عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21-09-2020, 12:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,928
الدولة : Egypt
افتراضي الاستعاذة من شر الشيطان وخطره

الاستعاذة من شر الشيطان وخطره


د. سيف صفاء عبدالكريم الدوري



والمَعْلم الثاني في المنهج الذي رسَمه القرآن للاعتصام من الشيطان، والتصدِّي لحربه - يتمثَّل في اللجوء إلى الله بالاستعاذة من شرِّه وخطره؛ فقد أمرنا في آيات عدَّة أن نستعيذ به من الشيطان الرجيم، وهذه الاستعاذة حِصن حصين نتحصَّن به من هذا العدو المتربِّص بنا، قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98]، ففي هذه الآية أمرٌ من الله سبحانه وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ من هَمزات الشياطين، وأن يستعيذ من حضورهم معه، فيفسدوا عليه أمره.




ويشار هنا إلى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من هذه الهمزات، ومع ذلك أُمر بالدعاء؛ لكي يَزيد من التجائه إلى الله تعالى أن يقيه منها، ولتعليم الأمَّة من بعده، وهذا هو المقصد الأهم؛ اللجوء إلى الله ليحصنهم من الشياطين، في جميع الأحيان، فالاستعاذة هنا تضمنَت (استعاذة من مادَّة الشرِّ كله وأصلِه، ويدخل فيها الاستعاذة من جميع نزغات الشيطان، ومن مسِّه ووسوسته، فإذا أعاذ الله عبدَه من هذا الشرِّ وأجاب دعاءه، سَلِم من كلِّ شرٍّ، ووفِّق لكل خير)[1].




وهذه الاستعاذة تكون بمجرد أن ينزغ الشيطان الإنسانَ بنزغه، قال تعالى: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [فصلت: 36].




ففي هذين النصَّين إرشاد للنَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه إذا غضب أو رغب في فعل ما لا يحلُّ بسبب الشيطان، فعليه الاستعاذة بالله تعالى من هذا الشيطان الذي قد يَحمله على ارتكاب ما لا تُحمد عقباه.




وهذا (الخطاب وإن خصَّ الله به الرسولَ، إلَّا أنَّه تأديب عام لجميع المكلَّفين)[2]، والنزغ في الحسِّيات هو: النخس والغرز بإبرة أو نحوها؛ للإثارة والدَّفع لأمرٍ ما، ويُستعمل في المعنويات للدلالة على ما يشبه ذلك من وساوس مثيرة للغضب، ومهيجة للانتقام.




ونزغ الشيطان: وساوسه وتسويلاته، وتزييناته التي يَحمل بها الإنسان على المعاصي[3]، وقد جاء الفعل ﴿ يَنزَغَنَّكَ ﴾ مؤكَّدًا بنون التوكيد الثَّقيلة؛ للدلالة على أنَّ النزغ قد بلغ مبلغَ حدوث بدايات الغضَب وتحرك سورته، فإذا وصَل المرء إلى هذا الحدِّ، وجب عليه اللجوء إلى الله بالدعاء في طلب الحماية والحفظ وصرف الشرِّ والأذى؛ لأن الله هو الذي بيده مقاليد كلِّ شيء في الوجود، وهو على ما يشاء قدير؛ لذلك فإنَّ من قام بواجبه كما أمره الله، واستعاذ به، صادِقَ النيَّة متضرعًا له، دخل في ملجأ الله، وفي دائرة عصمته وحمايته[4]، وقـد ختم النصين بـ ﴿ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾؛ للإشارة إلى مطلبين:

1- أن تكون الاستعاذة بكلام مَصحوب بصوت مهما كان خافتًا ليُسمَع.

2- أن تكون الاستعاذة مقرونة بنيَّة صادقة، من عمق الفؤاد، جديرة بأن تعلم بأنها عبادة لله، في سلوك قلبي، فإذا تحقَّق هذان المطلبان؛ وهما الاستعاذة بصوت، مع الإخلاص في القلب - أعاذه الله، صارفًا عنه ما يجد في نفسه من ذلك، وما يجد في نفسه من أثره[5].




ومن هنا يمكن أن نفهم سرَّ التعبير في آية فصلت بقوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾، في الوقت الذي جاء في سورة الأعراف دون ضمير الفصل ولام التعريف ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]، والوجه أنَّ "التوكيد في قوله: ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ في سياق هذه الأفكار؛ أي: هو وحده الذي له كمال قوَّة السَّمع، وإحاطة العلم، لا كما يظن به أعداؤه الجاهلون أنَّه لا يسمع إن أخفَوْا، وأنَّه لا يعلم كثيرًا مما يعملون، وحسَّن ذلك أيضًا أنَّ المأمور به في سورة فصلت دفع إساءتهم إليه بإحسانه إليهم؛ وذلك أشَقُّ على النُّفوس من مجرَّد الإعراض عنهم؛ ولهذا عقبه بقوله: ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 35]، فحسن التأكيد لحاجة المستعيذ"[6].




وثمَّة ملمح آخر؛ هو أنَّ هذه الزيادة في آية (فصلت) تنبيه مشدد باللجوء إلى الله من كلِّ نزغ شيطاني؛ لأنَّ الله هو وحده في الوجود السَّميع العليم، فلا سميع في الوجود لكلِّ شيء ولا عليم بكلِّ شيء إلَّا الله تبارك وتعالى، "دلَّ على الحصر تعريف طرفي الإسناد، والتأكيد بضمير الفصل (هو)، وأداة التعريف (أل) في (السميع) و(العليم)؛ هي للكمال، الدالَّة على استغراق كل أفراد جنس السَّمع، وكل أفراد جنس العلم، وكل مستوياتهما)[7]، وفي ذلك ما فيه من تربية لحِسِّ المؤمن على مراقبة الله في هواجسه وهمساته؛ ولذلك فإنَّ الله سبحانه وتعالى أثنى على الذين يلجؤون إليه ويستعيذون به، فقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].




إنَّ المرء قد تستزلُّه المعصية أو يهمُّ بها، وقد يَغضب فيجهل، وكلُّ هذه الأمور من الشيطان، فيتذكَّر أليمَ العقاب، وجزيلَ الثواب ونِعم الله عليه، (فيدعوه كلُّ واحد من هذين الأمرين إلى الإعراض عن مقتضى الطبع، والإقبال على أمر الشرع)[8]، ونلمح في ﴿ طَائِفٌ ﴾ قراءتين؛ فقد قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب ووافقهم اليزيدي والشنبوذي: (طيْف)، وقرأ باقي القراء العشرة: ﴿ طَائِفٌ ﴾[9]، والطَّائف هو الذي يحمل الوساوس والدسائس والتسويلات التزيينية، فيطوف بها على النُّفوس، ويقذف بها في نفس فريسته، وهذا الحاصل لا بدَّ أن يكون شيطانًا، والطيف: التخيلات والرُّؤى النفسية التي قد يهيجها الشيطان ويستثيرها[10]، فبين القراءتين تكامُل في الدلالة على المعنى المراد، والنصُّ يعطينا صورةً للمؤمنين الحريصين على حِفظ أنفسهم أنَّهم إذا مسَّهم الشيطان بالوسواس والدسائس، والتسويلات التزينيَّة، وطاف عليهم بهذه المعاني أو بطيف يهيجه ويستثيره في نفوسهم، تذكَّروا ربَّهم وسلطانَه على جميع خلقه؛ فاستعاذوا به فأعاذهم، فصرَف عنهم نزغات الشيطان التي ربَّما ألقَت غشاوة على بصائرهم[11].




وقد دلَّ النصُّ على سرعة الفزع إلى الله؛ إذ في التعبير بـ ﴿ إِذَا ﴾ مع الفعل ﴿ مَسَّهُمْ ﴾ دلالة على إصابَة غير مَكينة، وإشارة إلى أنَّ الفزع إلى الله من الشَّيطان عند ابتداء إلمام الخواطِر الشيطانيَّة بالنَّفس؛ لأنَّ تلك الخواطر إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزمًا ثم عملًا[12].




وختم الآية بقوله: ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ يضيف (معاني كثيرة إلى صَدر الآية ليس لها ألفاظ تقابلها هناك، إنَّه يفيد أنَّ مسَّ الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة، ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضَبه وعقابه، تلك الوشيجة التي تصِل القلوبَ بالله، وتوقظها من الغفلة عن هداه - تذكِّر المتقين، فإذا تذكَّروا تفتَّحَت بصائرهم، وتكشفت الغشاوة عن عيونهم، ﴿ فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾)[13].




ثمَّ جاء الأمر بالاستعاذة عند فعلِ قربة من أعظم القربات، ألا وهي قراءة القرآن، يقول الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [النحل: 98]، والمعنى من وراء الاستعاذة عند ممارسة القراءة التي هي مجهود فكري، أن لا يلبِّس على القارئ قراءته، ويخلِّطَ عليه ويمنعه من التدبُّر والتفكر[14]، والصورة في ذلك أنَّ الإنسان في كلِّ ممارساته الفكرية، عليه أن يبتعد عن الوساوس الشيطانيَّة، وأن تكون ممارساته الفكرية مجرَّدة لله وحده؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ابتدأ قراءته يقول: ((أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرَّجيم؛ من هَمزِه ونَفخه ونفثه))[15]؛ ذلك أنَّ الشيطان (أحرص ما يكون على العبد عند شروعه في الأمور الفاضِلة، فيسعى في صرفه عن مقاصدها ومعانيها، فالطريق إلى السلامة من شرِّه الالتجاءُ إلى الله، والاستعاذة به، فيقول القارئ: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) متدبرًا لمعناها، معتمدًا بقلبه على الله في صرفه عنه، مجتهدًا في دفع وسواسه وأفكارِه الرديئة، مجتهدًا على السَّبب الأقوى في دفعه؛ وهو التحلِّي بحلية الإيمان والتوكل)[16].




ولعلنا يمكن أن نعرف بعضَ الحِكم من الاستعاذة عند القراءة، وهذه الحكم تتمثَّل في:

1- أنَّ القرآن شفاء لِما في الصدور، مُذهِبٌ لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإراداتِ الفاسدة.

2- أنَّ الشيطان يجلب على القارئ بخَيله ورَجِله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن؛ وهو تدبُّره وتفهُّمه، ومعرفة ما أراد المتكلِّم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأُمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عزَّ وجل.

3- أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان، عندما يهمُّ بالخير، أو يدخل فيه، فهو يشتدُّ عليه حينئذٍ ليقطعه عنه[17].




إذًا، المَعْلم الثاني من معالم الاعتصام من الشيطان هو اللجوء إلى الله، متمثلًا في الاستعاذة من الشيطان، وفي هذه الاستعاذة فائدتان:

الأولى: أنَّ الاستعاذة بالله تعالى فيها لجوء إلى الله تعالى؛ ليَنجو المرء من شرِّ تلك الوسوسة؛ ذلك أنَّه بالالتجاء إلى الله والاعتصامِ به يندفع عن المرء شرُّ هذا الشيطان وشركه؛ بل يُحبَّب إليه الإيمان ويزيَّن في قلبه.

الثانية: أنَّ هذا اللجوء إلى الله تعالى يؤدِّي إلى تذكُّر خطورة تلك الوسوسة، فيجاهدها ويتحفَّز لردِّها؛ وهذا هو دَيدن المتقين.




وهذه الاستعاذة لا تتحقَّق إلَّا بالمداومة على ذكر الله، والقيام بأوامره، وهو ما أكَّدناه في المعلم الأول متمثلًا في الثبات على الصِّراط.





[1] تيسير الكريم الرحمن - ص (559)، وينظر: الاتباع أنواعه وآثاره في بيان القرآن ج (2)، ص (546).



[2] التفسير الكبير - الرازي ج (15، ص (80).



[3] ينظر: المفردات في غريب القرآن - ص (488)، وتفسير القرآن العظيم - ج (2)، ص (290)، ومعارج التفكر ودقائق التدبر - م5، ص (121).



[4] ينظر: معارج التفكر - م5، ص (121، 122).



[5] ينظر: معارج التفكر - م5، ص (122).



[6] بدائع التفسير - ج (2)، ص (101).



[7] معارج التفكر - م5، ص (127).



[8] التفسير الكبير؛ الرازي ج (15، ص (81).



[9] ينظر: الميسر في القراءات الأربع عشرة؛ محمد فهد خاروف - ص (176).



[10] ينظر: المفردات في غريب القرآن - ص (311)، ومعارج التفكر - م5، ص (127).



[11] ينظر: بدائع التفسير ج (2)، ص (321)، ومعارج التفكر م5، ص (128).



[12] ينظر: التحرير والتنوير؛ ابن عاشور - ج (9)، ص (232).



[13] في ظلال القرآن؛ سيد قطب - م3، ص (1420).



[14] ينظر: تفسير القرآن العظيم؛ ابن كثير - ج (2)، ص (507).




[15] أخرجه أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك ج (1)، ص (206).



[16] تيسير الكريم الرحمن - ص (449).



[17] هذه بعض الفوائد والوجوه التي ذكرها ابن القيم، وينظر كلام طويل له في بدائع التفسير ج (3)، ص (52 - 57).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 32.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.88%)]