عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 22-01-2021, 02:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي مقاصد سورة القصص

مقاصد سورة القصص
أحمد الجوهري عبد الجواد



"نور البيان في مقاصد سور القرآن":
"سلسلة منبريّة ألقاها فضيلة شيخنا الدكتور عبد البديع أبو هاشم رحمه الله، جمعتها ورتبتها وحققتها ونشرتها بإذن من نجله فضيلة الشيخ محمد عبد البديع أبو هاشم".

الحمد لله رب العالمين، نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به سبحانه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ولن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشفت الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهادٍ حتى أتاه اليقين، فتركنا صلى الله عليه وسلم على محجةٍ بيضاء وشريعة واضحة لا يزيغ عنها إلا هالك، ثبتنا الله عليها وأقامنا في الدنيا بها حتى نلقاه وهو راضٍ عنا غير غضبان، وصل يا ربنا وسلم وبارك على هذا النبي الكريم جزاء ما علمنا وبيَّن لنا، صلي عليه وسلم وبارك تسليماً وتعظيما وتكريماً وتشريفاً لمقامه الرفيع، وعلى كل من آمن به واتبع هداه، وصلي علينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد..
أيها المسلمون الكرام، فنعيش هذه اللحظات مع سورة القَصص، هذه السورة التي تلي سورة النمل في ترتيب المصحف الذي هو من عند الله تبارك وتعالى، فالله أنزل القرآن كله، ورتب سوره كلها، وسمى كل سورةٍ باسمها، وحدد مطلعها وختامها وفاصلتها، والقرآن كله لا دخل فيه لأحدٍ إلا لمن قرأه وبلَّغه.

سورة القصص بهذا الاسم يسميها الله سبحانه وتعالى، والقَصص غير القِصص، القِصص جمع قِصة، أما القَصص كلمةٌ مصدريةٌ من قص يقص إذا حكى، يحكي حكايةً فهو يقصها على الناس ويحكيها للناس، فالعملية نفسها اسمها قصٌّ، وحينما يقص القاص عدة أشياء يقال له قص القَصص ويقص القصص يعني يتلو الأخبار ويقرأ أشياء مهمة ويذكرها على السامعين[1]، وهذه الكلمة وردت في القرآن أربع مرات، مرةً في سورة آل عمران إذ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ ﴾ حينما حكى خلق عيسى عليه السلام وأنه كان كخلق آدم من تراب، وفي سورة الأعراف ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾، وفي سورة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام يقول المولى سبحانه ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ ﴾، وفي سورتنا هذه التي سميت بهذا العنوان – القصص – الله تعالى يقول ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾، وهذا هو سيدنا موسى عليه السلام حين فر من مصر إلى أرض مدين والتقى هناك بنبي الله شعيب، أو بالرجل الصالح شعيب وقص عليه قَصَصَه وأخباره وما جاء به من مصر إلى هنا فطمأنه الرجل الصالح والنبي الصالح ﴿ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾.

لكن فازت هذه السورة بهذا الاسم دون السور الأخرى وإن كان القصص قد ذُكر فيها، قال بعض المفسرين: لأن هذه الآية في هذه السورة نزلت قبل غيرها، فسميت سورة القصص حين افتُتحت قبل غيرها كسورة، سميت بهذا الاسم حيث لم يكن يومها في سورةٍ أخرى كلمة القصص إلا فيها[2].

وهي سورةٌ حينما نستعرض موضوعاتها وننظر في آياتها نلاحظ أنها سورةٌ مكية[3]، فليست فيها تشريعاتٌ ولا تفاصيل أحكام ولا وصف شيءٍ مما كان في المدينة بعد الهجرة، إنما هي الأخرى تشارك في توضيح أمر العقيدة، وفي تصحيح التصور الإنساني والفكرة الإنسانية عن هذا الكون وما فيه وما حوله، غير أن كل سورةٍ كما عرفنا من قبل وإن كانت مكية، وإن كانت تهتم ببناء العقيدة وتجليتها إلا أن لكل سورةٍ شخصيتها واهتمامها وتركيزها على جانبٍ معين، فإن هذه السورة أيضاً مكية نزلت قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولذلك تجد موضوعاتها على هذا النحو، بُدئت كمعظم السور المكية، أو كمعظم السور المبدوءة بالأحرف، معظمها مكي، وهذه أيضاً بُدئت ببعض الحروف، بالطاء والسين والميم ﴿ طسم ﴾، وهي مع سابقتيها الشعراء والنمل ثلاثتها يقال لها: الطواسين؛ لأن في كل واحدةٍ منها في أولها طاء وسين فسميت بالطواسين تمييزاً لها[4].

ثم بعد ذكر هذه الحروف يأتي ذكر شرف القرآن العظيم ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ﴾، وهذا غالبٌ في السور التي بُدأت بالأحرف المفردة يأتي بعد هذه الأحرف تنويهٌ وتلميحٌ بشرف القرآن العظيم، مما جعل جمهوراً من العلماء يقولون: إن ذكر هذه الحروف في كثيرٍ من السور المكية وعلى هذا النحو تُقرأ حرفاً حرفاً، عداً وسرداً، لا تُقرأ كلمة واحدة وإنما طسم وإنما طا سين ميم؛ ذلك ليُعجز الله الكافرين الذين ادعوا أن القرآن من عند محمداً صلى الله عليه وسلم افتراه أو علمه بشرٌ آخر، أو أنه تلقاه عن جنيٍّ؛ رأيٍّ له يستحضره ويسمع منه ثم يتلو على الناس، وكل هذا ادعاءٌ وكذبٌ واتهامٌ باطل ﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾، صاحب الحق لا يتردد[5]، لو كانوا على حقٍ ما قالوا هذا كلام محمد ﴿ إِفْكٌ افْتَرَاهُ ﴾، ثم يرجعون فيقولون: ﴿ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾}، ثم يقولون: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾، إذاً هم مترددون في كلامهم لا ينطقون بحقٍ واضح، إنما تلوح أمامهم الشُبَه وتطير بهم الأهواء فيصفونه كل مرةٍ بوصفٍ ولا يشعرون أن كلامهم قد تضارب وتناقض، فالحق إذاً أن القرآن من عند الله.

وهذه بعض حروفه الطاء والسين والميم ونحوها، بعض حروف القرآن، وهي الحروف نفسها التي تركبون منها كلامكم يا عرب، فإن كان القرآن من عند المخلوقين فأنتم من أبلغ المخلوقين ومن أقدر المخلوقين على صناعة الكلام نثراً في الخطب والدروس وشعراً منظوماً موزوناً ﴿ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ ﴾، ﴿ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ﴾، ﴿ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾، فعجزوا ولم يُرفع لهم رأس، ولم يتحرك لهم لسانٌ في هذا المجال، فحق قول الله تعالى ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾.

إذاً تبدأ السورة ببيان أن هذا القرآن من عند الله وهو كلام مُعجز، ثم من الآية الثالثة تبدأ السورة وتشرع في حكاية وفي قصِّ قصة نبي الله موسى عليه السلام، من قبل ميلاده إلى بعثته نبياً وتلقيه الوحي عن الله سبحانه وتعالى، هذه الفترة التي ربما لم تُذكر بهذا التفصيل في سورةٍ أخرى، فليس هذا تكراراً إنما هو تفصيلٌ لم يسبق له مثيل ولم يتكرر له مثال، كيف كان الأمر قبل ميلاد موسى وحين وُلد موسى وخافت أمه عليه ماذا فعلت، وكيف أوحى الله إليها ووجهها، وماذا كان من أمر موسى والإعجاز العظيم الذي أعجزه الله لفرعون..، قصة ما شاء الله في منتهى الحسن، ومنتهى الظرف، ومنتهى البلاغة، ولها هدفها وعبرتها.

وبعدها يتوجه الخطاب إلى هذه الأمة وكأنه يقول لهم: أرأيتم من خلال هذا المشهد الكوني من حياة نبي الله موسى عليه السلام، مع العنيد الطاغية فرعون، أرأيتم كيف فعل الله، وكيف قضى الله، وكيف كانت قدرة الله وإرادته غالبةً على كل شيء، ألا يُؤمن بهذا الإله، ألا يُصدق قوله، ألا يُتبع هديه وشرعه، ألا يُخاف المقام بين يديه يوم القيامة، وذكرت السورة يوم القيامة ذكراً خفيفاً لطيفاً سريعاً، يتناسب مع السياق، وتُذكِّر أيضاً السورة بقدرة الله العظيمة ليس في فرعون فقط وإنما في الدنيا كلها حيث جعل حياة الناس ليلاً ونهاراً متعاقبين متتابعين لمصلحة حياة هذا الإنسان ولو شاء الله ولو أراد الله لفعل، وما منعه مانع، لو شاء الله تعالى أن يجعل الدنيا كلها نهاراً سرمداً إلى يوم القيامة، أو ليلاً دامساً دائماً إلى اليوم القيامة، لا يستطيع أحدٌ أن يمد الناس بالجزء الناقص من ليلٍ يسكنون فيه أو ضياءٍ يبصرون به، لا يستطيع أحدٌ ذلك، ألا تؤمنوا بالله الواحد.

ثم ضرب الله للناس وقص عليهم قصة أخرى تدل على مدى قدرته، أو تدل على عظمة قدرته التي لا مدى لها ولا نهاية لها، وذلك من خلال قصة رجلٍ من أقارب سيدنا موسى عليه السلام، رجل من بني إسرائيل ويقال كان ذا قرابةٍ لموسى وهو اللعين قارون، حيث آتاه الله تعالى كنوزاً ما تكلم الله عما فيها من ذهبٍ أو فضةٍ أو غيرهما، إنما وصف الله الكنوز فقط، بل لم يصف الله الكنوز إنما وصف مفاتيح الكنوز ليفهم أولوا الألباب، إذا كانت هذه هي المفاتيح فما بالك بالكنوز، وإذا كانت الكنوز فكيف يكون ما فيها، أي أن فيها شيئاً عظيماً جداً لا يكفي الكلام لوصف ما في الكنوز ولا لوصف الكنوز نفسها إنما يكفيكم فقط أن أشير إليكم إلى وصف مفاتيح كنوز قارون، وكل ذلك من عند الله ﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾، هذا الوصف للمفاتيح فقط، مفاتيح الكنوز كانت من الثقل ومن الكثرة بدرجةٍ يعجز عندها عصبة الرجال عن حملها وقيل عصبة الخيل، الخيول تعجز عن حمل مفاتيح الكنوز، هذا أو ذاك يجعل الإنسان يندهش مما وراء هذه المفاتيح وما فيما وراء هذه المفاتيح داخل الكنوز، أي أنه شيءٌ كبير ربما لا يكفي الكلام لوصفه، ولو وُصف لما اتسعت عقول المخاطبين لإدراكه وإحصائه وفهمه، وربما هذا نراه في الدنيا، لو سمع الأولون أن الآن عندنا ورقة مالية بمائة جنيه بمائتي جنيه قالوا لا يمكن في مائتي جنيه في حد معاه مائتين؟!! كانوا يستكثرون هذا المبلغ ربما ينظرون إليه على أنه خيال وأغنى أغنياء العالم كان هو من يملك هذا المبلغ أو بعض مئات قليلة، الآن بالمليون والمليارات ما شاء الله أرقام لا تُصدق عند من سبقنا، فربما كان المخاطبون لا يُصدقون ما كنوز قارون لو أخبرنا الله بها، فرحمةً بعقولنا أجملها وأغلق الكنوز عليها وقال: من أراد أن يستدل على ما في الكنوز وحجمه فلينظر إلى مفاتيح الكنوز، هذا الرجل بهذا المال ﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ ﴾.

ثم تلتفت السورة إلى هذه الأمة ختاماً لتقول لهم ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، إلى أن تُختم هذه السورة بما يعتبر عصارة وخلاصة وزُبدة، وكأنه هو الهدف والنهاية المقصودة من هذه السورة ﴿ وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾، وهذه الآية تعتبر من الآيات الجوامع في القرآن الكريم، وهي عدة آيات جمعت أموراً كثيرة، فالله تعالى جمع في هذه الآية النهي عن الشرك به، إذاً أمر بتوحيده كما يصرح بذلك في قوله ﴿ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ﴾ فنهى عن الشرك أولاً من باب التخلية والتنظيف والتطهير ليقوم التوحيد على طهارة قلب، وعلى نقاء نفس، وعلى صفاء سريرة، وعلى استسلام بدن، فليس عنده بعد هذا التطهير إلا الله لا إله إلا هو.

ويعطي الله تعالى المبرر لهذا التوحيد، والسبب الذي يعيننا عن الانتهاء عن الشرك ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ الكل يفنى وينقضي إلا الله وحده لا شريك له، هو فقط الذي يبقى ولا يبقى معه شيء، الكل يفنى والله يبقى سبحانه، إذاً الغلبة لمن؟ للأبقى، الولاء لمن؟ للأبقى، الأمن لمن، أن آمن على نفسي، وأن أضع ما أخاف عليه من نفسي وديني وحياتي، عند من أضعها، عند من يموت ويتركني؟! الأمل والرجاء يكون في من؟ في الأبقى ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾ سبحانه وتعالى، وبالتالي طالما هو الأبقى إذاً هو الذي يحكم، هو الذي يأمر وينهى، هو الذي يُشرع ولا تشريع لغيره {لَهُ الْحُكْمُ} أي لا لغيره، قضيةٌ عقليةٌ لا ينكرها عقلٌ سليم، ذلك هو الأبقى بعد فناء الكل يوماً بعد يوم وجيلاً بعد جيل، فمن يحكم العالم، من يموت اليوم أو من يموت غداً أو من يموت بعد عام، أو من يموت بعد قرن، أو من يبقى فلا تأخذه سنةٌ ولا نوم فضلاً عن موت.

إذاً ﴿ لَهُ الْحُكْمُ ﴾ والحكم ليس عبثاً، الله لا يشرِّع عبثاً ولا قهراً لعباده ولا تعذيباً لهم﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾، ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ أي من ضيق، ولكن تشريعه سبحانه وتعالى لحكمة، تشريعه لكي يسعد الناس في الدنيا، والتشريع والأمر عادةً يستقبله المكلف بطاعةٍ أو عصيان، ﴿ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ هناك يومٌ يحاسب كل إنسان فيه على استقباله أو رفضه لحكم الله، يُحاسب من اتبع ويحاسب من أعرض وتولى ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾، وهذا هو ختام السورة ختامٌ عظيم، ختامٌ جليل يربطنا بسورة النمل ويذكرنا بها، حيث إن سورة النمل انتهت أيضاً إلى درسٍ كهذا، ولكن الدرسين متكاملان، كانت خواتيم سورة النمل ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ﴾ العبادة، لكن كيف تكون العبادة صحيحةً عندنا، وكيف تكون العبادة مقبولةً عند الله تبارك وتعالى، لابد أن تكون من حكم الله وتشريعه، لا أخترع العبادة من عندي، ولابد أن تكون خالصةً لوجه الله لا إله إلا هو، العبادة التي يجتمع له هذان الأمران الإخلاص والموافقة لما شرع الله فإنه يظفر بعبادةٍ صحيحةٍ في الأداء مقبولةٍ عند الله يوم العرض والحساب، فكأن ختام سورة القصص يُكمِّل ختام سورة النمل ويعضده ويقويه، كما أن فاتحة السورتين من نوعٍ واحد وهو من نوع الطواسين، كما أن السورتين ذكرتا جملةً من القَصص، والقصص الذي ذُكر في سورة القصص مخالفٌ للقصص الذي هناك، فلم تُذكر قصة قارون عليه اللعنة إلا في هذه السورة – سورة القصص -، وأما ذكر موسى في سورة القصص فكان مغايراً أيضاً حيث جاء بمشهدٍ لم يذكر في غيرها بمثل هذا التفصيل وهذا التوضيح؛ كونه لم يرضع إلا من أمه، هذا لم يُذكر إلا في هذه السورة، وحي الله لأم موسى عليه السلام بهذا التفصيل ذُكر في سورة أخرى لكن غير مفصل ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ ﴾، لكن ﴿ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي ﴾ وهكذا، هذا التفصيل لم يُذكر إلا في هذه السورة.

وبهذا ترتبط السور وتتعانق سورةً بعد سورة مما يجعل القرآن العظيم كله بسوره المائة وأربع عشرة سورة كأنه عقدٌ منظوم الحبات في سلكٍ واحدٍ يمسك بكل حبة، ولا غرابة في ذلك لأن القرآن كله كلام الله وحده لا شريك له، ليس فيه حرفٌ ولا نَظْمٌ ولا تركيبٌ لأحد غير الله عز وجل، فلا عجب أن ينسجم كلام المتكلم الواحد في نظمٍ واحد، وفي سياق واحد ولاسيما أو خاصةً إذا كان الكلام لله الذي لا يضل عن مستقبل ولا ينسى ماضياً، بخلاف أحدنا ربما ينسى ما كتبه في أول كتابه، وما قاله في أول كلامه فيغاير بعد ذلك أو يناقض أو يعارض، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيرًا.

بقيت لنا نقطةٌ حول هذه السورة ألا وهو هدفها، نعيش معه ونلتقطه معاً بعد جلسة الاستراحة إن شاء الله.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا العبرة من هذا القصص القرآني العظيم وأن ينفعنا بما سمعنا وأن يعلمنا دائماً ما ينفعنا، إنه هو العلم الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.17 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.55 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.08%)]