عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-12-2019, 12:24 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: المقدمة الطللية في أعين النقد




إن المقدمة الطللية كانت حاجة ضرورية للقصيدة الشعرية العربية منذ مراحل التأسيس، بل إن القصيدة لا تشد الأذهان ولا تستولي على الأسماع، إلا إذا ابتدأت بمقدمة لائقة تطرب لها الآذان، وتستمتع بذكرها النفوس، والحقيقة أن الشاعر كان في بداية قصيدته يقف عند الأطلال الدارسة، يسترجع ذكريات الأحبة ويصفها وصفًا دقيقًا مفعمًا بالآلام والأحزان، ما يثير في أعماق نفس المتلقي والسامع العطف والشفقة. وهكذا، فانبعاث ذكرى الأيام الماضية أولًا، ثم ثورة الحزن والألم في نفس الشاعر ثانيًا، وهياج الشوق والصبابة ثالثًا، وذهول الشاعر عن نفسه رابعًا، والبكاء وذرف الدموع خامسًا، ثم التسلي والتعزي سادسًا - كانت هي أهم الحالات النفسية التي عبر عنها الشعراء حين وقوفهم على أطلال الديار[4].







يقول زهير بن أبي سلمى في مقدمة معلقته:






أمِنْ أمِّ أَوْفى دِمْنةٌ لم تَكلَّمِ

بحَوْمانةِ الدَّرَّاج فالمُتثلَّمِ


ودارٌ لها بالرَّقْمَتَين كأنها

مراجيعُ وشْمٍ في نواشرِ مِعْصَمِ


بها العِينُ والآرامُ يمشين خِلْفةً

وأطلاؤها ينهضن من كل مِجْثَمِ


وقفتُ بها من بعد عشرين حِجَّة

فلَأْيًا عرفتُ الدار بعد توهمِ


أثافيَّ سُفْعًا في مُعرَّسِ مِرْجَلٍ

ونُؤيًا كجِذْم الحوض لم يتثلَّمِ[5]














ابن رشيق القيرواني صاحب "العمدة":



واتساقًا مع ما ذكره ابن قتيبة في منهجية بناء القصيدة الشعرية العربية القديمة من أهمية المقدمة الطللية التي يفتتح بها الشاعر قوله - ذكر (ابن رشيق القيرواني) في باب: المبتدأ والخروج والنهاية، من كتابه (العمدة في محاسن الشعر وآدابه): "فإن الشعر قفل أوله مفتاحه، وينبغي للشاعر أن يجود ابتداء شعره؛ فإنه أول ما يقرع في الأسماع، وبه يُستدل على ما عنده من أول وهلة"[6]، ومعنى هذا: أن المطلع يجب أن يكون أول ما ينظم في القصيدة إيذانًا بفتح بابها المغلق[7]، ويقصد (ابن رشيق) من خلال قوله إلى أهمية مبتدأ القصيدة الشعرية وافتتاحيتها، ويرى ضرورة تجويدها وإيلائها أكبر قدر من العناية؛ لذلك كان الشاعر الجاهلي يحسن القول في مطلع قصيدته، ويُخرج أجمل ما عنده من الصور والألفاظ؛ ومن هنا كانت العناية بالمقدمة الطللية ضرورة لا بد منها، وكان الناس حسب (ابن رشيق) يميزون بين الابتداءات والمقدمات، ولا يختارون منها إلا الأقوى تعبيرًا والأحلى لفظًا والأبلغ معنًى.







يقول (ابن رشيق): "فقد اختار الناس كثيرًا من الابتداءات، أذكر منها ها هنا ما أمكن ليستدل به؛ نحو قول امرئ القيس:



قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ *** بسِقْطِ اللِّوى بين الدَّخولِ فحَوْمَلِ







وهو عندهم أفضل ابتداء صنعه شاعر؛ لأنه وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر الحبيب والمنزل في مصراع واحد[8].







السبق في ذكر الديار في الشعر:



يكاد يجمع نقاد الشعر العربي القدماء على أن امرأ القيس كان أول من ابتدأ القصيدة بذكر الديار والبكاء على الأطلال، فنهج نهجه الشعراء من بعده، وجعلوا من الوقوف على الأطلال سُنَّةً يفتتحون بها قصائدهم.







وفي هذا الباب يقول (ابن سلام الجمحي) صاحب كتاب (طبقات الشعراء): "فاحتج لامرئ القيس من يقدمه، وليس أنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء؛ منها: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء والبيض والخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى"[9].







لقد كان امرؤ القيس شاعرًا من الشعراء المؤسسين للقصيدة العربية، فهو حامل لوائهم؛ لذلك اعتبر شعره مرجعًا يعود إليه الشعراء والنقاد على حد سواء.







لكن قضية السبق في ذكر الديار والبكاء على الأطلال تظل غامضة لم يحسم فيها النقاد؛ نظرًا لغياب دليل قاطع موثق يدلنا على ذلك، فإذا كان امرؤ القيس نفسه يعلن في أحد أبياته المعروفة أنه إنما يبكي الديار كما بكاها شاعر قبله يدعى (ابن حذام)، أمكننا القول والحالة هذه: إن مسألة الابتداء تبقى غير معروف صاحبها الذي ابتدعها أول الأمر.







يقول امرؤ القيس:



عوجًا على الطلل المحيل لعلنا *** نبكي الديار كما بكى ابن حذام[10]







قيل لأبي عبيدة: هل قال الشعر أحد قبل امرئ القيس؟ قال: "نعم، قدم علينا رجال من بادية بني جعفر بن كلاب، فكنَّا نأتيهم فنكتب عنهم فقالوا: من ابن حذام؟ قلنا: ما سمعنا به، قالوا: بلى، قد سمعنا به ورجونا أن يكون عندكم منه علم؛ لأنكم أهل أمصار، ولقد بكى في الدمن قبل امرئ القيس، وقد ذكره امرؤ القيس في شعره"[11].







وقصارى القول في هذه القضية: إن القدماء قد شاع بينهم أن شاعرًا سبق امرأ القيس بكى في الديار، وأن امرأ القيس حاكاه، غير أنهم مختلفون في اسمه اختلافًا كبيرًا، مضطربون في أخبار حياته اضطرابًا شديدًا، وقد رأوا امرأ القيس يذكره في بيت من شعره فتعلقوا به، ولكنهم لم يعرفوا شيئًا ذا بال عنه، ويكاد يكون (ابن سلام) أول من نص عليه حين تحدث عن أقدم الشعر، غير أنه لم يورد شيئًا عنه، وإنما اكتفى بإثبات بيت امرئ القيس[12]، وهذا الاختلاف والعجز عن الإثبات يحيلنا على ما عرفه الموروث الشعري العربي القديم في مرحلة من تاريخه من إهمال وضياع وإتلاف، ضاعت معه حقائق مهمة، علاوة على آثار إبداعية كان في إمكانها الحسم في عدد من القضايا النقدية التي ظلت مستشكلة إلى اليوم.







ومعنى القول: إن امرأ القيس قد كان من أوائل الشعراء الذين أرسوا تقاليد المقدمة الطللية، وأنه قد ألمَّ في المقدمات السابقة بكثير من التقاليد التي رددها الشعراء من بعده، كما ألمَّ بأجزاء هذه المقدمة على اختلافها؛ إذ وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وحدد مواضع المنازل التي وصفها تحديدًا دقيقًا، وحيَّاها وطلب السلامة والاستسقاء لها، وأحصى بعض ما بقي من آثارها، وعرض لما غيَّرها وأخنى عليها[13].







[1] شرح المعلقات السبع، ص: 125 - 131، وديوان لبيد، ص: 163 - 164 - 165.




[2] الشعر والشعراء، لابن قتيبة، ص: 14 - 15.




[3] بناء القصيدة في النقد العربي القديم، ص: 213.




[4] الوقوف على الأطلال من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث، ص: 63.




[5] ديوان زهير بن أبي سلمى، ص: 102 - 103، أشعار الشعراء الستة الجاهليين، ص: 205 - 226.




[6] العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج: 1، ص: 351.




[7] بناء القصيدة في النقد العربي القديم، ص: 203.




[8] العمدة، ج: 1، ص: 351 - 352.




[9] طبقات الشعراء، ص: 42.




[10] ديوان امرئ القيس، ص: 156.




[11] ديوان امرئ القيس، ص: 156.




[12] مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي، ص: 73.




[13] مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي، ص: 86.








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.99 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.66%)]