الموضوع: تذكرت أمي
عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 19-10-2020, 11:51 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,025
الدولة : Egypt
افتراضي تذكرت أمي

تذكرت أمي


د. بدر عبدالحميد هميسة









أمي... تلك الكلمة الرقيقة الجميلة.. التي تأنس إليها قلوبنا وترتاح في ظلها أرواحنا.. ونحس معها بالأمن والأمان، والسكينة والاطمئنان.. حروفنا الأولى.. كلماتنا التي بدأنا بها رحلتنا في هذه الحياة.



دوحتنا الوارفة التي نفيء إلى ظلها حين يلفحنا هجير الشمس... نهرنا الفياض الذي نشرب منه الحنان والحب.. نبعنا الثر الذي يسقينا العطاء والصدق... أنس وحدتنا... صفاء ضحكتنا.. مصدر سعادتنا.



أمي.. قد مر على رحيلك عشر سنوات وكأنك لم تودعينا إلا بالأمس.. ما زالت كلماتك في آذاننا.. ودعواتك تطوف أركان البيت وتسكن في قلوبنا.. ما زالت يدك الحنون تمتد لتمسح دموعنا.. مازال حضنك الدافئ يضمنا.. ووصاياك الطيبة تنير لنا دربنا.



أمي تذكرتك.. فتذكرت كل المعاني الطيبة.. تذكرت طفولتي حينما كنت أحبو وأتعثر في ثوبي فتركضين نحوي في فرح وتأخذينني بين أحضانك.. تذكرتك وأنت تخرجين اللقمة من فمك وتضعينها في فمي.. وتذكرت فرحتك حينما دخلت المدرسة ودعواتك لي كل صباح.. وفرحتك يوم تخرجي من الجامعة.. وفرحتك الغامرة يوم زواجي.. وفرحتك الكبرى يوم أن رزقت بالولد.. كنا نكبر أمامك ويكبر معنا حبك.. وعانيت من المرض كثيراً لكن لم نرك إلا شاكرة صابرة.. أذكر وأنت في مرضك الأخير وقد أمسكت بورقة لأدفع بها الذباب عنك.. فتقولين: دفع الله عنك الهم والحزن يا بني وحبب فيك خلقه حتى الحصى في أرضه.. كم كانت دعوات خالصة صادقة من القلب.



ويوم رحلت.. وكنت بجوارك وأنت تكلمين أناساً لا نراهم.. وتقولين لهم: هيا خذوني.. فأسألك إلى أين يا أمي؟ فتقولين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. يومها تساقطت على خدي دمعات لم تجف إلى الآن.. وعاينت ساعتها كل معاني اليتم التي كنت أسمع وأقرأ عنها.. وأحسست أن الحياة صارت خواءً من حولي.. وأن الدنيا لن تبتسم لي مرة ثانية.. رحمة الله عليك وعفوه ومغفرته.. اللهم إنها كانت دائماً تغفر لنا أخطاءنا فاغفر لها.. وكانت دائما تعفو عن هفواتنا فاعف عنها.. وكانت دائما تسامحنا فسامحها.. وكانت دائما تعطف علينا فاعطف عليها وارحمها.. فأنت أهل لأن تتجاوز وأنت أهل لأن تعفو وترحم.



إن مكانة الأم لا تعدلها مكانة، وفضلها لا يدانيه فضل.. وبرها واجب.. وتذكرها بر وصلة.. والدعاء الدائم لها من صفات الأنبياء والمرسلين، ومن شمائل المؤمنين الصالحين، قال تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾ [مريم: 30 - 34].



لذا فقد خصها الله تعالى بالتكريم في قرآنه الكريم وأكد على فضلها، وخصه بالذكر والتعظيم، قال سبحانه: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14، 15].



بل فهو سبحانه يفرح لفرحها ويحزن لحزنها، قال سبحانه في قصة أم موسى: ﴿ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 13].



كما أكد نبينا الكريم - صلى الله عليه وسلم - على تلك المكانة وهذه المنزلة، فقدم برها ورفع فضلها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمُّكَ، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ. أخرجه أحمد" 2/327(8326) و"البُخاري" 5971 و"مسلم" 6592.



عن بَهْزَ بْنِ حَكِيمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: أُمَّكَ. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمَّكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبَاكَ، ثُمَّ الأَقْرَبَ فَالأَقْرَبَ." مسند أحمد (6 / 728)(20028) 20281- صحيح.



قال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ [لقمان: 14]، فسوَّى بينهما في الوصاية، وخص الأم بالأمور الثلاثة، قال القرطبي: المراد أن الأم تستحق على الولد الحظ الأوفر من البر، وتقدَّم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب، وقيل: يكون برهما سواء، ونقله بعضهم عن مالك والصواب الأول."فتح الباري" (10 / 402).



قال الشاعر:



لأمك حق لو علمت كبير

كثيرك يا هذا لديه يسير



فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي

لها من جواها أنةٌ وزفير



وفي الوضع لو تدري عليك مشقةٌ

فكم غصص منها الفؤاد يطير



وكم غسلت عنك الأذى بيمينها

ومن ثدييها شربٌ لديك نمير



وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها

حنواً وإشفاقاً وأنت صغير



فضيعتها لما أسنت جهالةً

وطال عليك الأمر وهو قصير



فآهٍ لذي عقل ويتبع الهوى

وواهاً لأعمى القلب وهو بصير



فدونك فارغب في عميم دعائها

فأنت لما تدعو إليه فقير






وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - "نِمْتُ فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعَتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -:"كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ، كَذَاكَ الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ"شعب الإيمان - (10 / 262) (7467) صحيح.



والبر بالوالدين وبخاصة الأم يكون في حياتها بالإحسان والتودد إليها، حتى لو كانت على غير ملة الإسلام، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْر ٍ. قالت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ. فَآسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قَدِمَتْ عَلَيَّ أمِّي وَهِيَ رَاغِبَة أفَأصِلً أمِّي؟ قال: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ. أخرجه أحمد 6/344 و "البُخَارِي" 3/215 و"مسلم" 3/81.



وعَنْ أَبِي كَثِيرٍ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وَهِىَ مُشْرِكَةٌ فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَكْرَهُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِى قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ فَتَأْبَى عَلَىَّ فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِىَ أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ. فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَ فَقَالَتْ مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ قَالَ - فَاغْتَسَلَتْ وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا فَفَتَحَتِ الْبَابَ ثُمَّ قَالَتْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَ دُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - قَالَ - فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِى مِنَ الْفَرَحِ - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَبْشِرْ قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ وَهَدَى أُمَّ أَبِى هُرَيْرَةَ. فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ خَيْرًا - قَالَ - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا - قَالَ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يَعْنِى أَبَا هُرَيْرَةَ وَأُمَّهُ - إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ. فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلاَ يَرَانِي إِلاَّ أَحَبَّنِي. أخرجه أحمد 2/319(8242) و "البُخاري" في الأدب المفرد (34) و"مسلم" 7/165.



وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ السَّلَمِي؛أَنَّ جَاهِمَةَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ، فَقَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا. أخرجه أحمد 3/429(15623) وابن ماجة (2781 و"النَّسائي"6/11، وفي "الكبرى"4297.



جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67].



إنه كان زمن بني إسرائيل رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى، وألقاه على بابها ثم أصبح يطلب ثاره وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم بالقتل، فجحدوا واشتبه أمر القتيل على موسى عليه الصلاة والسلام. فسألوا موسى أن يدعو الله ليبين لهم ما أشكل عليم، فسأل موسى ربه في ذلك فأمره بذبح بقرة، وأمره أن يضربه ببعضها فقال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ﴿ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ [البقرة: 67] أي نحن نسألك أمر القتيل، وأنت تستهزئ بنا وتأمرنا بذبح بقرة وإنما قالوا ذلك لبعد ما بين الأمرين في الظاهر، ولم يعلموا ما وجه الحكمة فيه ﴿ قَالَ ﴾ [البقرة: 67] يعني موسى ﴿ أَعُوذُ بِاللَّهِ ﴾ أي أمتنع بالله ﴿ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67] أي المستهزئين بالمؤمنين وقيل: من الجاهلين بالجواب لا على وفق السؤال فلما علموا أن ذبح البقرة عزم من الله تعالى استوصفوه إياها ولو أنهم عمدوا إلى أي بقرة كانت فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد عليهم وكان في ذلك حكمة الله عز وجل، وذلك أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل، وله ابن طفل وله عجلة فأتى بها غيضة وقال: اللهم إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر و مات ذلك الرجل، وصارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من الناس، فلما كبر ذلك الطفل، وكان باراً بأمه وكان يقسم ليله ثلاثة أجزاء يصلي ثلثاً وينام ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فيحتطب ويأتي به السوق فيبيعه بما يشاء الله فيتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي أمه ثلثه، فقالت له أمه يوماً: يا بني إن أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسنها وصفرتها، فأتى الفتى غيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، فأقبلت البقرة حتى وقفت بين يديه فقبض على قرنها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى، قالت: أيها الفتى البار بأمه اركبني فإنه أهون عليك. فقال الفتى: إن أمي لم تأمرني بذلك فقالت البقرة والله لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع لبرك بأمك فسار الفتى بها إلى أمه فقالت له أمه: إنك رجل فقير ولا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع البقرة، فقال: بكم أبيعها قالت: بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها الفتى إلى السوق، وبعث الله ملكاً ليرى خلقه قدرته، وليختبر الفتى كيف بره بأمه، وهو أعلم فقاله له الملك: بكم هذه البقرة؟ قال بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضى أمي فقاله له الملك: لك ستة دنانير ولا تستأمر أمك فقال له الفتى لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي.



ورجع الفتى إلى أمه فأخبرها بالثمن فقالت له: ارجع فبعها بستة دنانير ولا تبعها إلا برضاي فرجع بها إلى السوق وأتى الملك فقال له: استأمرت أمك فقال الفتى: نعم. إنها أمرتني أن لا نقصها عن ستة على رضاها. فقال الملك: إني أعطيتك اثني عشر ديناراً ولا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك فقالت له أمه: إن الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليجزيك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ففعل فقاله له الملك: اذهب إلى أمك فقل لها أمسكي هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل، فلا تبعها إلا بملء مسكها ذهباً والمسك الجلد فأمسكتها وقدر الله على بني إسرائيل ذبح البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون البقرة حتى وصفت لهم تلك البقرة بعينها مكافأة بذلك الفتى على بره بأمه فضلاً من الله تعالى ورحمة. تفسير الخازن 1/245.



يروي الإمام اللالكائي في كتابة "شرح السنة" وغنجار في "تاريخ بخاري" هذه القصة: كان البخاري قد ذهبت عيناه في صغره، فرأت والدته الخليل إبراهيم عليه السلام في المنام فقال لها: يا هذه رد الله على ابنك بصره بكثرة دعائك، قال: فأصبح وقد رد الله عليه بصره.



ذُكر أنّ رجلاً مسرفًا على نفسه يلهو ويعبث ويفعل ما حرّم الله كان له أمّ صالحة تأمره بترك ذلك وتنصحه بسلوك طريق التوبة وهو لا يلتفت لنصحها إلى أن مرض مرضًا أضجعه، وهو على فراش الموت قال لأمّه: يا أمّاه إذا أنا متّ فاتبعيني إلى قبري فإذا وضعوني فيه انزلي أنت أيضًا فيه ثم ضعي قدمك على رقبتي وقولي يا ربّ إني قد رضيت عنه فأرضى اللهمّ عنه. فلمّا توفّي لم تجد من يقوم معها بتهيئة الجنازة فغسّلته وكفّنته ثمّ استأجرت أربعة رجال للصلاة عليه ودفنه ثمّ خرجت الجنازة من البيت ولم يخرج معها إلا الأربعة الذين استأجرتهم وهذه الأمّ الحزينة على ولدها. فرأى الجنازة عالم من العلماء استغرب أمرها فلحق بها ليعرف من هذا الذي لم يهتمّ بجنازته إلا القليل وخلفه امرأة فإذا به يلمح الأمّ قد نزلت في القبر كما أوصى ولدها ووضعت قدمها على رقبته وقالت: اللهمّ إني قد رضيت عنه فارضى اللهمّ عنه. ثم انصرفت وبقي العالم عند القبر فسمع صوتًا من القبر يقول: إن الله قد رضي عنه برضائك عنه.



ولقد ضرب لنا السلف الصالح رضوان الله عليهم صوراً رائعة في برهم بأمهاتهم، من ذلك ما روي من أن أنس بن النضر الاشجعي قال: استقت - أي طلبت - أم ابن مسعود ماء في بعض الليالي، فجاءها بالماء فوجدها قد ذهب بها النوم، فثبت بالماء عند رأسها حتى أصبح.



عن محمد بن النكدر أنه كان يضع خده على الأرض ثم يقول لامه: قومي ضعي قدمك على خدي.



وقال الخنسي سمعت أبا بكر يقول: كنت مع منصور بن المعتمر جالسا في منزله فتصيح به أمه، وكانت فظة عليه، فتقول: يا منصور يريدك ابن هبيرة على القضاء فيأبى!، وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع إليها.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.16 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.79%)]