عرض مشاركة واحدة
  #33  
قديم 09-03-2024, 07:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,015
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأربعــون الوقفيــة

الأربعون الوقفية (33)



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقلا، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، ورتبت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وأصوله، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاماً وفوائد جمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف، والهيئات والمؤسسات المكلفة برعاية الأصول الوقفية ونمائها.
أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.



الحديث الثالث والثلاثون:
الوقف خيرٌ للحي والميت
قال زيد بن ثابت رضي الله عنه : « لم نر خيراً للميت ولا للحي من هذه الحُبُس الموقوفة، أما الميت فيجري أجرها عليه، وأما الحي فتحتبس عليه، ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها(1)».
الوقف الإسلامي تشريع رباني، جمع بين الرحمة والنعمة، فمقاصده عظيمة، ومنافعه وفيرة، ومجالاته متعددة، وحاجاته متجددة، يحقق للعباد المنافع الدنيوية والأخروية، فهو سبيل من سبل السعادة في الدنيا والآخرة، ترفع فيه الدرجات، وتكفّر فيه السيئات ويدوم معه الأجر بعد الممات.
وقد حبس زيد بن ثابت (2) رضي الله عنه داره التي في البقيع وداره التي عند المسجد(3). وروي عنه أنه قال: «لم نر خيرا للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة، أما الميت فيجري أجرها عليه وأما الحي فتحبس عليه ولا توهب ولا تورث ولا يقدر على استهلاكها». وأضاف الخصاف: «وإن زيد بن ثابت جعل صدقته التي وقفها على سنة صدقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتب كتابا على كتابه(4)»(5).
لقد جعل الإسلام من الوقف بلسما شافيا لقضاء مصالح البشر في الدنيا والآخرة، وهو من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، ومن أهم السبل التي يحقق بها سعادته في الدنيا، والأجر في الآخرة، ويطمئن لمستقبل ذريته الأحياء في الدنيا، ولاسيما الضعفاء منهم بعد موته وانتقاله إلى الدار الآخرة، وزاد من اهتمام المسلمين بالوقف أثره الدائم، وأجره المتواصل.
وشُرع الوقف لحكم عظيمة، ففيه منافع للعباد والبلاد، تنمو بوجوده وحسن رعايته وإدارته المجتمعات، وتحفظ بمؤسساته كرامة الأمة وعزها، وترتقي في العلم والتعليم، وفيه إعانة الأرملة والمسكين، المجاهد والقاعد، الصغير والكبير، الصحيح والمريض، كلٌ بما يحتاجه، وقد انتشرت الأوقاف بين المسلمين خير انتشار، الغني منهم ومتوسط الدخل والحال، بل محدود الدخل، فمنهم من أوقف عقاراً، ومنهم من أوقف مصحفاً أو كتاباً، ومنهم من أوقف نخلةً، بل منهم من أوقف قدراً للطبخ، وقد أوقف الصحابة رضي الله عنهم امتثالاً لأمر الله تعالى العام بالصدقة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وحثه على الوقف.
فالوقف نظام يُصلح لكل زمان ومكان، والمصلحة تقتضيه؛ لما فيه من منفعة للواقف باستمرار وصول الثواب إليه، ومن المنفعة للوقوف عليه بانتفاعه بالموقوف، مع حفظه وعدم تمكينه من استهلاكه.
وقد أدركت الأمم غير الإسلامية ما في الوقف من مزايا قيمة، وأغراض سامية ، فعني كثير منها بوضع نصوص في قوانينه، لتنظيم نوع من التصرف يشبه الوقف في معناه، وأغراضه، وآثاره عندنا(6).
ومن خلال التشريع الرباني، والامتثال لهذا التشريع، وثق التاريخ منذ القرن الأول وإلى أيامنا التي نعيشها أوقافا شهد لها القريب والبعيد، وقد أولى فقهاء الأمة ومحدثوهم العمل الوقفي اهتماماً واضحاً، فبوبوا له الأبواب وقعدوا له القواعد، وبحثوا في مسائله ومستجداته، فأصلوه تأصيلاً شرعياً، وحددوا له الشروط والضوابط والمقاصد والغايات، وطرق إحيائه في النفوس، وفنون رعايته وحسن إدارته.
فالوقف ضمان لاستمرار عطاء المؤسسات التطوعية والخيرية، هذا ما أثبته التاريخ والواقع في عهود الخلافة الإسلامية، فالأوقاف هي الحجر الأساس الذي قامت عليه الكثير من المؤسسات الخيرية في ديار المسلمين، فمن أجل نجاح واستمرار مشروع خيري كانوا يقيمون له الوقف لينفق عليه من إيراده، ولا يكتفون بإنشاء المشاريع دون التفكير في مستقبلها وضمان استمرار تشغيلها؛ لذلك كانت هذه المؤسسات تقوم بدورها في المجتمع بغض النظر عما يحصل لها من طوارئ الزمان أو لانصراف الاهتمام عن المشروع إلى غيره.
فوائد من الحديث:
وفيه أن الوقف حفظ للمال، وضمان للبقاء، ودوام الانتفاع.
وفيه من الخير الكثير، فهو امتثال لأمر الله تعالى في الإنفاق والتصدق والبذل في سبيل الله ومنفعة الآخرين، وامتثال لأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حثه وتوجيهه للصدقة والوقف.
وفيه أن الوقف ثوابه للحي وللميت، وأنه من العمل الذي لا ينقطع، في أجره وفي نفعه للموقوف عليه، في زمنه وزمن غيره، فأوقاف الصحابة استمر نفعها لمئات السنين وبعض منها ما زال نفعها إلى الآن، كبئر عثمان رضي الله عنه – بئر رومة- ووقف سعد بن عبادة بستانه كصدقة لأمه التي توفيت وهو غائب عنها.
وفيه أن الوقف سبيل للذكر الحسن، والدعاء والثناء لواقفه على ألسنة الناس، والأهم من ذلك استمرارية وصول الثواب والأجر للواقف ما دام الوقف قائماً يستفيد منه العباد، فالثواب مستمر بديمومة الوقف.
وفيه أن الوقف إن كان للذرية خاصة، فهو حماية للمال ومحافظة عليه من إسراف الأبناء، وسفاهة عقولهم، فيبقى المال، وتستمر الاستفادة من ريعه لأبنائه، ويدوم جريان أجره للواقف، وفيه أن الوقف بر للرحم والأقارب لتدوم الصلة، وتتآلف القلوب، وتنزع الضغينة من القلوب، وهذا ما يحقق الترابط بين الأبناء والأقارب والأسر.
والوقف فيه تحقيق التكامل والتآلف بين المسلمين، والتكافل الخاص في نطاق الأسرة، والوقف لا تقتصر منفعته على الفقراء وحدهم، وإنما يمتد نفعه ليشمل كثيراً من المجالات التي تخدم البشرية.
وقد استمر عمل الأمة الإسلامية في وقف الأوقاف من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم جيلاً بعد جيل، واستمرار الوقف مطلب يبتغيه الواقف؛ لأن مقصده دوام وصول الثواب إليه والواقف محتاج إلى دوام وقفه ليدوم معه وصول الثواب إليه.
وقد كانت الأوقاف أداة رئيسة للنمو الاقتصادي والتوازن الاجتماعي، ومن كثرة الأوقاف على المدارس والكتاتيب والمؤسسات العلمية التي كانت بمنزلة الجامعات في عهدنا الحالي، أدى ذلك إلى عدم ظهور ديوان للتعليم في الدولة الإسلامية قديماً، بينما ظهرت دواوين أخرى، كديوان للخدمة وديوان للقضاء وديوان للحسبة وديوان للمظالم، وتلك ميزة حفظت للتعليم حريته ونماءه.
وقد حقق الوقف الإسلامي للعمل التطوعي في العهود الإسلامية أدواراً متعددة، نذكر منها :
توفير الأمن الغذائي، وتحقيق الحاجيات الأساسية.
توزيع الثروة وتقليل الفجوة بين طبقات المجتمع.
توفير التعليم المجاني للفقراء من خلال المدارس والجامعات.
توفير الأمن الصحي للفقراء والمحتاجين من خلال المستشفيات (بيمارستان).
رعاية الأيتام وكفالتهم وتربيتهم من خلال الوقف الخاص بهم، أو الوقف العام للفقراء والمحتاجين.
توفير عدد من الوظائف من خلال النظار والموظفين والمشرفين ونحوهم في المؤسسات الوقفية والمساجد، ونحوها.
المساهمة في تطوير العمل الخيري في المجتمع الإسلامي من خلال العمل المؤسسي للجمعيات والمؤسسات الوقفية.
المساهمة في عملية التنمية الاقتصادية، وزيادة عوامل الإنتاج كمّاً ونوعاً، واستيعاب التقنية الحديثة، وزيادة الموارد من خلال الاستثمار.
فتاريخ الوقف مليء بأعاجيب ومشاريع تثير الفخر في النفوس، حتى في عهد ازدهار الدولة الإسلامية وفي فترات رخائها وغنائها، تكفلت الأوقاف بمعظم أعباء التعليم الأساسي والجامعي والشؤون الصحية والبنية الأساسية، وصرفت على متطلبات الأمن والدفاع، وساهمت في تنمية التعليم والدراسة منذ مرحلة الطفولة حتى المراحل الدراسية العليا المتخصصة.
فالوقف الإسلامي بمؤسساته وإيراداته يعد من أعظم روافد العمل الخيري، فكانت قطاعاته هي المحضن للطاقات البشرية الراغبة في العمل الخيري والتطوعي.
الهوامش:
1 - ذكره الخصاف في أحكام الأوقاف، فيما رُوي في صدقة زيد بن ثابت رضي الله عنه، ص 12. وفي كتاب الإسعاف في أحكام الأوقاف إبراهيم الطرابلسي ص9.
2 - هو: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري الخزرجي، أبو خارجة (11ق هـ-45هـ) صحابي، كان من كتاب الوحي الوحي، وكان أحد الذين جمعوا القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار وعرضه عليه، وهو الذي كتبه في المصحف لأبي بكر ثم لعثمان رضي الله عنهما: انظر الإصابة 1/561، وغاية النهاية 1/296.
3 - انظر السنن الكبرى للبيهقي كتاب الوقف، باب الصدقات المحرمات (6/161 ).
4 - انظر كتاب عمر رضي الله عنه في شرح حديث رقم : 4، في «الأربعون الوقفية».
5 - أحكام الأوقاف، للخصاف، ص 12.
6 - كتاب الوقف للشيخ عبد الجليل عبد الرحمن ، اعتنى بإخراجه د.عبد الله مزى ، المكتبة الملكية ، ط1 / 1430هـ/ 2009م بمكة المكرمة ص 43.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.25 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.62 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.70%)]