عرض مشاركة واحدة
  #1252  
قديم 02-12-2013, 06:15 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي رد: موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشو

في إنفاق العفو.. عافية الدنيا، وسعادة الآخرة

بقلم أ.د./ ناصر أحمد سنه
كاتب وأكاديمي من مصر.
علي مدار التاريخ.. شكلت "حركة" رأس المال، وتوزيع فوائض الدخل، والجهد البشري، وأدوات الإنتاج، وصولا لـ "تنمية إقتصادية حقيقية"، و"عدالة إجتماعية" أموراً "شيبت" المعنيين من إقتصاديين وإستراتيجيين وغيرهم. أمورٌ نُـظّـر لها نظريات، وقامت عليها دول وتكتلات، وسببت تقلبات وحروباً وصراعات، فكيف وضع لها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وعمل السلف الصالح حلولاً، وعالج جوانبها في كلمات معدودات، وكثير من التطبيقيات؟.
المتأمل في الواقع المعيش، والنتائج التي آلت إليها "الخطط الاقتصادية المستوردة" لتنمية العالم الإسلامي، تدل دلالات قاطعة علي أن تلك "الخطط" لم يُعد صياغتها وفق معادلة الإنسان/المجتمع المسلم الإيمانية والنفسية، والاجتماعية، والإقتصادية. مما حال دون التفاعل معها، والإستجابته لها. فهي لم تحقق الانسجام بين "الروح الذاتية" للأمة، وخصوصياتها العقدية والثقافية والإجتماعية، وبين ذلك "الهيكل المستورد"، هذا فضلا عن فساد التطبيق ذاته (1).
فتخلف ومعاناة اقتصادية تعيشها معظم مجتمعاتنا الإسلامية، ومبالغة و"إستمراء" في الاعتماد على التمويل/ الاقتراض الخارجي وصولا للوقوع في "شَرك" الديون، التي تمتص "خدمتها/ فوائدها" جل ما تحقق من مكتسبات. ثم العجز عن سدادها، فباتت التنمية مطلوبة، لا لرفع مستوى المعيشة وإنما للتمكن من "خدمة" تلك الديون. وهناك سياسات الخصخصة، وأنماط "الإحتكار، والإستغلال"، وشيوع "الغش والتدليس والفساد والإفساد"، و"تزاوج" الثروة بالسلطة، وظهور فوارق متعاظمة (مُهددة للنسيج الإجتماعي) في مستويات الدخول، وإضمحلال وإختفاء "الطبقة الوسطي"، وتنامي القطاعات الفقيرة "المُهمشة" التي تحتاج لمستوى الكفاف وليس الكفاية. كفاية و"تنمية حقيقية" لن تتحقق ذلك إلا وفق خصوصياتنا وقيمنا في "التكافل الاجتماعي" التي يحض عليها الإسلام..قرآنا وسنة. فكيف يتأتي ذلك من خلال مبدأ "إنفاق العفو" ذلك المبدأ الإسلامي الأصيل، بل المبهر والعجيب في آن معاً؟.
يقول الله تعالي:"..وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ"(البقرة:219). ويقول جل شأنه: "خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ"(الأعراف:199). "العفو" كلمة قرآنية، وردت في كتاب الله تعالى في الموضعين السابقين. وهي (لغةً): مازاد علي الحاجة من المال ونحوه، أما (العافية): فهي الصحة التامة(2).
ولقد أفاض المفسرون – رحمهم الله تعالي– في مفهوم "العفو" الوارد في هاتين الآيتين؛ فقال "الفخر الرازي" في تفسير الأولى: "وَيَسْئَلُوْنَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ، قُلِ الْعَفْوَ"، قال: اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف (يقصد قول الله تعالي: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ"(البقرة:215). وأعيد هنا فأجيب عنه بذكر الكمية. وكأن الناس لما رأوا الله ورسوله يحضّان على الإنفاق، ويدلان على عظيم ثوابه، سألوا عن مقدار ما كلّفوا به، هل هو كل المال أو بعضه؟ فأعلمهم الله أن "العفو" مقبول. ويضيف "الفخر الرازي":قال الواحدي رحمه الله: أصل العفو الزيادة، قال تعالى:"خُذِ الْعَفْوَ" (الأعراف:199) أي الزيادة، وقال أيضًا: "حَتَّىٰ عَفَواْ" (الأعراف:95) أي زادوا على ما كانوا عليه في العدد، قال القفال: "العفو" ما سهل، وتيسر، مما يكون فاضلاً عن الكفاية. وإذا كان "العفو" هو التيسير؛ فالغالب إنما يكون فيما يفضل عن حاجات الإنسان في نفسه وعياله، ومن تلزمه مؤنتهم (3).
ولقد بين الله تعالي في آية سورة الأعراف: ما هو المنهج القويم في معاملة الناس؛ فقال: "خذ العفو وأْمر بالعرف". قال أهل اللغة: العفو، الفضل وما أتى من غير كلفة. فالحقوق التي تستوفى من الناس وتؤخذ منهم، إما أن يجوز إدخال المساهلة والمسامحة فيها، وإما أن لايجوز. فالقسم الأول فهو المراد بقوله: "خذ العفو"، ويدخل فيه ترك التشدد في كل ما يتعلق بالحقوق المالية، ويدخل فيه أيضًا التخلق مع الناس بالخلق الطيّب، وترك الغلظة والفظاظة. أما الثاني: وهو الذي لايجوز دخول المساهلة والمسامحة فيه؛ فالحكم فيه أن يأمر بالعرف. وللمفسرين طريق آخر في تفسير هذه الآية فقالوا: "خذ العفو"، أي: ما عفا لك من أموالهم، أي ما أتوك به عفوًا فخذه، ولا تسأل عما وراء ذلك.. ثم قال: اعلم أن تخصيص قوله: "خذ العفو" بما ذكر، تقييد للمطلق من غير دليل"(4).
إذن "العفو" مقدار وكم من الإِمكانيَّات، وبيان لما كلف الله عباده إنفاقه في سبيل الله، بعد أن تساءلوا: أكل المال يجب عليهم إنفاقه أم بعضه؟، وأن "العفو" الوارد في آية سورة البقرة هو الخاص بهذا التكليف، أما "العفو" الوارد في آية سورة الأعراف فيشمل المال، وغير المال كالأخلاق.
وقال "القرطبي": العفو ما سهل، وتيسر، وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه. فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم؛ فتكونوا عالةً. هذا أول ما قيل في تفسير الآية، وهو قول الحسن، وقتادة، وعطاء، والسدي، والقرظي محمد بن كعب، وابن أبي ليلى وغيرهم، قالوا: العفو: ما فضل عن العيال، ونحوه، عن ابن عباس(5).
وقال "الشوكاني": العفو ما سهل، وتيسر، ولم يشق على القلب، والمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تجهدوا فيه أنفسكم (6). وقال "الطاهر بن عاشور": "العفو مصدر عفا يعفو، إذا زاد ونما، وهو هنا ما زاد على حاجة المرء من المال، وما فضل بعد نفقته، ونفقة عياله بمعتاد أمثاله(7).
وجاء في تفسير "المنار": ما ورد يدل على أن المراد: أي جزء من أموالهم ينفقون، وأي جزء منها يمسكون؛ ليكونوا ممتثلين لقوله تعالى: "وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ الله" (البقرة:195)، ومتحققين بقوله تعالى: "وَمِمَّا رَزَقْنَـٰـهُمْ يُنفِقُونَ" (البقرة:3)، وما في معنى ذلك من الآيات التي تنطق بأن الإِنفاق في سبيل الله من علامات الإيمان وشعبه اللازمة له، والتي تـُشعر أن على المؤمن أن ينفق كل ما يملك في سبيل الله، وقد اقتضت الحكمة بهذا الإِطلاق في أول الإسلام. وبعد استقرار الإِسلام، توجهت النفوس إلى تقييد تلك الإِطلاقات في الإِنفاق فسألوا: ماذا ينفقون؟ فأجيبوا بأن ينفقوا "العفو"، وهو الفضل والزيادة عن الحاجة. وعليه الأكثر، وقال بعضهم؛ إن العفو نقيض الجهد، أي: ينفقوا ما سهل عليهم، وتيسر لهم، مما يكون فاضلاً عن حاجتهم وحاجة من يعولون(8). وقال ابن عطية: العفو هو ما ينفقه المرء دون أن يجهد نفسه وماله، وهو مأخوذ من عفا الشيء إذا كثر؛ فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم؛ فتكونوا عالة(9). وقال صاحب الظلال، رحمه الله: العفو الفضل والزيادة؛ فكل ما زاد على النفقة الشخصية – في غير سرف ولا مخيلة – فهو محل للإنفاق(10)
ويقول "عمر عبيد حسنه": (أسس الإسلام أمر العملية التنموية، والتكافل الاجتماعي وفق عدة مبادئ منها: العفو: وهو المسامحة، والتجاوز النفسي والمادي، مع الآخر، مع القدرة على تحصيل الحق منه، قال تعالى: "وأن تعفوا أقرب للتقوى" [البقرة:237]، والعدل: وهو أن تعطي الناس كامل حقوقهم، ولا تظلمهم، قال تعالى:" ولا يجْرمَنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" [المائدة:8]، والإحسان: وهو عدم الاقتصار على إعطاء الناس حقوقهم، بل الإحسان إليهم في التعامل، والتنازل لهم عن بعض حقك، وهو مرحلة فوق العدل، قال تعالى: "وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين" [البقرة:195]، والتَّقوى، وخلاصتها: أن لا يفتقدك الله حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك. وهذا الالتزام يحقق الوقاية من السقوط في المعاصي الفكرية، والأثرة النفسية والمالية. والتقوى هي خير الزاد، وجماع الأمر كله، والعلامة المميزة للمجتمع الإسلامي المتكافل..مجتمع المتقين(11)، قال تعالى:"وتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى. واتّقون يا أولي الألباب" [البقرة:197]، وقال جل شأنه: "قُل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث. فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تُفلحون" [المائدة:100]).
فتلك الأقوال ـ قديمها وحديثها ـ تتفق في الجملة على أن المقصود من "العفو" الوارد في قوله تعالى: "يسألونك ماذا ينفقون قل: العفو"، هو الزيادة عن الحاجات، وأنه كله محل للإِنفاق.
"العفو" و"الفضل"
وفي السنة المطهرة، نجد لفظة "الفضل"، قد جاءت شارحة لكلمة "العفو" الواردة في القرآن الكريم، وذلك في الكثير من الأحاديث الصحيحة، والتي منها قول النبي صلي الله عليه وسلم: "يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خيرٌ لك، وإن تُمسكه شرٌ لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى"(12). ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه – قال: بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، قال: فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالاً؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان معه فضل ظهر؛ فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد؛ فليعد به على من لا زاد له". فذكر من أصناف المال ما ذكر؛ حتى رأينا أنه لاحق لأحد منا في فضل (13).
فالفضل الوارد في الأحاديث السابقة، هو "العفو" الوارد في القرآن الكريم، وهو محل للإِنفاق، حتى ليقول الصحابي الجليل: "رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل". فالعفو هو مازاد عن الحاجة، وكذلك الفضل.
هل يتمايز مفهوم "العفو/الفضل" عن "الفائض الاقتصادي" في الفكر الإنمائي المعاصر؟
الفائض الاقتصادي – كما يعرفه الفكر الإِنمائي المعاصر– ويمكن تقسيمه إلى فائض محتمل، أو مخطط، أو فعلي، يعني: ما يتبقى من الدخل، بعد سدّ الحاجات. وهو بهذا المعنى يتفق إجمالا من حيث تكوينه المادي، مع "العفو" من المال. لكن تبقى فكرة "العفو" ذات "شمولية" أكبر، لأنها تشمل إلى جوار "الفائض من الدخل"، "الفائض من الجهد البشري" أيضاً ولعل هذا الأخير ـ لدى معظم مجتمعاتنا الإسلاميةـ أكثر أهميةً من الأول. وفي شمولية مفهوم "العفو" عن مفهوم "الفائض الاقتصادي"، يجعل "إدارة العفو" وتوجيهه، تختلف عن إدارة وتوجيه الفائض الاقتصادي، ومن ثم فإن النظريات الاقتصادية عن توجيه الفائض الاقتصادي، ذات فائدة محدودة عند وضع السياسات الخاصة باستخدام "العفو" في تمويل التنمية وتحقيق التقدم (14).
"العفو/ الفضل"، غير مقصور علي مازاد من المال
إن مفهوم "العفو/الفضل"، غير مقصور علي مازاد من المال؛ فالآية لم تقيد "العفو" بالفائض من المال، وإن كان المفَسِّرون قد وقفوا "بالعفو" عند الفائض منه. وقد أمرت السنة المطهرة بإنفاق "العفو" من الجهد والإمكانيات البشرية، إذ أن علة تقرير إنفاق "العفو" من المال هي وجوده فائضًا عن حاجة الشخص؛ فإذا وجد فائض من الجهد البشري لدى شخص؛ فإن حكم الفائض من المال ينسحب عليه؛ فالسنة المطهرة قد أغنت عن القياس طريقًا لإثبات التكليف بإنفاق "العفو" من الجهد البشري.
فالتكليف بإنفاق "العفو/الفضل" وارد على كل من المال والجهد البشري؛ بل لعل دور "العفو" من الجهد البشري في بناء المجتمع، تمويل تنميته، أكبر من دور "العفو" في المال، وبخاصة في المجتمعات التي تمتلك قدرًا كبيرًا من العمل، وقليلاً من المال (لعل أكثر مناطق العالم الإسلامي اليوم هي من هذا الصنف). فتمويل التنمية في مثل هذه البلاد، يمكن تحقيقه بصورة أيسر إذا هي ركزت على "العفو" من الجهد البشري – الذي يملكه معظم الناس في المجتمع – ثم عضدته بـ "العفو" من المال.
لقد ظن بعض الصحابة أن "العفو" هو العفو المالي، فغبطوا الأغنياء، ورأوا أن إمكانياتهم المالية، تمكنهم من السبق إلى الخير، والتقدم على الفقراء، فقالوا: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور. لكنه صلى الله عليه وسلم ، صحح لهم هذا الفهم، وبين لهم المدى الواسع لـ "العفو"، وأنه موجود لدى كل إنسان بقدر ما، وأن كل مسلم، يستطيع أن يفعل الخير، وينافس أصحاب المال في السبق، باستخدام ما لديه من إمكانيات، تجعله محل رضوان الله تعالى، فالخير ليست وسيلته المال فقط، بل كل نفع للناس، أيا كانت أداته، فهو من عمل الخير، وقال لهم: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة "(15). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع في الشمس: تعدل بين الإثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة "(16).
العفو من الجهد البشري
- المسلم مكلف بأن يبذل من فائض جهده، ومنافع بدنه، في إعانة إخوانه، وإصلاح مجتمعه، كما يجب عليه أن يبذل في هذا السبيل جانباً من فائض ماله سواء بسواء. فالأعمال الخاصة التي يمارسها الناس في حياتهم لا تستغرق - في الغالب – كل أوقاتهم، ولا تستنفد كل طاقاتهم، وإنما يبقى بعد أدائها كثير من الوقت والطاقة. والمسلم مسؤول "إنفاق/ استثمار" وقته وطاقته تلك، وفقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه "(17).
- إن الطاقات الفائضة من جهد الإنسان، مطلوب استخدامها، وغير مباح تعطيلها أو تبديدها، ولا يعفي مالكها من مسؤوليته، قيامه بعمله الخاص على أكمل وجه. بل هو مكلف بالبحث عن ميدان نافع ينفق فيه "العفو/ الفضل" من جهده ووقته. وهذا قد يتمثل في إعانة مادية للناس: "تعين صانعاً أو تصنع لأخرق"(18)، "تعين الرجل في دابته "(19). وقد يكون في تيسير الحياة العامة للناس: "تميط الأذى عن الطريق صدقة "(20)، "عَزل حجراً عن طريق الناس، أو شوكة أو عظماً عن طريق الناس"(21). وقد يتمثل في السعي مع إخوانه في قضاء حوائجهم، أو انخراطاً مع فئات ترعى شؤون فئات خاصة من الناس(فئات لمحو الأمية، أو استصلاح الأراضي الزراعية، أو تنمية الثروة الحيوانية الخ): "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته "(22)، "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" (23)، "من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا" (24)، "من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة"(25). وقد يكون هذا الميدان دفاعاً عن حقوق الإنسان، بالسعي في رفع الظلم والدفاع عن المظلومين: "أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر "(26). كما قد يكون تذكيراً بالله تعالى، ودعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، تبصيراً للناس، وإرشاداً لهم إلى ما يصلح آخرتهم ودنياهم، وقد يكون سعيًا لإثراء حياة الناس بقيم الحب والود والأخوة، وإصلاح ذات البين، وإطفاء ما يثور من نزاع بين الأفراد والجماعات: "تعدل بين الإثنين صدقة "(27)، أي تصلح بينهما بالعدل.
- قد يكون ميدان إنفاق العفو من الجهد البشري، عملاً اقتصادياً، يعود عليه بنفع مادي، كما يعود على المجتمع بسد حاجة من حاجاته، وفي الوقت نفسه، يعود على الشخص بالثواب الأخروي. ذلك أن الإسلام، يجعل كل عمل مباح، يمارس بنية صالحة، عبادة لها ثوابها في الآخرة، فوق مكاسبها المادية في الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلم يغرس غرساً إلا كان ما أُكل منه له صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزأه أحد إلا كان له صدقة "(28)، ويقول: "فلا يغرس المسلم غرساً فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة "(29)، يقول: "لا يغرس مسلم غرساً ولا يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء، إلا كانت له صدقة "(30). فإنتاج الطيّبات في المجتمع الإسلامي هدف، وكل طرق استخدامها بعد إنتاجها، تعود على منتجها بثواب، حتى ما يأكله منها هو. وليس فوق ذلك حث على بذل الجهد في ممارسة الإنتاج، وتوجيه "العفو" من الجهد البشري إلى إثراء الحياة، وعافيتها.
- بقدر ما توجد وسائل وأساليب لنفع النفس والمجتمع.. توجد ميادين وسبل إنفاق "العفو" من الجهد البشري، بلا حصر. والمجتمع بحاجة لكل صاحب مقدرة/ طاقة عضلية أو فكرية أو روحية الخ، وإلى مداومة تشغيلها، وصيانتها وعدم تبديدها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما رؤى فارغاً في أهله قط، إما يخصف نعله، أو يخيط ثوبه، أو ثوباً لمسكين". وسئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها - ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" (31). أما حياته صلي الله عليه وسلم بين الناس، فقد كانت كلها تربية، وتعليماً، وجهاداً، وتشريعاً، وعبادةً لله تعالى في جميع الحالات. قد علّم المسلم أن لا ينسى - وهو في غمرة العطاء الدائم - لبدنه حقه في الراحة التي تجدد نشاطه، ولا ينسى لأهله حقهم في الرعاية والعناية، ولا ينسى لزوره حقهم في الاهتمام بهم، فقد قال سلمان - رضي الله عنه - لأبي الدرداء - رضي الله عنه - وقد رآه قد شغل كل وقته بالطاعات: "إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر لك له، فقال: "صدق سلمان "(32). وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم أخبر أنك تصوم النهار، وتقوم الليل؟ قلت بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقاًّ، وإن لزوجك عليك حقًّا (33)".
- ولما كان المسلم مطالبًا بإتقان العقل، فإن الإتقان هنا يتمثل في اللجوء إلى المنظمات التي تستطيع أن تجمع هذه الطاقات بما يجعلها أكثر إنتاجية، ومن ثم فإن توجيه الطاقات البشرية الفائضة "العفو"، يحتاج إلى إقامة تنظيمات شعبية تتولى القيام بعمل من الأعمال التي تمثل فروض الكفاية في المجتمع الإسلامي، وينضوي تحت لوائها كل من يريد ـ طبقاً لإمكانياته وخبراته ـ أن يعبد الله تعالى بالعمل الذي تتخصصت فيه هذه المنظمة، ونوع "العفو/الفضل" من الجهد الإنساني. فمثلاً: منظمة إعانة الصناع وتدريبهم، ورفع مستواهم الفني، و"إعادة تأهليهم": "تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق"(34)، ومنظمة للعناية بالطرق وتنظيمها ونظافتها، وحماية البيئة، "تميط الأذى عن الطريق صدقة "(35)، ومنظمة لحماية القيم: "أمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة "(36)، ومنظمة لرعاية أسر المجاهدين:"من خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا"(37)، ومنظمة لرعاية اللاجئين والمشردين وإغاثتهم: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته "(38)، "والمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه "(39)، ومنظمة لرعاية الطفولة وكفالة الأيتام: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما "(40)، ومنظمة لرعاية المرضى والمسنين والمعاقين: "ابغوني في ضعفائكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم "(41)، ومنظمات للبحث العلمي، وتطبيقاته المختلفة: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار "(42)، ويقول: "من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة "(43)، ويقول:"من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله "(44)، ومنظمات للدفاع عن حقوق الإنسان، وصيانة كرامته، وضمان تمتعه بالحقوق والحريات التي قررتها الشريعة لكل مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطِرنّه على الحق أطرًا، ولتقصرنّه على الحق قصراً، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض "(45)، وعن أبي بكر الصديق رضوان الله تعالى عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه "(46)، ومنظمات للإصلاح بين الناس، "إنَّما المؤمنون إخوةٌ فأصلحوا بين أخويكم )) [الحجرات:10]، ومنظمات للدعوة إلى الله تعالى: "قُل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" [يوسف:108]، ومنظمة للرفق بالحيوان والإحسان إليه "قالوا يا رسول الله: إن لنا في البهائم أجراً، فقال: في كل كبد رطبة أجر"(47).. إلى غير ذلك من المنظمات والهيئات التي يقيمها أفراد الأمة كي يتقنوا من خلالها أداء فروض الكفاية، والتي إن لم تؤد، أَثِم كل قادر على القيام بها، وكل قادر على الدعوة إليها، والإسهام فيها، ما لم يبذل جهده في هذا السبيل.
- جاء في تفسير "المنار" تعليقاً على تفسير قول الله تعالى:"ويسألونك ماذا يُنفِقون؟ قل : العَفْو؟" [البقرة:219] "قال علماؤنا: إن جميع الفنون والصناعات، التي يحتاج إليها الناس في معايشهم، من الفروض الدينية. وإذا أهملت الأمة شيئاً منها، فلم يقم به من أفرادها من يكفيها أمر الحاجة إليه، كانت عاصية لله تعالى، مخالفة لدينه، إلا من كان عاجزاً عن دفع ضرر الحاجة، وعن الأمر به للقادر عليه، فأولئك هم المعذورون بالتقصير. وعلى هذا قام صرح مجد الإسلام عدة قرون، كان المسلمون كلما عرض لهم شيء، بسبب التوسع في العمران، يتوقف عليه حفظه، وتعميم دعوته النافعة، قاموا به حق القيام، وعدوا القيام من الدين، عملاً بمثل هذه الآية، وغيرها من الآيات، ومضوا على ذلك قروناً، كانوا فيها أبسط الأمم وأعلاها حضارة وعمراناً"(48).
إن صرح مجد الإسلام - بتعبير صاحب المنار - يمكن إقامته من جديد، من خلال انفعال النقابات بهذا التكليف، ووفائها به، حتى لا تبقى حاجة من الحاجات، أو صناعة من الصناعات، تحتاجها إقامة هذا الصرح، إلا وجد من أبناء الإسلام، من يتقدم للوفاء بها. وإن بعث هذه الروح في النقابات المهنية، لكفيل بجعلها الصورة الحديثة لأنظمة التعاون الإسلامية، للقيام بفروض الكفاية، كل في الميدان الذي يجيده، وبهذا تتحقق مصالح أعضاء النقابة، من خلال تحقق مصالح المجتمع. ومن أهم مصالح الأعضاء، خروجهم من التبعة الملقاة على عاتقهم، بوفائهم بما فرض الله عليهم، فيملكون الحجة، عندما يسألون عن عمرهم فيم أفنوه، وذلك إضافة إلى المصالح الآنية، التي تتحقق لهم كأعضاء في هذه النقابة من ناحية، وكأعضاء في مجتمع يبذل كل أعضائه، كل جهودهم، من أجل إقامة الحياة الطيبة، التي يحياها الجميع.

يتبـــــــــــــــــــــع

 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.14 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]