسائل ما يتيح لهم أن يبلغوا بحقهم ما بلغ أولئك بباطلهم.
وقد ابتليت أنا بمحنة (الشعر الجاهلي) عندما ذر قرن الفتنة، أيام كنت طالبًا في الجامعة، ودارت بي الأيام حتى انتهيت إلى ضرب آخر من الاستدلال على صحة (الشعر الجاهلي) لا عن طريق روايته وحسب، بل من طريق أخرى هي ألصق بأمر (إعجاز القرآن)، فإني محصت ما محصت من الشعر الجاهلي، حتى وجدته يحمل هو نفسه في نفسه أدلة صحته وثبوته، إذ تبينت فيه قدرة خارقة على (البيان)، وتكشف لي عن روائع كثيرة لا تحد، وإذا هو علم فريد منصوب، لا في أدب العربية وحدها، بل في آداب الأمم قبل الإسلام وبعد الإسلام. وهذا الانفراد المطلق، ولا سيما انفراده بخصائصه عن كل شعر بعده من شعر العرب أنفسهم، هو وحده دليل كاف على صحته وثبوته.
[مداخل إعجاز القرآن: 168]
ولقد شغلني (إعجاز القرآن) كما شغل العقل الحديث، ولكن شغلني أيضًا هذا (الشعر الجاهلي) وشغلني أصحابه، فأداني طول الاختبار والامتحان والمدارسة إلى هذا المذهب الذي ذهبت إليه، حتى صار عندي دليلاً كافيًا على صحته وثبوته، فأصحابه الذين ذهبوا ودرجوا وتبددت في الثرى أعيانهم، رأيتهم في هذا الشعر أحياء، يغدون ويروحون، رأيت شابهم ينزو به جهله، وشيخهم تدلف به حكمته، وشيخهم تدلف به حكمته، ورأيت راضيهم يستنير وجهه حتى يشرق، وغاضبهم تربد سحنته حتى تظلم، ورأيت الرجل وصديقه. والرجل وصاحبته، والرجل الطريد ليس معه أحد، ورأيت الفارس على جواده، والعادي على رجليه، ورأيت الجماعات في مبداهم ومحضرهم. فسمعت غزل عشاقهم، ودلال فتياتهم، ولاحت لي نيرانهم وهم يصطلون، وسمعت أنين باكيهم وهم للفراق مزمعون، كل ذلك رأيته وسمعته من خلال ألفاظ هذا الشعر، حتى سمعت في لفظ الشعر همس الهامس، وبحة المستكين، وزفرة الواجد، وصرخة الفزع، وحتى مثلوا بشعرهم نصب عيني، كأني لم أفقدهم طرفة عين، ولم أفقد منازلهم ومعاهدهم، ولم تغب عني مذاهبهم في الأرض، وحتى كاشفوني فلم يطووا عني شيئًا مما عاينوه وأبصروا، ولا مما أحسوا ووجدوا،
[مداخل إعجاز القرآن: 169]
ولا مما سمعوا وأدركوا، ولا مما قاسوا وعانوا، ولا خفي عني شيء مما يكون به الحي حيا في هذه الأرض التي بقيت في التاريخ معروفة باسم (جزيرة العرب)) [مداخل إعجاز القرآن: 164-170]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.67 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.25%)]