عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 20-11-2014, 02:44 PM
الصورة الرمزية أبو الشيماء
أبو الشيماء أبو الشيماء غير متصل
مراقب الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Jul 2008
مكان الإقامة: أينما شاء الله
الجنس :
المشاركات: 6,415
الدولة : Morocco
73 73 اقرؤوا التاريخ إذ فيه العِبَرْ

اقرؤوا التاريخ
عمر سالم محمد باوزير

في إحدى ليالي الشتاء القارس جلستُ في المقهى أنا وصديقي عكرمة، نُقلِّب صفحات مطويَّة من التاريخ، عفا عليها الزمن، فساق عكرمة حديثًا ذا شجون، أحببتُ هنا أن أنقُله لكم، فهيا معًا نخوض غمار الكلمات.
في منتصف القرن الخامس الهجري وفي ساحة قصر المعتمد بن عباد أحد ملوك الأندلس أشرفتْ زوجة الأمير من على شُرْفة القصر وهي تُراقِب الغادي والرائح، فانفَلَق وجهها بابتسامة مُشرِقة علتْ مُحيَّاها عندما رأتْ بعضًا من الجواري حافيات الأقدام، وهن يطأن بأقدامهن الوْحَلَ وعلى رؤوسهن القِرَب، فأخذن هؤلاء الجواري بلُبِّها، وتمنَّت أن لو كانت واحدة منهن!.
وبالفعل أسرعت الخطى عائدة إلى غرفة زوجها، وعرضتْ عليه ما أرادت، فحار الزوج في أمرها، ولم يَدْرِ ما يفعل، فأنَّى للقمر في عليائه أن يُلامِس وجه الأرض! ولكن مع إصرار تلك الزوجة المدلَّلة رضَخ لها، فأمر بأن تُفرَش ساحة القصر بالمسك والكافور والعنبر وماء الورد؛ لكي تطأ أقدامُ الأميرة عليها، وبالفعل وطئت تلك الأقدام الناعمة وهي حافية، فكان ذلك اليوم مَضرِب المَثَل.
تَمُر الأيام تترى والأمير وأسرته يتقلَّبون بين أعطاف النعيم والعيش الرغيد في مملكتهم العتيدة، وفجأة أحسَّ الملك بخطر داهم يُهدِّد البلاد برُمَّتها؛ فها هي الحرب قد بدت تُكشِّر عن أنيابها، وهي مُتَّجِهة نحوهم، فانتشر الذُّعر في القلوب، وامتلأ قلب الأمير بحزن مُتراكِم بعضه فوق بعض، ولكن كانت النتيجة واحدة لا مفرَّ منها، وهي الخوض في حرب ضروس ضد هذا العدو الداهم، فها هي الحرب قد نفثت سمَّها الزعاف، لتملأ القلوب رعبًا وخوفًا، فوقف الأمير بين خيارينِ، أحلاهما مرٌّ، وهما: إما أن يَستعين بالنصارى، وإما أن يستعين بمَلِك المغرب "يوسف بن تاشفين".
ولكنه فضَّل الثانية على الأولى، واستعان بملك المغرب، وجاءه من يُحذِّره من ملِكِ المغرب بأنه لو رأى الأندلس فسوف يستولي عليها، ولكنه ردَّ عليهم بمقولته المشهورة: "لأن أكون راعيَ إبل، خيرٌ لي من أكون راعي خنازير"، ودخلت البلاد في حرب مُستعِرة مع المعتدي، استمرَّت أيامًا، ثم كُلِّلت بالنصر، فارتسمت آيات الفرح على طول البلاد وعَرْضها، ولكن هذا الفرح تحوَّل إلى حُزْن مستطير، عندما داهم مَلِك المغرب البلادَ على حين غفلة واستولى عليها، وسيق الأمير "المعتمد بن عباد" مُكبَّلاً بالسلال والحديد إلى غياهب سجن "أغمات"، وأما الأميرة فظلَّت تَكدَح في طلب لقمة سائغة تَقتات بها حيث ظلَّت تَغزِل للناس بأجرٍ معلوم هي وبناتها.
ارتسمتْ على صفحة الكون ابتسامة عريضة ابتهاجًا بالعيد السعيد، فأتت تلك الأسرة المنكوبة إلى أبيها لزيارته في سجنه، فلما رآهن من خلف القضبان وهن في أطمار بالية، وقد اكتست وجوههن بمسحة حُزْن كئيبة، فلم يَدْرِ أيبكي على نفسه أم على تلك الأقمار النيِّرة التي لم تعرف معنى للابتسامة بعدما لعبت بهم صروفُ الدهر وحوادث الأيام، ففضَّل أن يبكي على الجميع، فأنشد من سويداء قلبه قائلاً:

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورًا *** فساءك العيد في أغماتَ مأسورا
ترى بناتِكَ في الأطمار جائعة *** يَغزِلن للناس ما يَملِكن قِطميرا
برَزْن نحوك للتسليم خاشعةً *** أبصارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرا
يطَأْن في الطين والأقدام حافية *** كأنَّها لم تطأ مِسكًا وكافورا
قد كان دهرك إن تأمُرْه مُمتثِلاً *** فردَّك الدهرُ منهيًّا ومأمورا
مَن بات بعدك في مُلك يُسَرُّ به *** فإنما بات بالأحلام مغرورا
فإنما بات بالأحلام مغرورا *** فإنما بات بالأحلام مغرورا
ظلَّ عكرمة يُردِّد هذا الشطرَ من البيت، ودموعه تنساب من على خده، لتُسطِّر أحرف معاناة كئيبة عاشتها أسرة كانت في يوم من الأيام في علياء السماء، فنزلت إلى قرار الأرض.
داخلني حينها شعورٌ غريب ولوعةٌ كاد لها قلبي أن يتفطَّر، فأطرقتُ قليلاً وأنا أُخفي دمعًا أراد أن يسيح مؤاساة لهذه الأسرة المنكوبة، ولكن ما هي إلا لحظات حتى هوَيت بقبضتي على الطاولة، فما كان من عكرمة إلا أن نظر إليَّ شزرًا، فما كان مني إلا أن صببتُ جام غضبي على ملك المغرب "يوسف بن تاشفين".
وفي كل ذلك عكرمة صامت صمتًا مُطبِقًا، وهذا مما زاد من غيظي، وما هي إلا دقائق حتى خرج من صمته وقال: رويدك، لا تتعجَّل؛ فلو عَرَفتَ السببَ لبَطَل العجب! ألم تعلم يا صديقي ما فعل ابن عباد؟ أومأتُ حينها برأسي أن: لا، وكالعادة حلَّق عكرمة بعينيه في الأفق وتابَع قائلاً: لما داهمت "ابن جهور" أمير قرطبة الخُطُوب، وأتى له العدو من حيث لا يَحتسِب استنجد بالمعتمد بن عباد، فما كان من الآخر إلا أن سار بخيله ورجِلِه ونصر ابن جهور، فلما رأى ابن عباد قرطبة، سوَّلتْ له نفسه الاستيلاء عليها، فأحسَّ بذلك ابن جهور، فذكَّره بالعهود والمواثيق، ولكن كل ذلك لم يُفِد شيئًا، وانقضَّ ابن عباد على قرطبة انقضاضَ الأسد على فريسته، وقبض على ابن جهور وعلى آل بيته وإخوته وزجَّ بهم في غياهبِ السجون أذلاَّءَ صاغرين، فلم يَملِك ابن جهور إلا البطاقة الأخيرة، فرفع كفَّيْه إلى السماء وقال: اللهم إنهم أخرَجونا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، اللهم كما أجبتَ الدعاءَ علينا، فأجبْه لنا؛ فإنا مسلمون.
بعدما أتمَّ عكرمة حديثَه استرقتُ النظر إليه، فرأيته قد سدَّد ناظريه إلى السماء سابحًا بين الثرى والثريا، فلم أشأ أن أقطع تأمُّلاته وتَمتمتُ قائلاً:
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العِبَرْ *** ضلَّ قوم ليس يَدرون الخبر.
__________________
الحمد لله الذي أمـر بالجهاد دفاعـاً عن الدين، وحرمة المسلمين، وجعله ذروة السنام، وأعظـم الإسلام، ورفعـةً لأمّـة خيـرِ الأنـام.
والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد ، وعلى آلـه ، وصحبه أجمعيـن ، لاسيما أمّهـات المؤمنين ، والخلفاء الراشدين،الصديق الأعظم والفاروق الأفخم وذي النورين وأبو السبطين...رضي الله عنهم أجمعين.



التعديل الأخير تم بواسطة أبو الشيماء ; 21-11-2014 الساعة 01:49 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 18.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.04 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (3.52%)]