عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 29-06-2019, 03:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,940
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فقه الجملة نحويا

فقه الجملة نحويا
صَلاح الدين الزعبَلاوي


مقالة الجرجاني في تجدد الفعل واستمرار اسم الفاعل:
ذكر الجرجاني في كتابه (دلائل الإعجاز /115) أن الاسم الذي أسند إلى (زيد) في قولك (زيد منطلق) يثبت معنى الانطلاق لزيد، دون أن يقتضي تجدده، وأن الفعل الذي أسند إلى (زيد) في قولك (زيد ينطلق) يثبت به الانطلاق الذي يتجدد فيقع من (زيد) شيئاً بعد شيء. وأكد في موضع آخر (ص /117) أن لكل من الاسم والفعل المسندين في هذه الجملة الاسمية دلالة تغاير دلالة الآخر، فقال: "ولا ينبغي أن يغرّك إذ تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر أننا قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما نقول في زيد يقوم أنه في موضع زيد قائم، فإن ذلك لا يقتضي أن يستوي المعنى فيه استواء لا يكون من بعده افتراق، فإنهما لو استويا هذا الاستواء لم يكن أحدهما فعلاً والآخر اسماً، بل كان ينبغي أن يكونا فعلين أو يكونا اسمين"، فما الذي قصد إليه الجرجاني بقوله: الفعل الذي يثبت به المعنى المتجدد، والاسم الذي يثبت به المعنى غير المتجدد؟
أقول صواب المسألة عندي أن الفعل الذي قرن بالتجدد، في مقالة الجرجاني، هو الفعل المضارع خاصة، وأن الاسم الذي وصف بعدم التجدد هو اسم الفاعل، المعدّ للعمل، الجاري على معنى الفعل ولفظه، واسم الفاعل لا يُعد للعمل ما لم يكن للحال أو الاستقبال، دون الماضي، وما لم يكن معتمداً على نفي أو استفهام أو مبتدأ صريح أو منويّ، أو موصوف، أو ذي حال.
فقد ذهب كثير من النحاة، في مثل قولك (خالد دائب في عمله) أنه بمعنى قولك (خالد يدأب في عمله). ورأى الجرجاني غير ذلك حين أكد أن في دلالة الفعل، أي المضارع وهو (يدأب) من التجدد ما ليس في الاسم، وهو اسم الفاعل (دائب). وأشار إلى مثل ذلك بعض الأئمة. قال ابن مالك في (ألفيَّته): "أحمد ربي الله خير مالك" فعقب الأشموني على هذا فقال: أي أثنى عليه الثناء الجميل اللائق بجلال عظمته وجزيل نعمه، التي هذا النظم من آثارها"، وأردف: "واختار صيغة المضارع المثبت لما فيه من الإشعار بالاستمرار التجددي. أي كما أن آلاءه تعالى تتجدد في حقنا دائماً، كذلك نحمده بمحامد لا تزال تتجدد.." وفي قوله: "واختار صيغة المضارع" ما يشعر بخصوصية هذه الصيغة في الدلالة على التجدد.
وهذه شواهد الجرجاني وأمثلته. ومنها قوله تعالى: )وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد –الكهف /18(. قال الجرجاني: "فإنّ أحداً لا يشك في امتناع الفعل ها هنا، وأن قولنا: وكلبهم باسط ذراعيه، لا يؤدي الغرض. وليس ذلك إلا لأن الفعل يقتضي مزاولة وتجدد الصفة في الوقت، ويقتضي الاسم ثبوت الصفة وحصولها من غير أن يكون هناك مزاولة وتزجية فعل ومعنى يحدث شيئاً فشيئاً، بل تثبته بصفة هو عليها، فالغرض إذن تأدية هيئة الكلب /134". وقد ذهب جماعة إلى أن اسم الفاعل في الآية، وهو (باسط) جاء للماضي، أي أن زمن حصوله للمخبر عنه سابق نزول الآية الكريمة على رسول الله (r)، وقد أجيب عن ذلك بأن الكلام قد جاء على حكاية الحال، بدليل قوله تعالى (وكلبهم باسط) والواو للحال، ولا يحسن أن يقال هنا: وكلبهم بسط، بالماضي، وإنما يحسن أن يقال بعد واو الحال: وكلبهم يبسط. وقد جاء قبل الآية قوله تعالى: )ونُقَلِّبهم ذات اليمين وذات الشمال( فأتى فيها بالفعل المضارع الدال على الحال أو الاستقبال.
ومن شواهد الجرجاني في هذا الباب، قوله تعالى )هل من خالق غير الله يرزقكم –فاطر /3" فقد ذهب الجرجاني أن الفعل قد أتى بصيغة المضارع لأن الرزق يتجدد ساعة بعد ساعة ولو قيل (هل خالق غير الله رازق لكم بصيغة اسم الفاعل لكان المعنى غير ما أريد (ص /136).
وهكذا قول الجرجاني (زيد منطلق) فإنه لا يعني عنده غير إثبات الانطلاق لزيد أما (زيد ينطلق) فقد قال فيها: "فإذا قلته، أي زيد ينطلق، فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً جزءاً وجعلته يزاوله ويُزجيه..".
ويتبين بما قدمنا أن الجرجاني قد رأى التجدد في صيغة المضارع دون سواها، وقد استنَّ بسنته في وصف الفعل بالتجدد الدكتور المخزومي في ما اقتبسه عنه، لكنه لم يقصر التجدد على المضارع منه، فقال: "ان الجملة الفعلية هي التي يدل فيها المسند على التجدد.. وبعبارة أوضح هي التي يكون فيها المسند فعلاً لأن الدلالة على التجدد إنما تستمد من الأفعال وحدها /241". ثم استشهد في إثبات مقالة التجدد هذه بمثال جاء به على صيغة الماضي فقال: "ومعنى هذا أن كلاً من قولنا طلع البدر والبدر طلع جملة فعلية.."، ففاته بذلك فهم مذهب الجرجاني في التجدد، وفي دعواه أن البدر طلع) جملة فعلية.
وانظر بعد إلى ما جاء في (الكليّات) لأبي البقاء الكفوي. قال أبو البقاء: "اشتهر عند أهل البيان أن الاسم يدل على الثبوت والاستمرار، والفعل يدل على التجدد والحدوث –5 /182"، فأشار إلى نحو مما خلص إليه الجرجاني، في هذا الباب، ولم يشر إلى ما يريده بالفعل صراحة. لكنه بحث هذا في موضع آخر فقال: "الجملة الاسمية إذاً كان خبرها اسماً فقد يقصد بها الدوام والاستمرار الثبوتي بمعونة القرائن"، وأردف: "وإذا كان خبرها مضارعاً فقد يفيد استمراراً تجددياً –5 /174"، فكشف عن أن ما يريده بالفعل هو المضارع.
وعلق أبو البقاء عمل اسم الفاعل ودلالته على الاستمرار، على كونه للحال أو الاستقبال، فقال: "اسم الفاعل إذا كان للاستمرار يصح إعماله نظراً إلى اشتماله على الحال والاستقبال، والغاؤه لاشتماله على الماضي –5 /317".
الثبوت في الصفة المشبهة:
وإذا دلَّ اسم الفاعل على الاستمرار والدوام فإن الصفة المشبهة أصل في الثبوت. فقد جاء قوله تعالى: )ثم إنكم بعد ذلك لميِّتون –المؤمنون /15". قال الإمام البيضاوي في تفسيره: "لصائرون إلى الموت لا محالة، ولذلك ذكر النعت الذي للثبوت، دون اسم الفاعل". ولكن أوَ لا يصح ها هنا أن يقال: (ثم إنكم بعد لمائتون) بلفظ اسم الفاعل؟
أقول يصح هذا إذا أريد به الاستمرار، فقد أشار إلى ذلك الإمام البيضاوي نفسه، حين أردف: "وقد قرئ به" أي قرئ باسم الفاعل أيضاً.
ولا يخفى أن دلالة (الميت) بتشديد الياء، في الآية، نحو دلالة (المائت)، أي لا بد أنهم صائرون إلى الموت، ولا يعني أنهم فارقوا الحياة. وكذلك قوله تعالى: )إنك ميِّت وإنهم ميِّتون –الزمر / 30( بتشديد الياء. قال الراغب في مفرداته: "قيل معناه ستموت، تنبيها أنه لا بد من الموت، كما قيل: والموت حتم في رقاب العباد".
وجاء في الكليات لأبي البقاء الكفوي: "والميْت مخففة هو الذي مات، والميِّت بالتشديد، والمائت هو الذي لم يمت": وقد ذهب إلى هذا جماعة، لكن الذي عليه نصوص المعجمات أن المائت هو الحي، والميت بالتخفيف هو الذي فارق الحياة. أما الميِّت بالتشديد فقد يعني الحي كالمائت، ويعني فاقد الحياة كالميت بالتخفيف. وجاء في الحديث الشريف:
"يتبع الميْت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله". والميت فاقد الحياة، وقدروي ها هنا بالتخفيف. (إعراب الحديث النبوي للعكبري –ص /121).
مذهب الدكتور السامرائي في الجملة الفعلية والاسمية:
بسط الدكتور السامرائي مذهبه في هذه المسألة، في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته)، فسلك طريقة المخزومي في ما رسمه من حد يفرق به الجملة الفعلية من الاسمية، وجرى على منهاجه فجعل قوله (سافر محمد) و(محمد سافر) سواء في الإسناد، لأن المسند فيهما هو الفعل، وهذا سبيل الجواري نفسه في الموازنة بين الجملتين.
لكن السامرائي قد أخذ على المخزومي قوله بتجدد الفعل. قال السامرائي: "وقد خالف الدكتور المخزومي الأقدمين في حد الجملتين الفعلية والاسمية. فقد ذكر أن الجملة الفعلية ما كان فيها المسند فعلاً، وقد أصاب الأستاذ المخزومي الحقيقة في الحد الذي رسمه للجملة، فإن: سافر محمد، جملة فعلية هي نفسها: محمد سافر. غير أن الدكتور المخزومي الذي أفاد من مقالة الجرجاني واتخذها دليلاً للتمييز في الجملة الاسمية والفعلية، لم يفطن إلى أن هذه المقالة حجة عليه. فالتجدد المنسوب للفعل المسند إلى الاسم، لم يتحقق في قولهم: محمد سافر وسافر محمد. ومن هنا لا يمكن للسيد المخزومي أن يعتبر الجملتين فعليتين.."، وأردف: "أما نحن فنقول أنَّ محمدٌ سافر وسافر محمدٌ جملتان فعليتان، ما دام المسند فعلاً، وليس لنا أن نلصق التجدد بالفعل لأن ذلك ليس من منهجنا، لأن الشواهد لا تؤيد هذا التجدد المزعوم".
وقد أوضح السامرائي رأيه في تجدد الفعل فقال: "وكيف لنا أن نفهم التجدد والحدوث في قولنا: مات محمد وهلك خالد وانصرف بكر. فهذه الأقوال كلها أحداث منقطعة لا يمكن لنا أن نجربها على التجدد والحدوث. واختيار الجرجاني لـ: ينطلق، مفيد له في إثبات مقالته. أما أن يكون الفعل: سافر وذهب ومات، وما إلى هذا، فليس في ذلك ما يحقق غرض الجرجاني، ولا ما ذهب إليه المخزومي –204 /205".
الجواب عما جاء به السامرائي:
أقول في الجواب عما جاء به السامرائي لا حجة لمقالة القائلين أن (سافر محمد) و(محمد سافر) سيَّان في الإسناد لأن المسند فيهما هو الفعل، وسنبين ذلك بعد. أما تجدد الفعل الذي أتت به مقالة الجرجاني، فقد تأكد أنه مقصور على المضارع، خلافاً لأمثلة المخزومي. والسامرائي على حق حين أنكر تجدد الأفعال في ما أورده من الأمثلة، لا لشيء سوى أنها أتت على صيغة الماضي، لا المضارع، كما بسطنا القول فيها قبل. إذ ليس في قولك (سافر محمد) و(محمد سافر) أو في قولك (البدر طلع) و(طلع البدر) ما يشعر البتة بتجدد الفعل. ولكن ما الذي أراده السامرائي بقوله: "غير أن الدكتور المخزومي الذي أفاد من مقالة الجرجاني، واتخذها دليلاً للتمييز بين الجملة الاسمية والفعلية، لم يفطن.."؟
فما الذي أفاده المخزومي من مقالة الجرجاني واتخذ منه دليلاً للتمييز بين الجملتين؟
أقول الذي فعله الجرجاني هو أنه بسط القول في دلالة مختلف الصور التي تؤديها الجملة الفعلية والاسمية، فأبان مثلاً فرق ما بين دلالتي (زيد ينطلق) و(زيد منطلق) الاسميتين، وبين (قتل الخارجيَّ زيدٌ) و(قتل زيدٌ الخارجي) الفعليتين، وبين (ينطلق زيد) الفعلية و(زيد ينطلق) الاسمية، وبين (ضربت زيداً) الفعلية و(زيد ضربته) الاسمية.. وهكذا.
ومما قاله الجرجاني مثلاً في الفرق بين أن يكون المسند في الجملة الاسمية اسماً لا تجدد فيه، أو فعلاً متجدد الحدث، فقال في كلامه على (فروق الخبر): "ان موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء، من غير أن يقتضي تجدده شيئاً بعد شيء. أما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئاً بعد الشيء، فإذا قلت: زيد منطلق فقد أثبتَّ الانطلاق فعلاً له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئاً فشيئاً، بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمر قصير. وكما لا يقصد ها هنا إلى أن تجعل الطول أو القصر يتجدد ويحدث كما توجبهما وتثبتهما فقط، وتقضي بوجودهما على الإطلاق، كذلك لا تتعرض في قولك: زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد. وأما الفعل فإنه يقصد منه إلى ذلك.. فإذا قلت زيد هو ذا ينطلق فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءاً فجزءاً، وجعلته يزاوله ويزجيه.. –133 /134". فقد جاءت مقالة الجرجاني هذه للتمييز بين كون الخبر اسماً يثبت به المعنى للمبتدأ دون تجدد، أو فعلاً يثبت به وقوع الحدث منه في تجدد. والذي أفاده المخزومي من هذا أنه اتخذ الفرق بين الخبرين حداً يميز به الجملة الاسمية من الفعلية، وذلك ما لم يخطر للجرجاني على بال أو يجري له في حساب، عدا ما غاب عن المخزومي من أن الذي عناه الجرجاني بالفعل، هو المضارع دون سواه.
وقد أفاد السامرائي نفسه من مقالة الجرجاني هذه، فحكاها عنه في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته /202)، وعقَّب عليها فقال: "وعلى هذا فالجملة الاسمية ما دلَّ فيها المسند على الدوام والثبوت"، وأردف: "ومقالة الجرجاني هذه في التمييز بين الفعل والاسم ينبني عليها التمييز بين الجملة الفعلية والجملة الاسمية".
وهكذا فات السامرائي في استنباطه هذا ما فات المخزومي من مقالة الجرجاني. إذ كان فعلاً غرض الجرجاني من مقالته هذه بيان الفرق في الإسناد بين أن يكون الخبر اسم فاعل أو فعلاً مضارعاً (أي جملة فعلية فعلها مضارع) في جملة اسمية لم يتغير مبتدؤها، ويؤيد ذلك قول الجرجاني بعد هذا: "ولا ينبغي أن يغرك، إذا تكلمنا في مسائل المبتدأ والخبر، أنا قدرنا الفعل في هذا النحو تقدير الاسم، كما تقول في زيد يقوم أنه في موضع زيد قائم.."، فدلَّ هذا أن كلاً من الجملتين (زيد يقوم) و(زيد قائم) تتألف من مبتدأ وخبر، فهما إذن جملتان اسميتان.
السامرائي وموضوع النحو:
نهج السامرائي، كما ذكرنا، نهج الجواري والمخزومي في التسوية به قولك (قام الرجل) و(الرجل قام)، فنفد على الشيخ الجارم مذهبه في اتخاذ مذهب النحاة في التمييز بين الجملتين الفعلية والاسمية، وكشف عما يعنيه تقديم الفعل في الأولى وتأخيرها في الثانية، على ما انتحاه الجرجاني في (الدلائل)، قال السامرائي: "وهذه المسألة البلاغية لا يمكن أن تكون مادة في البحث النحوي، والشيخ الجارم يجد في دلائل الإعجاز للجرجاني ما أعانه على إثبات ما أثبته. وهو في ذلك كالأستاذ المخزومي في التماس مادته من المصدر نفسه /206".
ثم أوضح رأيه فقال: "وعلى هذا فإن هذا المنحى ليس منهجاً نحوياً ولا يقرب منه، في أي وجه من الوجوه /208"، وخلص إلى القول: "ولقد بحث علماء المعاني في الجملة العربية بحثاً خاصاً بهم، ذلك لأن ما خاضوا فيه ليس من مادة النحو الذي يقتصر على أجزاء الجملة وعلاقات هذه الأجزاء ببعضها ووصفها كما تبدو في بناء الجملة /212".
وهكذا سلك السامرائي في معالجة المسألة مسلكاً لا يتناول فيه حقيقة ما ذهب إليه الجرجاني وتابعه فيه الجارم، في التفريق بين الجملتين، أهو حقيقة علمية راهنة يدعمها البحث وتؤيدها الأدلة الواضحة، والبيِّنات المسلَّمة وعلم اللغة الحديث، فلا بد من الأخذ بها، أم هو شيء لا يتصل بهذا كله فلا بد من معارضته واستبعاده، وإنما يأبى الخوض في ذلك لأن المسألة مسألة بلاغية، لا يمكن أن تكون مادة البحث النحوي، وأن تحريرها يستلزم العدول إلى منحى ليس هو منهجاً نحوياً ولا يقرب منه، في أي وجه من الوجوه.
أقول يمن الإجابة عما ذهب إليه السامرائي من جهتين
الأولى: أن ما يجب الفحص عنه هنا، هو حقيقة الحد الذي اقتاس به الباحثان الجرجاني والجارم، سواء أكان البحث فيه من شأن البلاغة أم من شأن النحو. فإذا صحَّ أن لكل من الجملتين شأناً في التعبير لا تؤديه الأخرى، فالجملتان متغايرتان، وإن اشترط النحاة في الفاعل أن يتقدم عليه فعله ليتميز بذلك من المبتدأ الذي تبدأ به الجملة الاسمية، أمر يقتضيه الفعل بين شأنيهما، وأي غرابة في أن تتغير معاني التركيب بتغير مواضع عناصره؟
الثانية: أنه لا غنى لمادة النحو من بحث ما نحن بسبيله من الكشف عن تغير الدلالة في كل من الجملتين بتنقل أجزائها. فإذا كان غرض النحو الأول وقاية اللسان من اللحن والخطأ، ولذا جعلوا منه العلم الذي تعرف به أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناءً، فكان علم الاعراب، كما ذكر الزمخشري في مقدمة كتابه (المفصَّل) فإن من أغراض النحو، ولا شك، انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه من اعراب وغيره.. ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، كما قال ابن جني في الخصائص (1/132 –ط1913م)، وقد أشار الزمخشري في موضع آخر في مقدمته إلى علاقة ما بين النحو والبيان فقال: "وهو المرقاة المنصوبة إلى علم البيان المطلع على نكت نظم القرآن"؛ فعبر بذلك عن اتصال النحو بالبلاغة وتلازمهما، وقد برع الجرجاني في ذلك وبسط القول فيه. وأكد ابن سيده أبو الحسن كلام ابن جني في مخصصه، حين حاول تعريف علم النحو، فاستعار ألفاظ ابن جني نفسها ولم يخرج عنها.
وقد عرضت لهذا في كتابي (مذاهب وآراء في نشوء اللغة وتدرج معانيها /111)، إذ جاء فيه: "ولا يخفى أن النحو عند الأوائل هو علم العربية الذي يُعرف به وجهة كلام العرب وما يقصدون إليه في التعبير عن أغراض النفس. وقد أشار إلى ذلك الأشموني حين قال: وهو العلم المستخرج بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب، الموصلة إلى معرفة أحكام أجزائه التي ائتلف منها، كما أشار إليه ابن عصفور في المقرّب حين ذكر أن المراد هنا بالنحو قولنا علم العربية، لا قسيم الصرف، أه* . أما عند المتأخرين فقد غدا النحو غالباًً: علم الاعراب والبناء، كما نبه عليها الصبَّان حين قال: واصطلاح المتأخرين تخصيصه بفن الإعراب والبناء وجعله قسيم الصرف، وأردف: وعليه فيعرف بأنه علم يبحث فيه عن أحوال أواخر الكلم إعراباً وبناء، وموضوعه الكلم العربية من حيث ما يعرض لها من الإعراب والبناء. أه* .وهكذا تحوَّل النحو مما كان عليه من البحث في صحة تأليف الكلم للتعبير عما في النفس من أغراض، إلى البحث في ضبط الأواخر إعراباً وبناءً، ضماناً لسلامة اللسان من اللحن، وبسط الكلام في عوامل ذلك والإسهاب في تعليله بالجدل النظري، فبد النحو وقد غار ماؤه وشاه بهاؤه وساء مذاقه، وإلا فإن توكيد العناية بالمعاني كان يوجب دراسة اللفظ في تركيب الجملة بدراسة موقعه من التركيب عامة من حيث اتصاله بالأجزاء الأخرى وتأثره بها وتأثيره فيها، ثم دراسة الجملة مجتمعة الشمل من حيث صورة التعبير وأسلوبه، وقد جرد النحو من هذا كله وخصصت به علوم البلاغة كالمعاني والبيان...".
وهذا سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان (180ه*) أمام هذا العلم وعَلَم أعلامه، قد ضمَّن كتابه أبواباً جُعِلتْ بَعْدُ مادةً لعلم المعاني، فأشار بذلك إلى أن هذه الأبواب ملازمة للنحو لا تنفك عنه بحال من الأحوال. قال سيبويه: "هذا باب تخبر فيها عن النكرة بالنكرة، وذلك قولك: ما كان أحد مثلك، وليس أحد خيراً منك، وما كان أحد مجترئاً عليك. وإنما حسن الإخبار ها هنا عن النكرة حيث أردت أن تنفي أن يكون مثل حاله شيء، أو فوقه، فإن المخاطب قد يحتاج إلى أن تعلمه مثل هذا. وإذا قلت: كان رجل ذاهباً، فليس في هذا شيء تعلمه كان جهله، ولو قلت: كان رجل من آل فلان فارساً، حَسُنَ، لأنه قد يحتاج إلى أن تُعلمه أن ذاك من آل فلان، وقد يجهله. ولو قلت كان رجل في قوم فارساً، لم يحسُن، لأنه لا يستنكر أن يكون في الدنيا فارس، وأن يكون من قوم، فعلى هذا النحو يحسن ويقبح... 1 /26 و27".
فقد تجاوز سيبويه في كتابه مادة النحو، في هذه المرحلة، إلى ما أسموه بعد بعلم الصرف وعلم المعاني وعلم البيان وعلم العروض وعلم الأصوات وعلم القراءات، من علوم العربية، بل علم النقد الأدبي، ذلك لتلازم هذه العلوم واستحالة انفكاك بعضها من بعض، فجاء كتابه متضمناً كل ما يُستعان به على فهم كلام العرب والكشف عن سر تأليفه. وإذا عمد علماء العربية في دراساتهم بعد إلى تخصيص كل علم منها بمادة وموضوع للغوص على جزئيات كل من هذه العلوم، فلا يعني ذلك إمكان الفصل بينها في التماس فهم كلام العرب، ففي كل علمٍ منهما تمام للعلم الآخر، بل جلاء لأسراره ودقائقه.
ولا شك في أن ما جاء به سيبويه، ها هنا، ونحوه مما ذكره في مواضع أخرى من كتابه، قد أوحى إلى الجرجاني ما أوحى، في كتابه (دلائل الإعجاز) مما يتصل بعلم المعاني. وقد تحدث الجرجاني عن معاني النحو، ونبَّه على أن النظم، وهو موضوع الكلام بشكل من الأشكال، إنما يتوخى هذه المعاني. وإذا كان العلماء قد قصروا الحديث عن المعاني المذكورة، على ما أسموه بعلم المعاني، فإنهم لم يوفقوا في فصله عن النحو، جملة وتفصيلاً، لأنه نوره الذي به يُهتدى إلى صوغ الكلام وإحكام البيان.
وقد وفق الجرجاني حقاً في الكشف عن اتصال النحو بالبلاغة خاصة وتلازمهما. وقد حذا هذا الحذو ويمم هذا السمت الإمام أبو يعقوب السكاكي (ت 626ه*) في كتابه (مفتاح العلوم) فقد تحدث فيه عن علوم البلاغة فجعل ما تعلق منها بمطابقة الكلام لمقتضى الحال والتتبع لخواص تراكيب الكلام مادة علم البيان، وما اختص بوجوه تحسين الكلام، بعد رعاية المطابقة لمقتضى الحال ووضوح الدلالة مادة البديع، فهو أخص من علمي المعاني والبيان، لكنه قال في مقدمة كتابه: قد ضمنت كتابي هذا من أنواع الأدب، دون نوع اللغة، ما رأيت أن لا بد منه، وهذه عدة أنواع متآخذة، فأودعته علم الصرف بتمامه وأنه لا يتم إلا بعلم الاشتقاق.."، وأردف: "وأوردت علم النحو بتمامه، وتمامه بعلمي المعاني والبيان..."، فدلَّ بذلك على تعلق النحو بعلم البلاغة وتأكيد مهمة اللغة في الأداء والإبلاغ.
وقال في موضع آخر من كتابه: "أن علم النحو هو أن ننحو معرفة كيفية التركيب في ما بين الكلم لتأدية أصل المعنى مطلقاً بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب وقوانين مبنية عليها، ليحترز بها عن الخطأ في التركيب من حيث تلك الكيفية. وأعني بكيفية التركيب تقديم بعض الكلم على بعض ورعاية ما يكون من الهيئات إزاء ذلك، وبالكلم نوعيها المفردة وما هي في حكمها –المفتاح /37". وجاء في شرح السيد للمفتاح: "وأما عن المركبات فباعتبار هيئاتها التركيبية وتأديتها لمعانيها الأصلية فعلم النحو".وهذا هو أبو إسحاق الشاطبي إبراهيم بن موسى (790ه*) يعرِّف علم النحو في شرح (الخلاصة) فيقول: "وهو في الاصطلاح، علم بالأحوال والأشكال التي بها تدل ألفاظ العرب على المعاني، ويعني بالأحوال وضع الألفاظ من حيث دلالتها على المعاني التركيبية، أي المعاني التي تستفاد بالأشكال..".
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.98%)]