عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-03-2019, 04:23 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,534
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سورة العصر : أسرار بيانية و دلالات تربوية

سورة العصر


أسرار بيانية ودلالات تربوية




د. أحمد فريد صالح أبو هزيم([*])

الإنسان وحقيقة خسرانه


(إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر: 2)
الإنسان مخلوق مكرم عند الله تعالى، فضله على كثير من مخلوقاته، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ) (الإسراء: 70) بما خصه بكثير من المزايا التي استحق بها أن تكون له الخلافة في الأرض، وأن يسلم مقاليد الكون الواسع في الحدود التي قدرها الله تعالى له، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 30).
فالله تعالى حين أراد خلق آدم أخبر الملائكة أنه خليفته في أرضه، لبيان فضله([33])، وذلك (لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه)([34]). ومن فضل الله عليه: أنه أسجد له الملائكة (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر: 29)، وكان ذلك إظهاراً لفضل الإنسان([35]). وليس من شك أن في هذا دليلا على مكانته، وسمو رفعته التي بوأه الله تعالى إياها، وأعده لها إعداداً ينهض بإقامة الحجة البالغة عليه دون تباطؤ، ولا سيما إذا علمنا انه جل جلاله قد أودع في عقله وقلبه أنه ذو رسالة قد التزم بحملها، وعليه تنفيذها، لتفسير حقيقة استخلافه على وجه الأرض، وتمييزه بخلال لم تتحقق في غيره من المخلوقات، ومما يدل على ذلك: قوله تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72)، وكونها قد وصفت أمانة فيتعين أن تؤدى مع الحرص الأكيد على هذا الأداء، وعلى الوجه الأكمل الذي أودعت فيه دون نقص. ولا يتم هذا إلا في ظل العبودية لله تعالى، امتثالا لأمره، ولهذا كان خاسراً لنفسه، ظالما لها حين اهبط نفسه عن تلك المنزلة التي رفعه الله تعالى إليها، جهولا بحقائق تكوينه، وعظم قدره التي فطره الله عليها.

والحق أن المسلمين لم يحققوا التقدم المنشود في الإسلام، لأنهم في القرون الأخيرة قد غلبت عليهم منازع الشهوة واللذة التي ساقتهم إلى الاستغراق في المنافع والركون إلى الدنيا، وحب الاستعلاء في الأرض ظلما وعتواً وتحكم الهوى بكل أشكاله، فهم لم يقوموا (بعمارة الأرض) كما أمرهم الله تعالى، ولم يرعوا سنن الله تعالى في خلقه، فحكمت عليهم هذه السنن أن يسودهم غيرهم، كما أنهم لم يقوموا بحق الخلافة كما ينبغي، فسحبت القيادة من أيديهم، وسادهم من كانوا له سادة. وهذا في الواقع أبشع صنوف الخسران في الأرض، كما جاء ذلك صريحا في قوله تعالى: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ).

والمراد بالإنسان هنا: جميع الناس، وان جاء مفرداً، لان [أل] فيه للجنس، فيفيد العموم، فيشمل المسلم والكافر، وهذا هو الأرجح، بدليل الاستثناء منه في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) ونظيره قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين: 5-6)([36]).

ومعنى (خسر): يقال: خسر خسراً وخسرانا وخسارة، فهو خاسر وخسر كله: ضل، والخسار والخسارة والخيسرى: الضلال والهلاك، والياء فيه زائدة. وفي التنزيل العزيز: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الزمر: 15).
يقول: أهلكوهما، قال الفراء: غبنوهما. وقال ابن الأعرابي: الخاسر الذي ذهب ماله وعقله، أي خسرهما. وخسر التاجر: وضع في تجارته أو غبن ([37])، وغير ذلك من المعاني اللغوية التي وردت في معاجم اللغة وكتب التفسير، فقد قيل الخسر النقصان، والاضمحلال، وذهاب رأس المال، وغير ذلك([38])، والكل متقارب، فهي كلها من مظاهر الخسر التي يترتب عليها عواقب وخيمة.

ومما يلفت النظر في هذه الآية الكريمة: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ): ما ورد فيها من الأسرار البيانية، أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر، وأنه أحاط به من كل جانب. كلمة (إن) بالتشديد، فإنها للتأكيد. وورود حرف اللام في (لفي خسر) الظرفية، وذلك للتأكيد بأن الإنسان مستغرق في خسران عظيم، فهو مغمور به، محيط به من كل جهة([39]).

ومن الأسرار البيانية: مجيء لفظ (خُسْرٍ) منكراً معمما منونا، ولم يقل (لفي الخسر)، لان التنكير يفيد التهويل تارة، والتحقير أخرى، فان حملناه على الأول كان المعنى: إن الإنسان لفي خسر عظيم، لا يعلم كنهه إلا الله تعالى، وتقريره أن الذنب يعظم بعظم من في حقه الذنب، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة، وكلا الوجهين حاصلان في ذنب العبد في حق ربه، فلا جرم أن كان ذلك الذنب في غاية العظم، وان حملناه على الثاني كان المعنى أن خسران الإنسان دون خسران الشيطان، والتأويل الصحيح: الأول)([40]).
وأما تعميم الله تعالى الخسار: فلأنه قد يكون خساراً مطلقا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم. وقد يكون خاسراً من بعض الوجوه دون بعض.
ومن هنا كان العموم في الخسران لكل إنسان إلا من اتصف بأربع صفات: الإيمان بما أمر الله تعالى بالإيمان به، والعمل الصالح وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحقوق الله تعالى وحقوق عباده الواجبة والمستحبة، والتواصي بالحق الذي هو الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالصبر على طاعة الله تعالى([41]).

فالنجاة عامة لكل من أتصف بعنوان الصلة، وهي مجموع هذه الأمور كلها. (ولو نظرنا إلى أمرين وهما: المستثنى والسورة التي قبلها لا تضح هذا العموم، لأن مفهوم المستثنى يشمل أربعة أمور: عدم الإيمان، وهو: الكفر، وعدم العمل الصالح، وهو: العمل الفاسد، وعدم التواصي بالحق، وهو: انعدام التواصي كلية، أو التواصي بالباطل، وعدم التواصي بالصبر، وهو: إما انعدام التواصي كلية أو الهلع والجزع.
والسورة التي قبلها تلهي الإنسان بالتكاثر في المال والولد، بغية الغنى والتكثر فيه، وضده ضياع المال والولد وهو الخسران)([42]). وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه. نجمله في الآتي:

أما الخسران بالكفر. فكما في قوله تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) (الأنعام: 31)، أي لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم، وحظهم في الآخرة. وأما الخسران بترك العمل، فكما في قوله تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) (الأعراف: 9)، لأن الموازين هي معايير الأعمال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) (الزلزلة: 7).
وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال، والحق هو الإسلام بكامله، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85).

وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع، فكما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج: 11).

والحقيقة أن هناك ملاءمة بين المقسم به وهو (والعصر) المعاصر للإنسان: طيلة حياته، وهو محل عمله، الذي به يخسر ويربح. وهو معاصر له وأصدق شاهد عليه، لذا كان حجة عليه، والمقسم عليه: وهو حالة الإنسان (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، إلا من استثنى الله تعالى، فكان القسم به على الربح والخسران أنسب ما يكون بينهما. إذ أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره. كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا، فهي له كالسوق. فان أعمله في خير ربح، وان أعمله في شر خسر. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة: 111).
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها، أو موبقها)([43])، فقوله: (كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) مما يؤكد أن رأس مال الإنسان: عمره. ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (فاطر: 37). وعلى هذا قالوا: إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى، وهدى كل إنسان النجدين، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار. فمن آمن وعمل صالحا كان مآله إلى منزلة الجنة، وسلم من منزلة النار، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار، وترك منزلته في الجنة.([44])، فظهر الربط والمناسبة مع المقسم به، والمقسم عليه.

المبحث الثالث


مقومات بناء الإنسان


(إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)
(العصر: 3)
تبين لنا آنفا أن الإنسان: (ذو رسالة قد حملها، وعليه أداؤها، لتفسير حقيقة استخلافه في الأرض معنى وقصداً)([45])، فبحكم هذه الطبيعة الخاصة للإنسان، تعتبر قضية بنائه بكل ما يجب أن يحمل من عقل مستنير وخلق كريم، من القضايا الضرورية التي لا يجوز التهاون فيها([46]).
ولتحقيق هذا الهدف الكبير لا بد أن يكون وفق اتباع منهج علمي منضبط.
والحقيقة أنه ليس المقصود بالمنهج جملة القواعد والنظم المعرفية والمسائل النظرية البحتة، بل لا بد من تحويله إلى قدرة، تفجر في أعماق الإنسان قوى الإبداع والاجتهاد فيصبح بذلك الوعي متفاعلاً مع الواقع والحياة بصورة حيوية. وهذا ما قرره العلماء([47]).

هذا المنهج المنضبط هو منهج القرآن، فهو الذي تكفل ببناء الإنسان بناء متوازنا صحيحا تتجدد فيه علاقاته مع ربه ومع نفسه وأهله، ومع الناس، ومع سائر المخلوقات، كما جعل فيه القدرة على التفاعل الصحيح المنظم مع الوحي والكون، وبدون ذلك لن يكون العمل المراد أكثر من فوضى لا يضبطه نظام. وهذا هو الواقع، فرسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يتعامل مع أهل الجاهلية وأخلاقهم التي كانوا يعيشونها - قد استند على منهج أصيل، وضعه رب العالمين، ووضع لنفسه خطة ومنهاجا محدد الأهداف والوسائل، كانت كافية في استئصال ما هو باطل وإزالته، وقد شهد القرآن الكريم للرسول بهذا المنهج الإلهي العملي الذي التزمه، وحرص على ترسم معالمه، وهو ما انعكس على أصحابه فكانوا نماذج بشرية واقعية تجسد المثل العليا.
فاذا كان القرآن الكريم هو الذي انفرد ببناء الإنسان بناء صحيحا بما رسمه له من منهج دقيق، فإننا - نحن المسلمين - نرفض الدعوات المارقة التي تدعو إلى استيراد مناهج فكرية، أو أنظمة تربوية، لأن لكل مجتمع عقائده وتصوراته الفكرية ونحوهما، (لان التربية والتعليم كالكائن الحي عملية ديناميكية تنمو في المجتمع المعين، من أجل خدمة ثقافة المجتمع وحضارة المجتمع وأبناء المجتمع، للعيش في مجتمعهم، وتطويره التطور المتدرج المعقول وفق حالته وفلسفته في الحياة)([48]) ونلتزم بالمنهج العظيم الذي رسمه لنا المولى جلت قدرته في القران الكريم والذي يقوم على منطلقات عدة([49]).

ومن أبرز هذه المنطلقات المنبثقة عن هذا المنهج الرباني: ما ورد في سورة العصر: من الإيمان بالله تعالى، وعمل الصالحات، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر. وها هي نبذة عن كل منطلق من هذه المنطلقات.

المطلب الأول


الإيمان بالله تعالى( إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا)

من القضايا الأساسية المتعلقة ببناء الإنسان: الإيمان بالله تعالى قولاً وفعلاً واعتقاداً، فهو يعتبر ضروريا، وخياراً استراتيجيا لتحقيق الغرض المنشود من التغيير في الشخصية والسلوك. ذلك أنه من العسير إحداث مثل هذا التغيير دون نظام تربوي أصيل وواقعي (تصدق به النفوس وتطمئن إليه القلوب، ويكون يقينا عند أصحابه، لا يمازجه ريب ولا يخالطه شك([50])، ويكون قادراً على التوجيه التربوي الإيماني، والإرشاد القائم على أفكار صحيحة، وعلى أساس من فضائل القيم وعالي المثل، لتحقيق ما ترمي إليه في الواقع. ولا يتحقق ذلك إلا في عقيدة الإسلام التي لا تقوم إلا على الإيمان بالله تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا). فما معنى الإيمان؟ وما نوع الاستثناء هنا؟. وما أهمية الإيمان في بناء الإنسان؟

معنى الإيمان: ورد في لسان العرب: واتفق أهل العلم من اللغويين وغيرهم على أن الإيمان معناه: التصديق، وفي التنزيل العزيز: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ) (يوسف: 17) أي بمصدق([51]).
والمراد به: إظهار الخضوع والقبول للشريعة، ولما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، واعتقاده، وتصديقه بالقلب([52])، فمن كان على هذه الصفة من إذعان النفس على سبيل التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه فهو مؤمن مسلم غير مرتاب ولا شاك، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يوماً بارزاً للناس، إذ أتاه رجل يمشي. فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، ورسله، ولقائه، وتؤمن بالبعث الآخر)([53]). فالإيمان لا يكون إيمانا إلا بتحقيق هذه الأركان، ولا يتم إلا باجتماعها.
والاستثناء هنا متصل([54])، فيفيد أن كل الناس في خسران عظيم لا يقدر قدره إلا أهل الإيمان، والعمل الصالح، فإنهم في تجارة لن تبور، حيث باعوا الفاني الخسيس، واشتروا الباقي النفيس، فيا لها من صفقة ما أربحها([55])!
ولسائل أن يسال، فيقول: إن الله تعالى في جانب الربح - الذي نحن بصدد الحديث عنه - ذكر السبب، وهو: الإيمان والعمل الصالح .. وفي جانب الخسر ذكر الحكم ولم يذكر السبب، فما الفرق؟ وقد أجاب الفخر الرازي على هذا السؤال بالقول: إنه لم يذكر سبب الخسر، لأن الخسر كما يحصل بالفعل وهو الإقدام على المعصية يحصل بالترك، وهو عدم الإقدام على الطاعة، أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل، فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل، وفيه وجه آخر، وهو أنه تعالى في جانب الخسر أبهم ولم يفصل، وفي جانب الربح فصل وبين، وهذا هو اللائق بالكرم([56])

وتأمل حكمة القرآن الكريم لما قال: (إن الإنسان لفي خسر) فانه ضيق الاستثناء وخصصه فقال: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ...) ولما قال: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ) (التين: 5) وسع الاستثناء وعممه فقال (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (التين: 6) ولم يقل: وتواصوا، فان التواصي هو أمر الغير بالإيمان والعمل الصالح، وهو قدر زائد على مجرد فعله، فمن لم يكن كذلك فقد خسر هذا الربح، فصار في خسر([57]).
أما أهمية الإيمان: فهو ضرورة حيوية ضرورة الطعام والشراب والهواء في بناء الإنسان، الذي يحمل الأمانة، وبدونه يبقى تائها يفقد وجوده وذاته: (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الملك: 22)، وليس من شك أن (المتعسف الذي يمشي هكذا وهكذا على الجهالة والحيرة لا يكون كمن يمشي إلى جهة معلومة مع العلم واليقين)([58]).
ومن هنا ندرك الحكمة من نزول القرآن الكريم مفرقا على حسب الوقائع والحوادث (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) (الإسراء: 106)، ومما يدخل في هذه الحكمة: تدرج القران الكريم في انتزاع العقائد الفاسدة، وفي تثبيت العقائد الصحيحة، وما كان كذلك إلا لبيان ما اتصف به القران الكريم من القدرة على التأثير البالغ في النفس البشرية، وتوجيه غرائزها الوجهة الإنسانية الفاضلة لما فيه خير الإنسان نفسه([59]).

أجل إن الاعتماد على الإيمان أمر في غاية الأهمية، فهو ينمي في ذات الإنسان كل معاني المبادئ السامية، والقيم العليا الرفيعة، ويركز على تكوينه التام الذي يحتوي على عناصر مهمة، وهي كثيرة جداً، من الصعب علينا استقصاؤها في هذا البحث، فالمقام - هنا - يقتضي الإيجاز، فمن تلك القيم:
توحيد الله تعالى: فجوهر الإيمان هو التوحيد، ومن هنا نلمس لماذا كانت أول وصية وصى بها لقمان عليه السلام ابنه: النهي عن الشرك (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان: 13)، إنه لا أفظع ولا أبشع ممن سوى المخلوق الذي لا يملك من الأمر شيئا، بمالك الأمر كله. فهل أعظم من هذا الظلم شيء؟! وهل أعظم ظلما، ممن خلقه الله لعبادته وتوحيده، فذهب بنفسه الشريفة، فجعلها في أخس المراتب؟ جعلها عابدة لمن لا يسوى شيئا، فظلم نفسه ظلما كبيراً([60]).
إن الإيمان بالله تعالى وحده وإخلاص العبادة له، أمر في غاية الأهمية يتجلى في وصل ما بين الإنسان وربه بحبه وقربه، وملء ما بين جنبيه، ثقة به، واعتماداً عليه، ويقينا بكل ما جاء من عنده. كما يتجلى في مد عمر هذا الوجود إلى ما بعد هذه الحياة الفانية، فليست قصة البشرية مجرد أرحام تدفع، وأرض تبلع، بل الأمر أنهم خلقوا في الدنيا الفانية للابتلاء والاختبار، ثم ينقلون منها إلى الآخرة للثواب والعقاب.

وهذه المعاني وغيرها إنما ينشئها ويحييها تنبيه الإنسان إلى سر وجوده، وحقيقة إنسانيته، والوعي برسالته في الحياة، وكلها من ثمرات الإيمان([61]).

وإذا كان الإيمان بالله يعتبر أن أساس التربية يتركز في عقد الصلة الدائمة بين الخالق والمخلوق، فهذا يقتضي الإيمان بوجود الروح التي هي من أمر الله تعالى، فقد خفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات، ولن نقدر على احتمال المكاره في طريق الجنة، ولا نقاوم الشهوات المفضية إلى النار، إلا بقوة روحية داخلية، تستحب المكاره، وتستعذب العذاب في سبيل الله تعالى، كما تركل كل ما فيه سخط الله تعالى. ولذا كان الاعتناء من القرآن الكريم بهذا الجانب، واعتبار النمو الروحي للفرد حاجة أصيلة في أي إنسان، لأنها تعلم الإنسان الالتزام ببعض المسؤوليات نحو ربه والناس، وتحتم عليه إبراز الولاء لله تعالى في صورة عملية من العبادات والامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، كما تلزمه بحسن السلوك في تعامله مع الآخرين بوضع معايير من المثل والقيم العليا التي لا بد أن تخضع سلوكه لها. رحمه الله:
والذي يمعن النظر في أحوال الأمم التي تتبنى الحضارات المادية مبعدين الروح من حياتهم يجد أنهم يعانون حياة ملؤها الضيق والضنك والجحيم من حيث القلق والتوتر ونحوها. وكما يقول سيد قطب (والإسلام يعني عناية خاصة بالروح، إنها في نظره مركز الكيان البشري، ونقطة ارتكازه، إنها القاعدة التي يستند إليها الكيان كله، ويترابط عن طريقها، إنها المهيمن الأكبر على حياة الإنسان كلها، بأنها الموجه إلى النور، يكفي أنها صلة الإنسان بالله تعالى، فالحق أن الطاقة الروحية في الإنسان هي أكبر طاقاته وأعظمها، وأشدها اتصالا بحقائق الوجود، أما طاقة الجسم فمحدودة بكيانه المادي وبما تدركه الحواس)([62]).

وإذ نقرر أهمية الإيمان بالجانب الروحي في الإنسان، نؤكد مع هذا الإيمان الأخذ به منهجا وأسلوبا للوصول إلى حقيقة هذا الوجود والى خالقه وهذه هي أعظم الحقائق على الإطلاق، فالإنسان إذا صفت روحه وتجردت تولدت بداخله طاقة روحية قوية استطاع أن يدرك ما لا يمكن إدراكه عن طريق المناهج الأخرى، سواء منها المنهج العقلي أو التجريبي أو التاريخي([63]).
وعلى ضوء ما تقدم فانه يتعين علينا الاعتناء بالتربية الروحية اعتناء كبيراً، فان فيها علاجا لما تعانيه البشرية من تيه وضلال وتخبط، وما كان كذلك إلا بسبب أنها أدارت ظهرها للدين وأهملت جانب الروح، وكم من أشياء يخطف بريقها أبصار الناس فيلهثون وراءها، لظنهم أن فيها السعادة المنشودة، فاذا هي سراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، بل يجد الأمراض المستعصية الفتاكة التي لم تعرفها المجتمعات التقية الطاهرة المتمسكة بكتاب ربها.
والحقيقة أن هذه التربية الروحية التي تولد في الإنسان قوة ينتج عنها عزيمة قوية تمكن صاحبها من التغلب على كل المصاعب والعقبات التي تحول بينه وبين التزامه السوي المستقيم، وهذه التربية إنما يصنعها الإيمان بالله، إذ هو الذي يحفزنا إلى أداء المهمة التي خلقنا لها، وهي عبادة الله تعالى، ويحبب إلينا هذه العبادة حتى تغدو لنا قرة عين. وهو الذي يأخذ بيد المرء ليتقرب إلى الله تعالى بأداء فرائضه الواجبة عليه، ويزداد تقربا إليه بالنوافل، حتى يربح حبه سبحانه وتعالى له.

والإيمان هو الذي يمنح الإنسان الطمأنينة وسكينة النفس التي هي روح السعادة في الآخرة، وسعادة الدنيا التي يحرص كل الناس عليها: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
ومن القيم المنبثقة عن الإيمان بالله تعالى التي تعتبر عاملاً مهما في بناء الإنسان المؤمن: مكارم الأخلاق، فهي تستند في وجودها ونشأتها عليه في الدرجة الأولى.
والحق: أن هذه القيمة العالية تعتبر حلقة وصل بين الدين وبين السلوك، باعتباره مظهراً من مظاهره، حتى كان الخلق من مقومات الإيمان، ومما يدل على ذلك: حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وقد سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: ... قان خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم القران): روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث سعد بن هشام بن عامر: أنه سأل أم المؤمنين عائشة، قال لها: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أليس تقرأ القران؟ قال: قلت بلي، قالت (فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القران([64]) أي: معتقداً، ومبادئ وتعاليم. فمكارم الأخلاق والإيمان بالله تعالي لا ينفكان عن بعض، فهما متلازمان، ومن هنا نجد التذكير بالعامل الإيماني يسبق الدعوة للقيمة الخلقية المنشودة. قال الله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200).

أجل، إن بناء الأخلاق على أساس عقدي قوامه الإيمان بالله يشكل ضمانة لثبات الأخلاق واستقرارها وعدم العبث بها.
والعقيدة عندما تكون بهذا المستوى بما تمثل من الشموخ الأخلاقي والإنساني والمثل الأعلى الروحي، تنهض بالمجتمع، وتجعله أنموذجا يحتذى به، وهذا ما نلمسه واقعا مشاهداً عندما جاءت العقيدة الإسلامية بما احتوته من تربية رشيدة، فنقلت المجتمع الجاهلي من الوضع البدائي الجاهلي إلى الوضع الإنساني السليم، كما تكون صمام الأمان الذي يحافظ على هذا الكون ويصونه ومن فيه من الدمار المحقق، لا سيما في عصرنا هذا الذي بلغ غاية كبيرة في العلم التجريبي، وشأواً بعيداً في الاختراع لوسائل التدمير من نووية وذرية ونحوهما، وليس ببعيد عنا ما جرى في الحرب العالمية الأولى والثانية، وإفناء مدن بكاملها في اليابان، وما حدث أخيراً في لبنان وغيرها من بلدان الأرض، واستعمال أشد الوسائل الحربية فتكاً.

أما ما حدث ويحدث في فلسطين على أيدي اليهود فالحديث عنه يدمي القلوب قبل إبكاء العيون.
إن أي محاولة للفصل بين القيم الخلقية والإيمان بالله، إن هي إلا محاولة لإجهاضهما ووأدهما معا، وهذه قضية خطيرة تعاني منها المجتمعات الغربية على وجه الخصوص، ومن الجميل: أن نذكر هنا أنه عقد في إنجلترا عام 1977 م مؤتمر للتحقيق الدولي في التربية الأدبية، أشترك فيه أكثر من سبعمائة من مشاهير العلماء والفلاسفة ورجال الأدب والسياسة، وقد أجمعوا على أنه لا يمكن الإحاطة بمواضيع التربية الأخلاقية دون الرجوع إلى الوازع الديني)([65]).

ومن هنا ندرك سبب ابتلاء الحضارات قديمها وحديثها، فهو يرجع إلى قيمها الأخلاقية التي تسودها وتحتكم إليها، وليس كامنا في ضعف إمكاناتها المادية أو منجزاتها العلمية، فالسعادة ليست بوفرة الإيراد، ولا بقوة الحصون، ولا بجمال البناء، وإنما تكون بعدد المهذبين من الأبناء، وبعدد الرجال ذوي التربية والأخلاق فيها([66]).
وهكذا تبين لنا بما لا مجال للشك فيه أن الإيمان بالله تعالى بإيجابياته تلك لم (يجعل القيم الإسلامية تعيش في فراغ، أو في عالم ذهني وشعوري متجرد ومنفصل عن الإنسان وسلوكه، بل جعل إنسانه الحق يندمج في هذه القيم، فهما وشعوراً، وينفعل بها اقتناعا وسلوكا بحيث يعتبر مظهراً له، ودليلاً عليه وتحقيقا لمضمونه، فكان المسلم الحق في واقع الأمر مجموعة من القيم والمثل الحية المتجسدة المتحركة الفعالة، وإن كنا نرى مظاهر من الانحراف عن محجة الإسلام النقية - ولا سيما من قبل بعض المسلمين أنفسهم – فمرد ذلك فيما نعتقد قصور الهمة أو عدم تأصيلها معاني الإيمان في نفوسهم، بحيث غدا رسما مخيلاً فيه، وبذلك يبخس هؤلاء أنفسهم حقها في التسامي والارتقاء إلى مستوى المثل الرفيعة اعتقاداً وعملا)([67]).
أجل، إن الإيمان الذي ننشده ونسعى إليه، هو وحده الذي تنبت في تربته الأخلاق، وتنمو في ربوعه أزهار الفضائل المثلى، والقيم العليا، وهذا ما أثبته الواقع. إن الأمم بدون أخلاق كبنيان بلا أساس، فهو مهما علا حتمي الانهيار. ورحم الله أحمد شوقي حيث قال:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وهو القائل أيضا:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلاً:
وهذا ما صرح به أحد قضاة بريطانيا - تعليقا على الحكم في إحدى القضايا الكبيرة المثيرة -: (بدون قانون لا يستقر مجتمع، وبدون أخلاق لا يسود قانون، وبدون إيمان لا تسود أخلاق)([68])، لذا نجد القرآن الكريم قد حرص على تحقيق الأخلاق في بناء الإنسان، لأنه إذا تربى عليها، يحيا حياة طيبة مطمئنة هادئة مليئة بالرحمة والحب والحنان والتقدير من جميع الكائنات، ويترفع عن الملذات إلا ما أحله الله تعالى منها، كما يسمو عن الماديات بما تمد جانب الخير في الإنسان من معين المبادئ والقيم الإنسانية التي تزكي بواعثه النفسية وتطهرها. فلنحرص على غرس الأخلاق فتلك ثمرة من ثمار الإيمان بالله، فهي أساس الفلاح والنجاح (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى: 14)، فلاحا يعم المجتمعات كلها، وهي جديرة أن تثير في نفوس الطامحين للتغيير نحو الأفضل اهتماما خاصا، فالتغيير المنشود إنما يبدأ من ساحة الأخلاق، والله تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد: 11).
ومن القيم المهمة في بناء الإنسان وتربيته: العلم. فاذا كانت الأخلاق ثمرة من ثمار الإيمان، وأهم ما ينبغي أن يربى عليه الإنسان، كما تبين لنا ذلك آنفاً، فان العلم النافع رديف للإيمان وخادمه، وهو بهذا الاعتبار يشكل كذلك أساسا من أسس بناء الإنسان، إذ لا يمكن أن يهيئ العلم مناخا يتيح للعابثين فرص التحرر من الالتزام الأخلاقي، إذا ارتبط بالمقصد الأسنى للتربية وهو الإيمان بالله تعالى والخشية منه. قال الله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر: 28)، (فالعلم رأس الخشية وسببها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خشية الله رأس كل حكمة)([69]) وكما ورد في الأثر رأس الحكمة مخافة الله([70]) هذا هو الكلام المنير)([71])، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر له رجلان أحدهما عابد، والآخر عالم - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)([72]) وفي رواية ثم تلا هذه الآية (نَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) إن الله وملائكته وأهل سماواته وأرضيه والنون في البحر يصلون على الذين يعلمون الناس الخير([73]).

ومن هنا نرى: أن للعلم مكانة في الإسلام لا تضاهى، ولم يبلغها أي تشريع، وقد دلت على ذلك بعض النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، نذكر بعضا منها: قال الله تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة: 11) وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر: 9) وقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق: 1). وقال: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ) (سورة الرحمن: الآيتان 1، 2).

ومن الأحاديث النبوية الدالة على فضل العلم: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)([74]) وقوله: "وإنما العلم بالتعلم"([75]).
والحق، أنه ما كان هذا الاهتمام بالعلم إلا لأن فيه معرفة الله تعالى وما له من حقوق وواجبات، كما أنه وسيلة هداية، وطريق خير للبشرية جميعا، ومن هذا المنطلق فرض الإسلام العلم على كل مسلم ومسلمة (عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)([76]) ودعا إلى الاستزادة منه، حتى إنه جعله معياراً للتفاضل بين الناس كالتقوى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (طه: 114) وبهذا حقق الإسلام أعظم مقوم حضاري يدفع إلى التقدم الرشيد في حضارة إنسانية على أبعد مدى.
والإسلام إذ يحث على طلب العلم فهو لا يقصره على العلوم الشرعية، بل يتسع ليشمل كل علم نافع من العلوم الأخرى، إذا اقترن ذلك كله بالنية الطيبة الخالصة لله تعالى، وابتغاء مرضاته، وبهذا الاعتبار يكون جزءاً من العبادة ما دامت في هذا الإطار الإلهي.





يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.79 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]