عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 01-03-2024, 09:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,968
الدولة : Egypt
افتراضي رد: القراءة المنظمة في التفسير وعلوم القرآن

كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

صفية الشقيفي


(15) تتمة الحديث عن تأسيس الجاحظ وظهور مصطلح (بلاغة القرآن) عند الواسطي والرماني

قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (15)
1- بعد هذا، أجدني قد أشرفت الآن على باب من النظر في بقايا أقوال أبي عثمان في (نظم القرآن) وهي أقوال تفرقت فيما بقى لدينا من كتبه المشهورة، وقد أسلفت نقل كثير منها ثم إعادة النظر في الأثر الذي أحدثه كتابه الذي لم يصلنا، وهو كتاب (الاحتجاج لنظم القرآن، وغريب تأليفه وبديع تركيبه)، كما سماه هو، أو كتاب (الاحتجاج لنظم القرآن، وسلامته من الزيادة
[مداخل إعجاز القرآن: 73]
والنقصان) كما سماه القاضي عبد الجبار في كتاب (تثبيت البنوة). وهذا الباب يحتاج إلى فضل تأمل، للفصل بين حقيقة ما قاله أبو عثمان، وبين الطريق الذي سلكه من جاء بعده معتمدًا على كتابه.
وقد بينت آنفًا أن أبا عثمان قد افتتح القول في (نظم القرآن وبديع تأليفه). من موقف المناكرة لما أدت إليه مقالته هو ومقالة صاحبه أبي إسحق النظام في (الصرفة). لم يتنكر أبو عثمان للصرفة، ولكنه تنكر أشد التنكر لما أدت إليه أقوال خليله أبي إسحق النظام، وأقوال من نجم بعد النظام، وهي الأقوال الخبيثة التي تسلب القرآن كل فضيلة، وتزعم أن لو خلى بين العرب وبين معارضة القرآن لكانوا قادرين على الإتيان بمثله، لولا (الصرفة)! وقد فزع أبو عثمان إلى تذوقه لبيان القرآن، وهو التذوق الذي كان عليه سائر المسلمين منذ عهد الصحابة الأول، وتبينهم تبينًا لا لبس فيه أن هذا القرآن الذي نزل عليهم بلسان عربي مبين، ليس يشبه بيانه بيان أئمة الشعراء وأصحاب الألسنة البليغة، وأنه نمط متفرد، لا يطابق تأليفه وتركيبه أنماط المألوف من بيانهم. وهم مطبقون جميعًا، بهذا التذوق، على أنه كلام رب العالمين، المباين لكلام البشر. وتدل الكلمات الباقية في كتب أبي عثمان، والتي ذكر فيها نظم القرآن وغريب تأليفه وبديع تركيبه،
[مداخل إعجاز القرآن: 74]
على أمر مهم جدًا، هو أنه كان في جميع ذلك يصف هذا التذوق، الغامض الغامر الساري في نفسه. كان يصفه صفة المتأمل المستبطن لما يتذوقه، لا صفة المعتزلي المتكلم المفسر لحقيقة هذا التذوق بالتقسيم والتبويب والتفصيل، وكل كلماته دالة أبين الدلالة على أنه كان يستخرج من أعماق اللغة نعتًا بعد نعت لأقصى ما يجده في أغوار نفسه من أثر تذوق هذا الكتاب العربي، المباين نظمه وتأليفه سائر تأليف الكلام العربي وتركيبه ونظمه. وقد وصف الجاحظ هذا الجهد في الاستخراج في كتاب (حجج النبوة) حيث قال لصاحبه: (كتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي، وبلغت منه أقصى يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن، والرد على كل طعان). والنصوص السالفة التي نقلتها من كلامه، دالة على أنه كان ينعت شيئًا مستقرًا في نفسه وفي نفوس الأمة، البيان عن مستعص، والألسنة عن إبرازه باللفظ عاجزة، فاجتهد وحاول وجاء في ذلك بما لم يسبقه إليه من الناس من ألفاظ جعلها نعوتًا وأوصافًا للقرآن نفسه، ولصنيعه في النفوس، وتأثيره في القلوب.
وأظن أن أبا عثمان قد استطاع ببراعته وبيانه وتدفقه، أن يضع في هذا الكتاب ألفاظًا عظيمة الوقع في النفوس بإبهامها واستثارتها، ونثرها في جمل بارعة الصياغة متألقة الألفاظ فجاءت مثيرة لكوامن الخواطر، قريبة الإيحاء بالمعاني البعيدة. ومن هذه
[مداخل إعجاز القرآن: 75]
الألفاظ ما مر بنا من مثل قوله: (نظم القرآن، وبديع تركيبه، وغريب تألفه = وطبع القرآن، ومخارج آياته، وحسن بيانه، وجمع المعاني الكثيرة بالألفاظ القليلة = والقرآن كتابنا المنزل الذي يدلنا على أنه صدق نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد = ولو تحدى أبلغ العرب بأقصر سورة منه لتبين في نظامها ومخرجها ولفظها وطبعها أنه عاجز عنها).
وحسب أبي عثمان فضيلة وفضلا أنه هو الذي افتتح هذا الباب بألفاظه البارعة القوية الإيحاء، وبثها في سياق تركيب كلامه، حاملة تدفقه في نعت ما يجده في نفسه من وقع القرآن عليها وتأثيره فيها، فمهد لمن بعده أن يتناول القضة تناولاً يعينه على أن يصوغها صياغة قابلة للإثبات، وذلك بأن يستخرج العلة التي كان هذا القرآن، بنظمه وبيانه، مما لا يقدر على مثله العباد = ومن أي وجه يتبين للبليغ، إذا سمع سورة منه، أنه عاجز عنها؟ ولكن مما لاحظت: أنا أبا عثمان، لم يذكر قط (بلاغة القرآن)، ولم يجعلها الوجه الذي كان منه عجز العرب عن معارضته، مع أنه كان يذكر في هذا الصدد (بلاغة الشعراء والخطباء)، ويذكر (أبلغ العرب) وأشباه ذلك، دون أن يستخرج منه أن وجه (إعجاز القرآن) هو بلاغته. وهذه ملاحظة لا بد منها، ولأن الأمر سيظهر ظهورًا بينًا بعد قليل.
[مداخل إعجاز القرآن: 76]
2- جاء بعد أبي عثمان الجاحظ (المتوفى سنة 255) أبو عبد الله محمد بن يزيد الواسطي المتكلم المعتزلي، (المتوفى سنة 306)، [انظر ما سلف: ص28] وهو أول من نعلم أنه أنشأ كتابًا يحمل عنوانه لفظ (إعجاز القرآن) وهو اللفظ الذي كان دانيًا في كلام أبي عثمان الجاحظ ثم تجاوزه، كما قلت آنفًا، واستخرجه استخراجًا من كتب أبي عثمان، ولا سيما كتابه (الاحتجاج لنظم القرآن). وإذا كان قد فعل ذلك، فإنه من القريب الذي لا يكاد يدفع، أنه هو نفسه الذي استخرج لفظ (المعجزة) وهو يريد بها (آية النبي) التي يستدل بها على نبوته، كإحياء الموتى وإبراء الأكمه. ومن الدليل على أنه هو أول من فعل ذلك، على الأرجح، أن أبا عثمان لم يستعملها قط، ولا استعملها أحد من معاصريه من علماء الأمة على اختلافهم، وإنما كانوا يقولون: (آيات الأنبياء)، و(دلائل النبوة)، و(أعلام النبوة) و(حجج البنوة) و(وبرهان النبوة)، وذلك واضح جدًا في كتب الأئمة كالبخاري وغيره. ثم نجد لفظ (إعجاز القرآن)، ولفظ (معجزة النبي) و(معجزات الأنبياء)، قد وجد فجأة في الكتب التي جاءت بعد كتب الواسطي. فالأشبه بالحق أن يكون هو أول من أكثر استخدام هذين اللفظين، حتى غلبا على ألسنة الناس جميعًا إلى يومنا هذا.
[مداخل إعجاز القرآن: 77]
ولم يصلنا كتاب أبي عبد الله الواسطي، ولا نجد في أيدينا منه شيئًا يذكر سوى عنوانه، مع أنه كان كتابًا مشهورًا عند أئمة علم البلاغة إلى القرن الخامس الهجري، ولذلك لا نستطيع أن نقول فيه قولا يعتد به، ولكن تاريخ القول في شأن القرآن وإعجازه، يدل على أنه جاء بعد أبي عثمان الجاحظ مباشرة، وأنه استخرج منه عنوان كتابه (إعجاز القرآن)، وأفرد القول فيه على حدة، وأنه صار أصلاً لمن جاء بعده ممن ألف كتابًا في (إعجاز القرآن). وأنا أرجح أيضًا أنه أول من استخرج من ثنايا أقوال أبي عثمان الجاحظ، في نعت تذوق القرآن، وما بثه في خلال ذلك من الاحتجاج لنظم القرآن = استخرج ما سوف يدور عليه القول في إعجاز القرآن، إلى يومنا هذا. وذلك أنه هو الذي بين بيانا واضحًا أن الوجه الذي كان منه القرآن معجزًا هو: بلاغته، وأن (بلاغة القرآن) هي (الآية). وهذا ما يدل عليه السياق التاريخي للتأليف في (البلاغة).
3- والدليل على ذلك أن الرجل الثالث النحوي المتكلم المعتزلي، بعد أبي عثمان الجاحظ، وأبي عبد الله الواسطي، وهو أبو الحسن علي بن عيسى الرماني المعتزلي، (296 – 386هـ)، والذي كان قد بلغ الثانية عشرة من عمره حين مات الواسطي = أنشأ
[مداخل إعجاز القرآن: 78]
كتابا سماه، (نكتب في إعجاز القرآن)، فذكر فيه وجوه (إعجاز القرآن)، وخص من هذه الوجوه (بلاغة القرآن)، فذكر طبقات البلاغة ثم أقسامها، وهذا شيء لم يكن على عهد أبي عثمان الجاحظ، وإن كان هذا الباب أيضًا مستخرجًا من كتب أبي عثمان، ولا سيما كتاب (البيان والتبيين). ولا بد من إثبات ما قاله الرماني في افتتاح كتابه، لأن هذا يجعل الأمر كله واضحًا كل الوضوح، قال: (وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة = والتحدي للكافة = والصرفة = والبلاغة = والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة = ونقض العادة = وقياسه بكل معجزة. فأما البلاغة فهي على ثلاث طبقات، منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة. فما كان في أعلاه طبقة فهو (معجز)، وهو بلاغة القرآن، وما كان دون ذلك فهو ممكن، كبلاغة البلغاء من الناس ... وأعلاها طبقة في الحسن بلاغة القرآن، وأعلى طبقات البلاغة للقرآن خاصة. وأعلى طبقات البلاغة معجز للعرب والعجم، كإعجاز الشعر للمفحم، فهذا معجز للمفحم خاصة، كما أن ذلك معجز للكافة ... والبلاغة على عشرة أقسام: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس،
[مداخل إعجاز القرآن: 79]
والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان = ونحن نفسرها بابًا بابًا، إن شاء الله تعالى).
وينبغي أن لا نخلط هنا بين لفظ (البلاغة)، كما جرى في حديث الجاحظ والواسطي والرماني، وبين (علم البلاغة)، كما عرف بعد عبد القاهر. وهذا فصل لا بد منه هنا. أما هذا الضرب من تدريج طبقات البلاغة، فإنما هو عمل من أعمال المعتزلة المتكلمين، لا أصل له في العقول، بل هو تخطيط عقلي مبهم لا قيمة له البتة، وعادة سيئة من التحكم في المعاني بغير دليل ولا برهان، إلا الخداع المجرد بالتزام العقل وأحكامه! وسياق حديثي هنا يعفيني من تتبع عورات هؤلاء المتكلمين، ولا سيما المعتزلة). [مداخل إعجاز القرآن: 73-80]

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.32 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.69 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.95%)]