عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-01-2021, 09:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي نماذج من الرواية بالمعنى وحل الاختلاف فيها (2) غسل الجمعة

نماذج من الرواية بالمعنى وحل الاختلاف فيها (2) غسل الجمعة
محمد فقهاء




ما ورد في غُسلِ الجُمُعة من رواياتٍ كان سببًا في خلاف العلماء حول حكم الغسل ليوم الجمعة؛ فمنهم مِن أوجبه بِناءً على بعض الروايات، ومنهم مَن قال عنه: مستحبٌّ وليس بواجبٍ، وكل منهم بنَى رأيه على رواية من الروايات.

والروايات التي ورَدَت في هذه المسألة، والتي تفيد الوجوب، هي ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخُدْريِّ رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((غسل يوم الجمعة واجبٌ على كل مُحتلِم))[1].

وأيضًا ما أخرجه البخاريُّ من حديث سالم بن عبدالله: أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن جاء منكم الجمعة فليغتَسِل))[2].
فظاهر هذه الروايات يفيد الوجوب.

وهناك رواياتٌ أخرى رُوِيت في الصِّحاح لا تُفِيد الوجوبَ؛ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((حقٌّ للهِ على كل مسلمٍ أن يغتسلَ في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسدَه))[3].
وعند البخاري عن أبي هريرة بلفظ: ((للهِ تعالى على كلِّ مسلمٍ حقٌّ أن يغتسلَ في كل سبعة أيام يومًا))[4].

ومما يدلُّ على أن هذا الحديث روي بالمعنى القرائنُ التي تبيِّن هذا من فعل الصحابة، وكذلك في بيان سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث ووُرُوده، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان الناس مَهَنَةَ أنفسِهم، وكانوا إذا راحُوا إلى الجمعة راحوا في هيئتِهم، فقيل لهم: ((لو اغتسلتُم!))[5].
ف"لو اغتسلتُم" هي على الندب والاستحباب؛ لِما علق بهم بسبب العمل.

وعند مسلم عن عائشة أنها قالت: كان الناسُ ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي، فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار، فتخرج منهم الريح، فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إنسانٌ منهم وهو عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنكم تطهَّرتم ليومِكم هذا!))[6].

وفي رواية أخرى عن عائشة - عند مسلم أيضًا - أنها قالت: كان الناسُ أهلَ عملٍ، ولم يكن لهم كُفَاةٌ، فكانوا يكون لهم تَفَلٌ، فقيل لهم: ((لو اغتسلتم يوم الجمعة))[7].
والتَّفَل هو الرائحة الكريهة الناتجة عن العمل والجهد؛ فلو اغتسلتم ندبًا واستحبابًا لأجل الرائحة والعَرَق.

ومما يدلُّ على عدم وجوبه، وأنه على الندب والاستحباب، وأن ذلك كان لأجل النظافة وإزالة الرائحة: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما: "أن عمر بن الخطاب بينما هو قائمٌ في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجلٌ مِن المهاجرين الأوَّلين[8] مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمرُ: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟ قال: إني شُغِلتُ فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذينَ، فلم أزد أن توضَّأت، فقال: والوضوء أيضًا؟! وقد علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمُرُ بالغسلِ"[9].

قال الشافعي - معلِّقًا على قصة عمر مع عثمان رضي الله عنهما -: "فلما حفِظ عمر عن رسول الله أنه كان يأمر بالغسل، وعلِم أن عثمان قد علِم مِن أمرِ رسول الله بالغسل، ثم ذكر عمرُ لعثمان أمرَ النبيِّ بالغسل، وعلِم عثمانُ ذلك، فلو ذَهَب على مُتوهِّمٍ أن عثمان نسي، فقد ذكَّره عمر قبل الصلاة بنسيانه، فلما لم يترُكْ عثمان الصلاة للغسل، ولَمَّا لم يأمُرْه عمر بالخروج للغسل؛ دلَّ ذلك على أنهما قد علِما أن أمر رسول الله بالغسل على الاختيار، لا على ألَّا يجزئ غيرُه؛ لأن عمر لم يكن ليَدَعَ أمره بالغسل، ولا عثمان إذ علمنا أنه ذاكرٌ لترك الغسل، وأمر النبي بالغسلِ، إلا والغسل - كما وصفنا - على الاختيار، قال: وروى البصريون أن النبي قال: ((مَن توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل))"[10].

فهذه القرينة - وقرينة سبب ورود الحديث - تُبيِّن لنا الحكم، وتُبيِّن لنا أن الحديث روي بالمعنى، وكذلك عائشة فقيهة، ولها عناية ببيان الحكم وسببه، فقد عللت الحكم.

ومما يجب التنبُّه إليه ما ذهب إليه بعض العلماء لتأويل لفظة "واجب" الواردة في الحديث، على كونه واجبًا في الأخلاق الجميلة، وواجبًا في الاختيار وفي النظافة، أو واجبًا وجوب السُّنة، وكل ذلك كما يقول الناس: وجب حقُّك عليَّ، أو واجبك عليَّ، وما يُشبه ذلك من الألفاظ؛ وذلك لنفيِ كونِ لفظ "واجب" على وجوب الفرض، وهذه كلها تأويلات بعيدة[11].

ولو كشف أن هذه الروايةَ على أنها مما رُوي بالمعنى، لَما احتجنا إلى هذه التأويلات البعيدة، ومِن هنا، ومن هذا المثال، وبجمع الطرق والتعليلات، والإفادة من المرويات الأخرى - تُحلُّ هذه الإشكالات، ونكشف ما رُوي بلفظه، وما روي بمعناه، وهنا يأتي دور عِلم العِلل، وتُكتشف أهمية الصنعة الحديثيَّة.


[1] أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة، (ج 2، ص 3)، حديث (879)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة، (ج 3، ص 3) حديث (1994).

[2] أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب هل على من يشهد الجمعة غسل من الصبيان والنساء وغيرهم؟ (ج 2، ص 5) حديث (894).

[3] أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب الطيب والسواك يوم الجمعة، (ج 3، ص 4) حديث (2000).

[4] أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب هل على من يشهد الجمعة غسل؟ حديث (856)

[5] أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب وقت الجمعة إذا زالت، حديث (861).


[6] أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة...، (ج 3، ص 3)، حديث (1995).

[7] أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب وجوب غسل الجمعة...، (ج 3، ص 3)، حديث (1996).

[8] ورد بروايات أخرى أن الداخل عثمان، كما عند مسلم كتاب الجمعة، باب حدثنا يحيى بن يحيى، (ج 3، ص 3) حديث (1993).

[9] أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة...، (ج 1، ص 300)، حديث (838) ومسلم، كتاب الجمعة، باب حدثنا يحيى بن يحيى، (ج 3، ص 2) حديث (1992).

[10] الرسالة؛ للشافعي، ص (302).

[11] انظر: الرسالة؛ للشافعي (ص 302)، وتأويل مختلف الحديث؛ لابن قتيبة (ص 288) والتمهيد؛ لابن عبدالبر (ج 16، ص 212).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.88%)]