عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 02-03-2019, 08:47 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,060
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الحكمـة ضالـة المؤمن ***متجددة

الحكمـة ضالـة المؤمن (8) إنما شفاء العيّ السؤال



د.وليد خالد الربيع




من الحكم النبوية النفيسة، والتوجيهات الدينية العميقة ما جاء في حديث أبي داود عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم، فسأل أصحابه:هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على رسول الله[ أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده».

قوله: العي بكسر العين هو التحير في الكلام، وأيضا العي: الجهل، فمعنى هذه العبارة الحكيمة كما قال شراح الحديث: «أي لِمَ لَمْ يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال»، فهذا الحديث يدل على أمور كثيرة من الفوائد الفقهية والسلوكية منها:

- الأول: خطورة الجهل وعظيم ضرره على المسلمين أفرادا ومجتمعات.

الجهل ـ وهو عدم العلم ـ عموما، والجهل بأحكام الشريعة على وجه الخصوص من الأمور المذمومة التي لها آثار خطيرة على الأفراد والمجتمعات، وقد جاءت نصوص كثيرة في ذم الجهل والتحذير من آثاره، منها قوله تعالى: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} قال ابن القيم: «إن الله تعالى وصف أهل النار بالجهل، وأخبر بأنه سد عليهم طريق العلم، ثم ذكر الآية وقال: «فأخبروا أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون، والسمع والعقل هما أصل العلم وبهما ينال».

وقال جل شأنه: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} قال ابن القيم: «فأخبر سبحانه أنهم لم يحصل لهم علم من جهة من جهات العلم الثلاث وهي العقل والسمع والبصر، فقد وصف سبحانه أهل الشقاء بعدم العلم، وشبههم بالأنعام تارة، وتارة بالحمار الذي يحمل الأسفار، وتارة جعلهم أضل من الأنعام، وتارة جعلهم شر الدواب عنده، وتارة جعلهم أمواتا غير أحياء، وتارة أخبر بأنهم في ظلمات الجهل والضلال، وتارة أخبر بأن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وعلى أبصارهم غشاوة، وهذا كله يدل على قبح الجهل وذم أهله وبغضه لهم، كما أنه يحب أهل العلم ويمدحهم ويثني عليهم ».

ومن النصوص قوله تعالى: «إن بين يدي الساعة أياما يرفع فيها العلم، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج - الهرج: القتل» متفق عليه، وقال ابن مسعود: «قراؤكم وعلماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسا جهالا يقيسون الأمور برأيهم»، وقال أبوالدرداء: «ما لي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم، فإن رفع العلم ذهاب العلماء».

قال ابن القيم:» الجهل نوعان: جهل علم ومعرفة، وجهل عمل وغي، وكلاهما له ظلمة ووحشة في القلب، وكما أن العلم يوجب نورا وأنسا، فضده يوجب ظلمة ويوقع وحشة، وقد سمى الله تعالى العلم الذي بعث به رسوله نورا وهدى وحياة، وسمى ضده ظلمة وموتا وضلالا، قال تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}، وقال تعالى: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}.

- الثاني: أهمية السؤال لتحصيل العلم والخروج من الجهل:

مما يستفاد من هذا الحديث ما قاله ابن القيم: «جعل النبي [ الجهل داء، وجعل دواءه سؤال العلماء»، فالجهل من أخطر الأمراض القلبية التي لها آثار خطيرة تظهر في دين الشخص وسلوكه؛ لذا كان العلم سبيلا متعينا لرفع الجهل كما قال الإمام أحمد: «الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الرجل يحتاج إلى الطعام والشراب في اليوم مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه»، وطلب العلم له سبل شتى منها سؤال أهل العلم المؤهلين، وهنا ننبه إلى أمور ضرورية منها:

- أولا: لابد من سؤال المؤهلين علميا للإجابة:

يظن بعض الناس أن كل من انتسب إلى الدين بصفة ما ـ كإطلاق لحيته أو تقصير ثوبه أو محافظته على العبادة ـ أنه أهل للسؤال عن الأمور الشرعية، وهو قادر على الإجابة عنها، وهذا أمر غير صحيح، لأن الأجوبة الدينية هي بيان شرع الله تعالى وإخبار عن أحكامه، فلابد أن يكون الشخص عالما بما يقول، مستندا إلى حجة شرعية في ذلك، فالله تبارك وتعالى يأمر بسؤال أهل الاختصاص فقال: {وما أرْسلْنا مِنْ قبْلِك إِلا رِجالا نُوحِي إِليْهِمْ فاسْألُوا أهْل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تعْلمُون}.

ومن أجاب بغير علم يخشى عليه الوقوع في الكذب على الله تعالى، وذلك من أخطر الأمور، قال: تعالى {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}، وقال رسول الله[: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» متفق عليه، قال النووي: «معناه: أنه يموت حملته ـ أي العلم ـ ويتخذ الناس جهالا يحكمون بجهالاتهم، فيَضِلون ويُضِلون»، وقال الشاطبي:« ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء، وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم، فتؤتى الناس من قبله»، قال عمر:«من سوده قومه على فقه كان حياة له ولهم، ومن سوده قومه على غير فقه كان هلاكا له ولهم».

- ثانياً: لابد من حسن السؤال وحسن الإنصات للجواب:

يقوم بعض السائلين بعرض أسئلتهم بطريقة غامضة أو مملة أو منفرة فلا يحصل على الجواب المناسب، كما أن بعض السائلين لا يحسن الاستماع للجواب ولا يفهم ما يجاب به عن سؤاله، فتفوته الفائدة من هاتين الجهتين، قال ابن القيم: «للعلم ست مراتب: أولاها: حسن السؤال، الثانية: حسن الإنصات والاستماع، الثالثة: حسن الفهم، الرابعة: الحفظ، الخامسة: التعليم، السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده، فمن الناس من يحرمه لعدم سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم منه، كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها، ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من جهال المتعلمين، ومن الناس من يحرمه لسوء إنصاته، فيكون الكلام والمماراة آثر عنده وأحب إليه من الإنصات، وهذه آفة كامنة في كثير من النفوس الطالبة للعلم، وهي تمنعهم علما كثيرا ولو كانوا حسني الفهم».

والخلاصة أن قول النبي [: «إنما شفاء العي السؤال» حكمة بالغة ترشد إلى معان جليلة جديرة بالتأمل والعمل، وعلى المسلم أن يتخذها نبراسا له في شؤونه الدينية والدنيوية.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.16%)]