عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 26-10-2020, 01:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,900
الدولة : Egypt
افتراضي التعبئة الاجتماعية في القرآن الكريم

التعبئة الاجتماعية في القرآن الكريم


عمر الدسوقي




تهدف الانسانية منذ فجر التاريخ إلى إيجاد مجتمع سعيد. ليعيش فيه الناس إخواناً متحابين، يعاون بعضهم بعضاً في السراء والضراء، ما دام الانسان لا يستطيع أن يعيش وحده، ولابد له من مجتمع يحتضنه ويتعاون وإياه على تذليل سبل الحياة، وما دام الإنسان قد ولد وفي فطرته مجموعة من الغرائز الجامحة، والتي لو أطلق لها العنان مثلما كانت أيام أن كان يعيش في عصور ما قبل التاريخ حين كان جل همه أن يعيش وأن يحافظ على حياته، وحين كان يترقب في كل ثنية خطراً وفي كل حركة شراً، وكان يأوى إلى الكهوف والغابات ويعتمد على حواسه وغرائزه في الدفاع عن نفسه وتحصيل قوته.


وجاء الأنبياء تباعاً يهدون الجماعات الانسانية إلى الخير، وكيف ينظمون الحياة التي يحيونها، وقامت الحكومات وشرعت القوانين لتهذيب الغرائز الانسانية، والحد من شهواتها، وتنظيم المعاملات بين الأفراد بعضهم وبعض ولا تزال الانسانية على الرغم من مظاهر الحضارة الخلابة، وتذليل الانسان لقوى الطبيعة وتسخيرها لنفعه وخدمته وعلى الرغم من سمو عقله وغزارة ثقافته تتخبط في التشريع الصالح الذي لو أخذ به الناس لعاشوا في سعادة ورضى.



ونحن المسلمين قد نزل علينا كتاب كريم من رب العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وترك في أيدينا ثروة روحية جليلة تكرم في الإنسان معنى الإنسانية، وترفع في عينه قيم الفضائل الجميلة وتوثق بين الناس رابطة من الأخوة الصادقة، وتقيم ميزان العدالة الاجتماعية بين الطبقات على أساس من الرضا والتعاون وتضع لأصول المشكلات حلولاً ترتكز على الحق لا على الهوى.




ولو أننا رجعنا إلى هدى القرآن وشرعه الحكيم، وصرنا مسلمين حقاً إيماناً وعملاً نعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا التشريع القرآني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه غير ما شرع البشر وما يشرعون تتحكم فيهم أهواؤهم، وتضل عقولهم – وهي لا شك عرضة لأن تضل ما داموا بشراً – وأنهم يخطئون ويصيبون وإلا لما كثرت التشريعات وعدلت القوانين ولا تزال ولن تزال تعدل ما دام البشر هم القوامين عليها. إذا آمنا هذا الإيمان، وطبقناه تطبيقاً صحيحاً كاملاً كما فعل المسلمون الأول أيام محمد عليه السلام وصحبه الراشدين لوصلنا إلى المجتمع السعيد الذي تنشده الانسانية.

ولا يروعنكم هذا القول، وأن المدنية الحديثة وتعقيدات الحياة تتطلب شيئاً آخر، فالقرآن الكريم قد وضع المبادئ العامة، والأسس الكاملة، وما علينا إلا أن ننظر في حكمة تشريعه وروح حكمته، ونقيس ما لا نعلم على ما نعلم.

والمجتمع يتكون من أفراد، ثم من أسر، ثم من طبقات مضطرة بحكم الحياة أن يعيش بعضها مع بعض، ولم يترك القرآن واحدة من هذه السلسلة لم يضع لها القواعد والأصول التي تكفل سعادة المجتمع ورفاهته.



وقد تناول القرآن الكريم الفرد من ناحيتين، ناحية شخصه هو، وهي الصفات الفردية التي يجب أن يتحلى بها ليعود نفعها عليه وحده كأن يعتصم الانسان بالصبر عند المحن والشدائد في قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وانها لكبيرة إلا على الخاشعين} وقوله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} وكالاعتدال في الانفاق فلا بخل ولا إسراف كقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا} وكقوله: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}.



على أن معظم الصفات الفردية التي أمر بها القرآن إن كانت جميلة ونهى عنها إن كانت ذميمة تعود في مجملها على المجتمع، لأن الشخص الذي يتحلى بمكارم الأخلاق يألفه الناس ويتأسون به، ويحبونه ويعاونونه، وهو من جهته لكمال خلقه الفردي يسعى إلى خيرهم، لأن سجيته مفطورة على الخير.

ولكن الذي يهمنا في بحثنا هذا هو علاقة الفرد بالمجتمع، علاقته أولاً بأسرته، زوجه وأبويه وأولاده وخدمه، ولا شك أن الأسرة القوية المتحابة التي تسود بينها الرحمة والعناية تفضي إلى مجتمع سليم، فالأسرة نواة المجتمع استمع إلى قوله تعالى ينظم العلاقة بين الزوجين {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} حيث جعل الله من آياته هذا الإئتلاف بين الرجل والمرأة لبقاء النوع الإنساني وتكوين الأسرة، وجعل الزوجة من الجنس البشري كالرجل ولكنه لم يقل من جنسكم وقال من أنفسكم كأن الزوجة جزء من نفسه يعزها اعزاز نفسه ويحرص عليها حرصه على نفسه ثم قال: لتسكنوا إليها وفي السكن المأوى والطمأنينة والراحة والأمن، وجعل أساس العلاقة بينهما المودة والرحمة بخلاف سائر الحيوان حيث العلاقة بين الذكر والأنثى هي العلاقة الجنسية وفي هذا ارتفاع بالانسان عن نطاق الغريزة وسمو العلاقة الزوجية وبدون المودة والرحمة لا ينتظم حال الاسرة وبالمودة والرحمة بين الزوجين يتم التآلف والمحبة ويبقى النوع الانساني.



وإذا حدث نفور لأمر ما بين الزوجين {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فلا شحناء ولا بغضاء ولا إيذاء. ولست أريد هنا أن أخوض في التشريعات العديدة التي تتعلق بالزوجين وحقوق كل منهما وما يترتب على ذلك من نفقة وطلاق غيره، لأن ذلك يخرج عن نطاق بحثنا، حيث نقرر المبادئ العامة التي تكفل سعادة المجتمع، وإن كان لا يفوتني أن أنوه بأن التشريع الإسلامي الخاص بالزواج له حكمة بالغة تهيئ للاسرة السعادة وأن هؤلاء الذين ينادون بتغييره جرياً وراء التقاليد الغربية لم يفهموه حق فهمه ولم يدركوا ما وراءه من مزايا، وما في المجتمع الغربي على اختلاف اقطاره من تحلل وفساد.

ولنستمع إلى قوله تعالى في العلاقة بين المرء وأبويه حيث قال: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم ان تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا}.

فقضى الله وأمر أمراً نافذاً متطوعاً به بأن نعبده وحده دون سواه، وجعل من هذا القضاء المقرون بعبادته الإحسان للوالدين، الإحسان بالقول والإحسان بالعمل. وبذلك يسود الأسرة جو الصفاء والمحبة. ومفروض جبلة وفطرة أن الوالدين يحبان ولدهما ويرعيانه ويتحملان في سبيله كل عذاب وألم رضية بذلك نفساهما وعن هذه المحبة الفطرية قال البدوي قديماً:





وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض





ولذلك لم يكن الوالدان في حاجة إلى النصح بحسن معاملة الأبناء والبر بهم، أما الولد فسرعان ما يشب ويكوّن أسرة وقد ينسى في ظل أسرته الجديدة ما عليه من تبعات حيال هؤلاء الذين كانوا السبب في وجوده في هذه الحياة والذين تعبوا من أجله حتى صار قوياً مستقلاً بنفسه، ولذلك كان في حاجة إلى النصح بل الأمر من الله العلي الكريم بالبر بهما والإحسان إليهما، وقد يكونان في كنفه ورعايته وقد بلغ بهما الكبر حداً أعجزهما عن الكسب وقد يتضايق الابن منهما بعد أن صارا عاجزين وهما اللذان انفقا شبابهما وقوتهما في توفير الهناءة له فنهى الله أن يصدر عنه يشعرهما بأنه متضايق منهما برم بحياتهما حتى كلمة (أف) علامة التضجر لا يجوز له أن يتفوه بها، فما بالك بسواها، وكذلك لا ينهرهما ويزجرهما ويرفع صوته أمامهما ولو أتيا ما يوجب ذلك احتراماً لشيخوختهما ورحمة بهما، بل يقول لهما قولاً كريماً فيه سماحة نفس وتقدير لمعروفها وأياديهما عليه، وفيه مودة وبشاشة تسري عنهما وتدخل البشر على قلبيهما العجوزين ولم يكتف الله سبحانه بهذا بل أوجب على المرء أن يتخذ خطوة إيجابية نحوهما، وعبر بذلك التعبير البياني السامي، وهو أن يخفض لهما جناح الذل، أي يتذلل لهما ويتواضع، فلا يعتد بشبابه وبماله ولا يمن عليهما بالانفاق فكل ما يقدمه لهما ليس شيئاً بجانب نعمة الحياة عليه، وبجانب ما قاما به في تنشئته عن محبة ورضى. ثم أمره بأن يدعو لهما بالرحمة في الحياة الدنيا والآخرة، رحمة مثل رحمتهما به وتربيتهما له وإرشادهما له في صغره رحمة تجعل شيخوختهما تمضي في يسر حتى يقضي الله فيهما أمره. ثم وجه الله تهديداً للأبناء بأنه أعلم بما في نفوسهم وما يشعرون به إزاء والديهم. وكأنه يحذرهم من أن يضمروا لهما كراهة أو استثقالاً، وإذا كانت نيتهما صالحة وبرهما يصدر عن محبة لهما واعزاز فإن الله يغفر لهم ما فرط منهم عند حرج الصدر من أذية أو تقصير وفي هذا ما فيه من تشديد الأمر بالإحسان لهما والقيام بشئونهما في طواعية وذلة وخضوع.

ولا شك أن الابن سيكون أباً يوماً ما. وسيطلب من ابن أن يعامله مثل هذه المعاملة، وبذلك تظل هذه التقاليد الكريمة مرعية، وآداب الأبوة معمولاً بها، ورباط الاسرة قوياً عماده المحبة والرحمة والبر والمعاونة.


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.20 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.57 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.83%)]