عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 13-02-2019, 09:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,074
الدولة : Egypt
افتراضي رد: انصهار العلم والثقافة

انصهار العلم والثقافة

مفتاح القرن الحادي والعشرين


للدكتور المهدي المنجرة


احترام التعدد الثقافي:
لن تهتم الأجيال المقبلة في العالم الثالث بالاتصال الثقافي ذي الاتجاه الواحد، فهي غير مصابة بمركبات النقص التي كانت في الأجيال السالفة، والتي كانت تظن أنها لن تستطيع أن تفرض نفسها ثقافيًّا إلا بالتمكن أولاً من ثقافة "الآخرين"، لقد تولَّد عن هذا المسعَى أشكال مختلفة من الاستلاب الثقافي، والتي هي من أسباب التخلف الاقتصادي والعلمي في العالم الثالث، ولا يمكن للغرب أن يستمر في الاعتماد على التمتع "بشيك لا محدود" (Cheque en blanc) في ميدان الاتصال الثقافي دون مقابل يتطلب على الأقل - مهما صغر - انتقالاً حقيقيًّا، ربما سنكون عندئذٍ في مستوى تقليص ما سماه البروفيسور "ناكامورا" (Nakamura) "السلبية الثقافية".
لهذا كان وصلُ العلم بالثقافة وانصهارهما شرطًا للاتصال والبقاء، إنها ضرورة نسقَيَّة، خاصة وأن أزيد من 50% من اليد العاملة ذات التكوين العالي بمستوى الدكتوراه ستكون من هنا إلى آخر القرن من أصل غير غربي.
إنه اتجاه لا رجعةَ له، يُعزَى إلى الديموغرافية وإلى عوامل ابتدائية أخرى، بل في الولايات المتحدة أكثر من نصف الوافدين على سوق العمل سنة 1988، والمتوفرين على تكوين في مستوى الدكتوراه أو أعلى من ذلك - لم يكونوا من أصل أمريكي، والخاصية الأساسية للقرن الواحد والعشرين هي زوالُ أوروبيَّةِ العلم والثقافة، انطلاقًا من الولايات المتحدة الأمريكية.
فمنذ أزيد مِن عشرين سنة - وبمناسبة افتتاح مؤتمر الأمم المتحدة حول تطبيق العلم والتكنولوجية في التنمية - أدلى "روني ماهو" (Rene Maheu) - المدير العام وقتئذٍ لمنظمة اليونسكو - بتصريح هو أشد تبريرًا اليوم من ساعتئذٍ[9]، قال فيه: "لا علميَّة للمعرفة إلا بالروح التي هي (أي المعرفة) من نتائجها، والتي وحدها تعطيها معنى لدى الإنسان، ومغزًى حين تطبيقها على الأشياء، فالعلم ليس شكلاً من الصيغ والوصفات التي من تلقاء ذاتها تمنح الإنسان سلطات مجانية على المخلوقات...، ومشكلة التقدم التكنولوجي للجهات التي ما زالت تشكو من نقص في التنمية لا يمكن حلُّها جذريًّا باستيراد التقنيَّات الأجنبية أو الإدخال على عجل للعلوم التطبيقية الجاهزة بشكل من الأشكال، فلا يمكن للتقدم أن يتحقق بصورة جذرية إلا بالخلق والدعم، حسب سياق ينمو داخليًّا في قلب الحقيقة الإنسانية للمجتمعات المعنية من الوجهتين الثقافية والاجتماعية للعلم"[10].
ويضيف "روني ماهو" قائلاً:
"إن العلم في حد ذاته مجتمع، مجتمع يحتوي على شيء رائع، هو امتلاكه موهبة عالمية، وبذلك فهو يعد ويشكل إنسانية الغد، لكن لا يستطيع هذا المجتمع البزوغ والازدهار في أي سياق كان".
ليسمح لنا بالرجوع إلى "ماهو" مرة أخرى، ففي مقدمته لـ "تاريخ التنمية العلمية والثقافية للإنسانية" المنشور من طرف اليونسكو تحت إشراف الأستاذ "ب. ب. كرنييرو" (CarneiroP.B.) من البرازيل، كتب "ماهو" في غشت 1962:
"كل فعل للثقافة والعلم - أيًّا كانت مادته أو وسائله أو دوافعه، أو حججه، أو ظروفه - هو أساسًا فكرة من الإنسان حول الإنسان".
لم يُفهَم "ماهو" بصفته مديرًا عامًّا لليونسكو من طرف المديرية البيروقراطية لمنظومة الأمة المتحدة، سواء تعلق الأمر بالكتابة الدولية أو بممثلي الدول الأعضاء. لو فُهم، لتمكنا من ربح سنوات من الجهد، ومئات الملايين من الدولارات، بتخلِّينا ببساطة عن الوهم الذي يدعى "نقل التكنولوجية"، لقد كان "ماهو" - فيما نعتقد - أول من استعمل مفهوم التنمية "الذاتية" (endogene) في سياق اجتماعي - ثقافي، خصوصًا حينما تكلم عن العلم.
ودون أن نبخَسَ مبدأ المفعول المرجعي بين العلم والثقافة حقَّه، فإن العلم لا يمكن نقله لأنه نِتاج نسق ثقافي، فالقيم الثقافية هي التي تحدد الفكر العلمي والإبداع والابتكار، فلا يمكنك شراء ولا نقل مثل هذه المخرجات (outputs) دون أن تتوفر لديك المدخلات (inputs) الثقافية التي تمكِّن من الفهم والهضم والإضافة إلى القيم الذاتية للمنقولات، وإلا فلن تشتري إلا لعبًا! لهذا فإننا نرى أن أحسن تحديدٍ للتنمية هو ذاك الذي قدمه "ماهو" حين كتب: "التنمية هي العلم حين يصبح ثقافة"، وهذا ما أريدُ قولَه بانصهار العلم والثقافة؛ فالعلم والتكنولوجيةُ ليسا المحركَ الأول للتغير الاجتماعي، فهما لا يعدوان أن يكونا الخميرة فقط أو المعجل لمثل هذه التغييرات الحاصلة بواسطة الجينات الوراثية للتغيير: القيم الثقافية.
إن القيم الثقافية تجعل التغيير يسير من خلال تمكين الأفراد من استيعاب العلم والتكنولوجيا، واجتناب أن يدعما الجور الحاصل في تقسيم العمل، ذلك الجور الذي يمكن أن يتولد عنه نظام من الطبقات، مع تكنوقراطيين يعرفون "ماذا"، ويجهلون "كيف" و "لماذا"، وجموع من الأميين العلميين عاجزة عن المشاركة ديموقراطيًّا في نسق القرارات الحاكمة في تطور وتمويل العلم والتكنولوجيا، وهو الشيء الحاصل بالفعل.
فلعل تطور هذا النظام من الطبقات يشجع على قطيعة ما بين وجهات النظر الفيزيائية والإنسانية الممزقة لثقافتِنا؛ لأن وجهة النظر الإنسانية هي في عجز متزايد لفهم العالم الفيزيائي، وليس ذلك خطأ العلم ولا التكنولوجيا، ولكنه حصيلة تقصير في نظم التعلم عندنا ناتج عن نقص في مؤسساتنا التربوية.
عدم توافق المؤسسات ونظم التعلم:
لم يَعُدْ لدينا الوقت ولا المناهج البيداغوجية اللازمة لهضم وإدماج مراحل السبق العلمي والتكنولوجي، ومن ثَمَّ اتساع الفجوة بين التقدم العلمي والتكنولوجي وتطبيق نتائج هذا التقدم بشكل توافقي اجتماعيًّا وثقافيًّا، جزء كبير من هذه الفجوة نابع من وتيرة التغيير العلمي والتكنولوجي بالنسبة لفتور المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية - الثقافية في مواجهة مثل هذا التطور.
فكيف يمكننا أن نقتحم القرن الواحد والعشرين بفلسفة سياسية ترجع للقرن الثامن عشر، ومؤسسات سياسية ترجع للقرن التاسع عشر، من ضمنها "الدولة - الوطن"، وأسطورة "السيادة"، ونسق للقرار قد يبدو ديمقراطيًّا ولكنه صُمِّمَ لعالم لم يعُدْ موجودًا إلا في كرَّاسات القانون الدستوري والقانون الدولي، هذا دون الكلام عن ميثاق الأمم المتحدة؟!
تلك هي بعض الأسباب لتخلف بنياتنا وأنساقنا العقلية، ولعجزنا عن مواجهة التحديات التي تقابلنا منذ عقد أو اثنين من الزمن، والمزدادة خطورة شيئًا فشيئًا.
والمقلق للغاية هو أننا نلاحظ استثناءين للتحليل السابق: القطاع العسكري للدول العظمى، والشركات المتعددة الجنسية، فالعسكريُّون يشجعون ويترجمون التطورات العلمية والتكنولوجية إلى واقع ملموس ومخرّب عمليًّا، إنهم يستنفرون ويديرون أكبر الموارد البشرية والمالية المخصصة للعلم والتكنولوجية (أزيد من 60%).
فبفضل مفاهيم "الأمن القومي" على الشكل الصريح التصنع لمقاولاتها، وللأمية العلمية لأغلب أصحاب القرار المنتخبين، فإن المؤسسات العسكرية للدول "العظمى" خالية بالفعل من مراقبة ديموقراطية حقيقية، ومن مراقبة وتقييم خليقين بالثقة؛ ولعل هذا ما يفسر جزئيًّا الابتكار والإبداع اللذين ينعشُهما البحث العلمي والتكنولوجي في القطاع العسكري، وتوظيف العدد الهائل من العلماء الذين لا يجدون نفس الحرية ولا نفس التجهيزات ولا نفس الإمكانيات المالية في المؤسسات الجامعية.
أما الشركات المتعددة الجنسية، التي تعمل بارتباط متين مع القطاع العسكري في بعض الحالات، والتامةُ الإدراك لأهمية البحث والتقدم من أجل إنتاج وتسويق منتجاتها واكتساح الأسواق، والملمِّة بقيمة الموارد البشرية الكفأة والمرتفعة التكوين، فإنها تمكنت من تطوير مناهج للتدبير وأنساق للتعلم جد ملائمة، مع تدخل ضئيل لـ "الدولة - الوطن".
والإشارة لهذين الاستثناءين هي مجرد ملاحظة بسيطة، وليست حكمًا ذا قيمة.
إنها تُظهر أن التغيير والتعلُّم المتلائمين ممكنان، ولكن ليس في القطاعات التي هي في أمس الحاجة لذلك، كما أنها - أي الإشارة - تمكن من تسجيل الرفض من طرف أصحاب القرار القوميين والدوليين "المرخص" لهم بالتطرق لـ "الإشكالية" الجديدة للبشرية بكيفية عامة مصحوبًا بالتفكير في رغد الإنسانية جمعاء.
أزمة نظم الضبط:
مشكل القيم الثقافية يطرح حينما نرى أنه في الوقت بالضبط الذي يجتاز فيه العالم أزمة "الحاكمية" الناتجة عن النقص في "المعايير والمسطرات" الدولية الملائمة من الوجهة الفيزيائية والأدبية، وعن النقص في الوظائف الضابطة الخلقية الهادفة لقصد معين، تشجِّعُ الدول الاقتصادية الكبرى، وتفرض المؤسسات المالية الدولية - من جانب واحد - اختلالاً من النوع التحرري الجديد.
والاهتمام الذي نوليه لمشكل المعايير والوظائف الضابطة هو اهتمام مجرَّد من كل حكم أيديولوجي مسبق، بل هو ببساطة مشروط بقلق لتوضيح المساعي كعلة وجود لأي نظام، وقلق فلسفي وعملي لمعرفة من ينبغي أن يشارك في تحديد هذه المساعي والإشراف على النظام المجتمعاتي.
فكل مفتون بالقيم التي تقتضيها "الحرية" ضمنيًّا، لا يمكنه أن يستمر في عدم اكتراثه بنسق الاختلال المعرض الحرية للخطر بتشويه مفهومها الأكثر تبسيطًا.
إنها مشاكل قيم ثقافية أكثر مما هي مشاكل اقتصاد، فكيف يمكننا الوصول لـ "تنمية دائمة" دون إجماع حول الحد الأدنى من المعايير والقواعد؟
إننا ها هنا أمام إشكالية لأزمة أخلاقية، لنأخذ مثلاً موضوع المديونية في بلدان العالم الثالث: كيف يمكننا ليس فقط القبول بأن تكون مديونية الولايات المتحدة نحو الخارج أزيد من نصف بليون دولار، ولكن أن نفسِّر عقلانيًّا بأن هذا الحجم الضخم من الدين الخارجي، والعجز المالي القومي الفاحش، هما اللذان يجلبان رؤوس الأموال الأجنبية إلى الولايات المتحدة، ويحافظان على إثبات مستوى قيمة الدولار، ثم نقيِّم المشاكل الاقتصادية والمالية لدول أخرى انطلاقًا من مقاييس مختلفة تمامًا؟
إن الحجج المتعلقة بالنشاط الاقتصادي والمالي والفلاحي والصناعي للولايات المتحدة، والصالحة لعشر سنوات مضت، لم تعد كذلك؛ ففي سنة 1988 كان لليابان نشاط إجمالي متجاوز لمثيله في الولايات المتحدة، وبتَعداد سكاني يصل إلى نصف سكان الولايات المتحدة! والعشر أبناك الأولى في العالم هي يابانية في بلد لا يتجاوز هذا النوع من المؤسسات فيه 58 بنكًا، مع وجود 14000 بنك في الولايات المتحدة! والثلاثة عشر بنكًا الأولى في اليابان مجتمعة تكون رأس مال إجمالي يفوق نصف بليون من الدولارات (نفس حجم الدين الخارجي للولايات المتحدة)، بيْدَ أن الخمسين بنكًا الأولى بالولايات المتحدة يقل رأسمالها مجتمعة عن مائة مليار من الدولارات[11]!
هذه الإحصائيات تسعى ببساطة إلى البرهنة على أنه لم تَعُدْ هناك مقاييس "عقلانية" لتقييم الحالة الاقتصادية والمالية العالمية.
ونتمسك بقولنا: إن المشكل أخلاقي ومعياري؛ أي إنه مشكل قيم ثقافية أكثر مما هو مشكل قيم اقتصادية.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.51 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.50%)]