عرض مشاركة واحدة
  #1671  
قديم 01-01-2014, 08:51 PM
الصورة الرمزية القلب الحزين
القلب الحزين القلب الحزين غير متصل
& كــ الخواطــــر ــلـــم &
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
مكان الإقامة: هناك .. الحزن مدينة لا يسكنها غيري .. أنـــا ...!! كان هنـــا !!^_^ 10
الجنس :
المشاركات: 6,024
الدولة : Yemen
افتراضي رد: موسوعة الشفاء للإعجاز العلمي فى القران والسنه .. بالإضافه الى اخر المقالات المنشو

المنهج العلمي المعاصر في ضوء القرآن الكريم

أ.د/ أحمد فؤاد باشا(1)
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فإن البحث العلمي واحد من أوجه النشاط المعقدة التي يمارسها العلماء باستقصاء منهجي في سبيل زيادة مجموع المعرفة العلمية وتقنياتها، لكن أغلب المشتغلين بالبحث العلمي في مجال العلوم الطبيعية يعتقدون أن أي دراسات منهجية في كيفية إجراء البحث العلمي لا يمكن أن تأتي بفائدة تعادل التدريب الذاتي للباحث، والاسترشاد بخبرات المتمرسين في ميدان اهتمامه، عند معادلة المراحل الفعلية في البحث. أما المنظرون ـ من ناحية أخرى ـ فيرون أن علمية البحث العلمي إذا ما تركت تماماً للتجارب الشخصية والممارسات العفوية المضيعة للوقت والجهد، فإنها لن تؤتي أبداً كامل أكلها، ولهذا يسعى هؤلاء المنظرون ـ من العلماء والفلاسفة والمناطقة ـ إلى تحليل الطرق التي تمت بها الكشوف العلمية، واستنباط بعض التعميمات من آراء العلماء الناجحين لتكون بمثابة قواعد عامة للإرشاد والتوجيه، أو مناهج في البحث العلمي.
وبطبيعة الحال، تتطلب فروع العلم المختلفة مناهج مختلفة، ومع ذلك فهناك بعض المبادىء الأساسية والأساليب الذهنية التي تشترك فيها أغلب أنواع البحث العلمي. ويطلق على العلم المعنى بطرائق ومناهج البحث في العلوم، للوصول إلى الحقيقة العلمية أو للبرهنة عليها، اسم ( علم مناهج البحث ) ( الميثودولوجيا methodology)، وهو يندرج عادة ضمن موضوعات (فلسفة العلم) التي اتسع نطاق اهتمامها في العصر الحاضر ليشمل دراسة وتحليل كل ما يتعلق بالعلوم ولغتها وتطورها وتقنياتها من مختلف النواحي المعرفية والمنهجية والقيمية والأنطولوجية والاجتماعية والتاريخية وغيرها، وذلك بهدف التعرف على مكانة العلم في حياتنا ودوره في تكوين نظرة الإنسان الشاملة إلى قضايا الوجود والحياة.
والطريقة المتبعة في تكوين علم المناهج منذ نشأته إبان العصور الحديثة تتم عادة بالتنسيق بين خبرة العالم المتخصص في علم من العلوم، وبراعة الفيلسوف أو المنطقي الذي يبحث في تطور العقل الإنساني والتعرف على ملكاته المتعددة، وينحو نحو التعميم واستخلاص الخصائص العامة للمناهج المتبعة في فروع العلم المختلفة، ثم يحاول أن يصوغ نتائجه النهائية على هيئة مذهب في العقل الإنساني من حيث طبيعة اتجاهاته في البحث عن الحقيقة. لكن الصورة المثالية لتحقيق ذلك التنسيق على أكمل وجه بين العلماء والفلاسفة والمناطقة ظلت دائماً المنال، وظهر في هذه الأثناء كثير من الخلط بين المفاهيم والرؤى التي جعلت معالم علم مناهج البحث غير واضحة تماماً في أذهان المثقفين، ناهيك عن مواطن الغموض والقصور التي يزخر بها هذا العلم، حتى بالنسبة لمن يمارسونه بحثاً وتدريساً وتأليفاً.
ويكفي دليلاً على بعض أوجه اللبس والغموض في علم مناهج البحث بصورته الواقعية أن نشير إلى عدد من التساؤلات التي يثيرها في الذهن استخدام ألفاظ من قبيل (المنهج) و(المنهجية) و(الأسلوب العلمي) في جانب كبير من الأدبيات الحديثة التي تعالج قضايا الفكر الإسلامي. هل المقصود هو حصر معاني هذه الألفاظ ومدلولاتها في إطار العمليات المنطقية الاستدلالية من قياس واستقراء واستنباط... الخ؟ أم المقصود مجموعة الوسائل والخطوات الإجرائية التي يمارسها الباحث بالفعل، ويطوعها من مرحلة إلى أخرى خلال بحثه؟ وهذه الوسائل تختلف بطبيعة الحال من علم إلى آخر؟ أم يكون المقصود ( بالمنهج العلمي ) تلك الطريقة الخاصة التي يسعى إليها كل باحث ويستخدمها في طرح وتناول المشكلات الموضوعية قيد البحث؟.
وأمام هذه التساؤلات الثلاثة تبقى علاقة الذات بالموضوع هي الأخرى موضعاً للاستفسار: هل يشترط أن يسقط الباحث أيديولوجيته على موضوع بحثه، ويراعي الاتجاه النظري الذي ينتمي إليه داخل هذا الميدان أو ذاك من ميادين المعرفة، وأن يكون واعياً بالتزامه بمنظور فلسفي يختاره ويؤثره على غيره، ومتسقاً في بحثه مع مذهبه أو وجهة نظره، فلا مكان للحيدة الفلسفية إزاء ما يطرح من قضايا أو مواقف؟ أم أن الباحث وفق منهج علمي يجب أن يكون خالي الذهن من أي مذهب مسبق يمكن أن يؤثر على سير أبحاثه؟.
ثم ما هذا اللبس والغموض والاضطراب الذي يتخلل أحاديث المفكرين الإسلاميين، وينتشر في ثنايا مؤلفاتهم عندما يخلطون بين ( المناهج ) بصيغة الجمع، و(المنهج) بصيغة المفرد، وهل ما لدينا هو منهج إسلامي واحد أم مناهج متعددة؟.
وأين هو النموذج الإسلامي للمنهج العلمي الذي يمكن القياس عليه والرجوع إليه في كل علم من العلوم، أو يمكن أن نعلمه لطلاب المدارس والجامعات العربية والإسلامية في مقابل ما يدرسونه من نماذج وضعية منقوصة تدعي القدرة على تفسير حركة العلم والمعرفة، وتزعم أنها لا تقطع الطريق على الابتكار لنظريات جديدة، رغم أنها في حقيقتها تفرض رؤية معينة للأشياء، وتحدد منطقاً هلامياً للكشف العلمي ونطاقاً محدداً للخبرة الإنسانية، ومن أمثلة هذه النماذج ما يعرف باسم ( النموذج الكوهني ) (kuhnian pattern) ومنطق الكشف العلمي لكارل بوبر، اللذين يروج لهما كثيراً كما تطرق الحديث إلى نظرية العلم ومنهجه؟.
وهل صحيح ما يوهمنا به علماء المناهج من أن قضية المنهج العلمي قد بتّ فيها ولم تعد تحتاج إلى نظر جديد، وأنه ما علينا ـ إذا أردنا أن نجني ثمار البحث العلمي كما يجنيها غيرنا ـ إلا أن نعرف ذلك المنهج الذي ألفوا ترديده منسوباً إلى بيكون وميل وديكارت، حتى أوشكنا على تصوره لائحة أو قائمة بالتعليمات والإرشادات التي لا ينبغي الانحراف عن تطبيقها، وكأنها طائفة من الوصفات المجربة الناجحة، يتعين على أي باحث الالتزام بها في المجالات التي يريد دراستها ويسعى إلى إدراك شيء عن حقيقتها؟.
وأخيراً، ما السبب في هذا الخلل الواضح الذي أصاب ميزان الإنتاج الفكري في هذا الموضوع، حيث تميل الأقلام كثيراً إلى تناول مناهج البحث من الزاوية الفسلفية أو المنطقية على حساب جوانب أخرى على نفس الدرجة من الأهمية مثل سيكولوجية البحث العلمي، وخبرة العلماء الذاتية في ممارسته عملياً، ناهيك عن غياب معالجة كل هذه الجوانب معالجة تحليلية مقارنة ومن منظور إسلامي رشدي؟.
كل هذه التساؤلات التي أودناها تشير إلى مدى الفارق الكبير بين الصورتين: المثالية والواقعية لمناهج البحث في العلوم المختلفة بصورة عامة، وفي العلوم الطبيعية والرياضية بصورة خاصة. وإن نظرة فاحصة إلى كتابات المتخصصين في العلوم وفلسفتها على حد سواء يمكن أن تدلنا على حقيقية هامة مؤداها أن مناهج البحث العلمي ليست أبداً قواعد ثابتة، بل هي تتغير تبعاً لمقتضيات العلم وأدواته، وتكون قابلة للتعديل المستمر حتى تستطيع أن تفي بمطالب العلم المتجددة، وإلا فإنها تكون عبئاً على حركة العلم وتقدمه.
كما أن العلوم المعاصرة ـ من ناحية أخرى ـ قد بلغت درجة من التشابك والتداخل فيما بينها، بحيث يصعب معها الفصل التام بين أصول المنهج الثابتة، وفروعه القائمة على جدلية العلاقة المتغيرة بين الملاحظة التجريبية وتفسيرها العلمي أو المنطقي. وتظل تفاصيل المناهج الفرعية في تطورها وتغيرها مرهونة بالظروف التقنية في معامل البحث والاختبار، ومعتمدة على طبيعة الموضوعات محل الدراسة التي تختلف من علم إلى علم، بل وتختلف في داخل العلم الواحد.
وكل أنواع المناهج الفرعية تعتبر في حقيقتها خطوات لمسائل جزئية في منهج واحد عام هو المنهج العلمي الذي يدفع مسيرة التحصيل المعرفي والتقدم العلمي والتقني، على أن يكون المعيار في قياس سلامة أي منهج هو قيمته الحقيقية التي يكتسبها من نجاح العلم في بلوغ نتائجه وتحقيق غايته، بالاستناد إلى مسلمات ثابتة، تنطلق منها بنية المنهج الأساسية، وتأخذ في اعتبارها عملية التصحيح المستمرة لتلك العلاة المتتامية والمتبادلة بين الذات الباحثة وموضوعات البحث المختلفة المنبثة في جنبات الكون الفسيح[2].
تلك كانت بعض الأسباب التي دعتنا إلى القيام في هذه الدراسة بمحاولة أولية تهدف إلى وضع تصور لنسق[3]إسلامي ينتظم مختلف مناهج البحث العلمي، نستوحي خصائصه العامة منباشرة من خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ونستمد عناصره الرئيسية من واقع مشكلات البحث العلمي وتاريخه، وتشكل وحداته البنائية على أساس الثوابت والمتغيرات المعروفة في الأطر الفكرية والعملية للعلوم الطبيعية والتقنية، وتيح من خلاله مجالاً أرحب لإعداد الباحث العلمي الجديد، واستفادة أكبر من السبل التي يسلكها الباحثون أنفسهم.
إسلامية المنهج العلمي:
إن الأخذ بالمنهج الإسلامي في مجالات البحث العلمي يجب ـ في اعتقادنا ـ أن يقبل على أنه حقيقة منطقية وضرورة حضارية، أما القول بأن إسلامية المنهج العلمي حقيقة منطقية فيكفي شاهداً على صحته أن علوم الكون والحياة إسلامية بطبيعتها، لأن موضوعات البحث فيها هي كل ما خلق الله في كتابه المنظور. كما أن قراءة التراث الإسلامي تدلنا على أن المسلك الذي اتبعه علماء الأصول وعلماء الحديث في الوصول إلى الصحيح من الوقائع والأخبار والأقوال قد انسحب على أسلوب التفكير والتجريب في البحث العلمي، فنرى على سبيل المثال أن الحسن بن الهيثم قد استخدم الاستقراء وقياس الشبه في شرحه لتفسير عملية الإبصار وإدراك المرئيات حيث يقول: ( لا يتم الإدراك إلا بتشبيه صورة المبصر بصورة قد أدركها المبصر من قبل، ثم إدراك التشابه بين الصورتين، ولا يدرك التشابه بين الصورتين إلا بقياس ) كما نجد ابن الهيثم يستعمل لفظ الاعتبار ( وهو قرآني ) ليدل على الاستقراء التجريبي أو الاستنباط العقلي.
وهذا أبو بكر الرازي يصف منهجه في تعامله مع المجهول مستخدماً الأصول الثلاثة ( الإجماع ) والاستقراء، والقياس، فيقول: ( إنا لما رأينا لهذه الجواهر أفاعيل عجيبة لا تبلغ عقولنا معرفة سببها الكامل، لم نر أن نطرح كل شيء لا تدركه ولا تبلغه عقولنا، لأن في ذلك سقوط جل المنافع عنا، بل نضيف إلى ذلك ما أدركناه بالتجارب وشهد لنا الناس به، ولا نحل شيئاً من ذلك محل الثقة إلا بعد الامتحان والتجربة له... ما اجتمع عليه الأطباء وشهد عليه القياس وعضدته التجربة فليكن أمامك[4].
وأما قولنا بأن إسلامية المنهج العلمي ضرورة حضارية فذلك لأن إسلامية المنهج، أو أسلمته، من شأنها أن تخلع عليه من خصائص الإسلام ما يجعله عالمياً وصالحاً للتطبيق في كل زمان.
فالتصور الإسلامي يوحي بأن الحركة الدائبة والتحول المستمر هو الناموس الثابت المطرد لهذا الوجود الحادث الفاني، وهو بصفة خاصة قانون الحياة وقاعدتها... ومن ثم يوجه النظر إلى هذه الحركة الدائبة، وهذا التحول المستمر في الكون والحياة، وما يطرأ عليهما دائماً من تقلبات وأطوار، ولكنه ينسب كل شيء إلى مشيئة الله وقدره، فيخرج بذلك من كل المتناقضات التي تعانيها الفلسفات الوضعية والتي لم تجد لها حلاً شاملاً[5].
ونعتقد أن إدراك المسلمين الأوائل لهذه الحقيقة بكل أبعادها الإيمانية كان السبب الأول لتقدمهم ورقيهم، بعد أن وجدوا في مبادىء الإسلام كل مقومات الازدهار العلمي والحضاري، وهدتهم تعاليم الدين الحنيف إلى أصول المنهج العلمي السليم[6].
وعندما انتقلت العلوم الإسلامية إلى أوربا، فطن علماؤها إلى سر تقدم المسلمين، وسعوا إلى اتباع منهجهم بعد أن وجدوه سمة العلوم في الحضارة الإسلامية، وقال (روجير بيكون ) في ذلك: إنه باتباع المنهج التجريبي الذي كان له الفضل في تقدم ( العرب )، فإنه يصبح بالإمكان اختراع آلات جديدة تيسر التفوف عليهم... ففي الإمكان إيجاد آلات تمخر عباب البحر دون مجداف يحركها، وصنع عربات تتحرك بدون دواب الجر، وإيجاد آلات طائرة يستطيع المرء أن يجلس فيها ويدير شيئاً تخفق به أجنحة صناعية في الهواء مثل أجنحة الطير[7].
لكن النهضة الأوروبية لم تأخذ من العلوم الإسلامية سوى الجانب المادي من منهجها التجريبي وتتنياتها، وتركت جانباً الإيمان الذي يوجهها نحو الله تعالى، ويسخرها لخدمة البشر؟. ولذا فإن العلم في الحضارة المادية الحديثة والمعاصرة، بتخليه عن الإيمان والسمو الروحي، قد اعتبر قيمة حقيقة مطلقة في حد ذاته، وبالغ الناس في تقديسه وتمجيده على أساس أنه هو القوة القادرة على تحقيق الجنة الموعودة للإنسان على الأرض. فأنصار هذه النزعة العلمية المتطرفة (scientism) يردون كل شيء إلى العلم، ولا يسلمون إلا بالمنهج العلمي والحقيقة العلمية.
كذلك أصبح التطور الكمي للعلم والتقنية غاية في حد ذاته، ونشأت ( النزعة التقنية المتطرفة Technocracy) التي يرمي من أنصارها من التقنيين والخبراء الفنيين إلى فرض سيطرتهم باعتبارهم الأحق في هذا العصر بإدارة المجتمع واتخذا القرارات الكبرى بشأنه. وأمام هذا التطرف العلمي، وفي مقابله ظهرت حركات عقلية جديدة تدعو إلى ( اللاعلمية Antiscience) وتحارب الانغماس الأعمى في ماديات الحضارة الصناعية، وترفع صيحات التحذير من أن اطراد التقدم العلمي والتقني بدون النظر إلى صلته بمعنى الحياة الإنسانية سوف ينتهي بالإنسان إلى القضاء على حضارته، بل إن بعض هذه الحركات المناهضة لتقديس العلم والتقنية أخذت تدعو إلى الهروب من الحضارة المعاصرة بكل ما فيها من مظاهر مادية خادعة، ورفعت شعارات العودة إلى الفطرة[8].
من هنا كانت إسلامية المنهج العلمي، أو أسلمته، ضرورة حضارية ملحة لضمان مواصلة التقدم العلمي والتقني مع الحفاظ على إنسانية الإنسان.
ذلك لأن الإيمان الخالص والسمو الروحي يأتيان في مقدمة الخصائص التي يتميز بها المنهج العلمي الإسلامي، وإليهما تعزى كل القوى الدافعة لملكات الباحث العلمي على طريق الإبداع والابتكار. فالإيمان الخالص هو الذي يجعل العقل أقدر على كشف الحقيقة العلمية، وأكثر تهيؤاً لاستقبالها وقبولها. وهل الكشف العلمي إلا حل لمشكلة يظفر به الباحث بعد عناء تحليل منهجي شاق ودقيق، أو يناله في فكرة طارئة، أو في رؤية تتراءى له، أو يخطر له في حلم أو إلهام.
وإذا كان ما حدث في الغرب من انزواء لعلوم الدين في أركان الكنيسة يتعلق بالصراع بين الكنيسة والعلماء، فإنه من الخطأ أن يسود الاعتقاد بأن الانفصال بين العلم والدين شرط من شروط قيام الحضارة، أو أن العلم بفروعه المختلفة لا يمكن غلا أن يكون ( علمانياً ). لقد أدى هذا الاعتقاد الخاطىء في بلاد المسلمين إلى حالة من الركود العلمي شُلّت في ظلها كل مقومات الإبداع والابتكار في مختلف مجالات النشاط الإنساني[9].
ولم يعد أمامنا الآن سوى الأخذ بالمنهج العلمي الإسلامي الذي سبق لأسلافنا أن صنعوا به حضارة تزهو على كل الحضارات. فهو الأقدر على إذكاء روح الصحوة الإسلامية الحضارية، وعندئذٍ سيكون له أجل الأثر في تصحيح وجهة العلوم لدى عقلاء الغرب ومفكريه إذا ما درسوا الإسلام في حقائقه، واستفادوا من منهجه في إصلاح شؤون حضارتهم.
الثوابت والمتغيرات في المنهج العلمي:
سبق أن ذكرنا أن تصورنا العام لبيئة المنهج العلمي الإسلامي سوف نستلهمه مباشرة من خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، وذلك انطلاقاً من الإيمان التام بأن الثوابت والمتغيرات الإسلامية يجب أن تكون هي الإطار الذي يحكم كل مناهج النظر في قضايا الوجود والفكر، والمعيار الذي يحدد ضوابط التطبيق الإنساني لتلك المناهج بما يحقق إرادة الله سبحانه وتعالى في إعمار الحياة على الأرض. فالإسلام يتميز عن كل ما عداه من الشرائع السماوية ـ أو الفلسفات والمذاهب الوضعية ـ بخاصية التوازن بين الثبات والتطور والجمع بينهما في تناسق مبدع، واضعاً كلاً منهما في موضعه الصحيح... الثبات فيما يجب أن يخلد ويبقى من أهداف وغايات وأصول وكليات، والمرونة فيما ينبغي أن يتغير ويتطور من وسائل وأساليب وفروع وجزئيات. ذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد شرع المنهج الإسلامي للكينونة البشرية كلها، في جميع أزمانها وأطوارها، ليكون أصلاً ثابتاً تتطور هي في حدوده، وترتقي وتنمو وتتقدم دون أن تحتك بجدران هذا الإطار. وما ينطبق على المنهج الإلهي الذي أخبر الله به عباده ينسحب كذلك على الصنعة الإلهية في الكون كله، فحركة الحياة والفكر تستمر وتتسارع داخل إطار ثابت وحول محور ثابت. ومادة الكون في مجموعها ثابتة، وإن اتخذت أشكالاً مختلفة دائمة التغير والتطور. وجوهر الإنسان واحد، وإن تقدمت معارفه وتضاعفت إمكاناته، فهو يمر بأطوار شتى يرتقي فيها وينحط حسب اقترابه أو ابتعاده من جوهر إنسانيته.
إن الثوابت الإسلامية هي التي تضبط الحركة البشرية والتطورات الحيوية فلا ينفلت زمامها كما وقع لأوروبا عندما أفلتت من عروة العقيدة، كما أن الثوابت الإسلامية هي التي تصون الحياة البشرية، وتضمن مزية تناسقها مع النظام الكوني العام، وتحكم قوانين التطور فلا تتركها على إطلاقها[10].
وعندما نعرض الآن لبناء منهج علمي في ضوء هذا التصور الإسلامي، فإنه يتعين علينا قبل كل شيء أن نحدد الثوابت والمتغيرات الفكرية والعملية لهذا المنهج، ويكون من السهل بعد ذلك توصيف المناهج الفرعية للعلوم المختلفة في إطار النسق الإسلامي لبنية المنهج العلمي العام بأصوله وكلياته.
( أ ) ثوابت فكرية إيمانية:
ونعني بها مجموعة المسلمات والقضايا الأساسية التي يتعين على الباحث أن يسلم بصحتها منذ البداية، وأن ينطلق منها في كل عمليات التفكير العلمي قبل شروعه في ممارسة البحث والتنقيب عن سر ظاهرة ما من الظواهر التي يعمد إلى دراستها. ومثل هذه المسلمات تعتبر ـ في رأينا ـ مقدمة ضرورية في بنية النسق الإسلامي لمناهج البحث العلمي، وذلك لفائدتها العظمى في تهيئة الباحث الجيد، وتزويده بمبادىء بسيطة أو مركبة، تساعده على تكوين النظرة الكلية الشاملة، ولا تؤدي أبداً إلى تناقض مهما بلغت مسيرة العلم وإنجازات التقنية ويمكن إجمال هذه الثوابت فيما يلي:
1ـ التوحيد الإسلامي:
التوحيد[11]هو أول الثوابت الإسلامية ومصدر باقي المسلمات الفكرية والإيمانية، طالبنا الحق سبحانه وتعالى به في أول ما نزل من آيات القرآن الكريم، ليكون بمثابة نقطة الانطلاق وحجر الزاوية في بناء أي نسق علمي سليم يوجه رؤية الإنسان الصائبة لحقائق الحياة والفكر والوجود، ويساعده على فهم وقراءة كلمات الله القرآنية في كتابه المسطور، وكلماته الكونية في كتابه المنظور[12].
قال تعالى: )اقرأ باسم ربك الذي خلق ([سورة العلق: 1].
وقال سبحانه: )إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ([سورة يس: 82].
وعقيدة التوحيد الإسلامي هي التي تحفظ كرامة الإنسان وتكريمه بإخضاعه للخالق الواحد جل وعلا، وتحرره من سلطان العقائد الوثنية أو المذاهب الوضعية.
فالله سبحانه وتعالى هو الحق المطلق، وهو مصدر كل الحقائق المعرفية الجزئية التي أمرنا بالبحث عنها واستقرائها في وحدة النظام بين الظواهر الطبيعية والإنسانية، باعتبارها مصدراً للثقة،وليست ظلالاً أو أشباحاً أو مصدر للمعرفة الظنية كما نظرت إليها الثقافة اليونانية.
وفي ظل عقيدة التوحيد الإسلامي تتحقق أسلمة العلوم ومناهجها وتقنياتها بمعناها الصحيح، ويصبح المفهوم الإسلامي للعلم أوسع وأشمل من المفهوم الشائع لدى فلاسفة العلم على اختلاف مذاهبهم. فهناك العلم الظاهر في عالم الشهادة، والعلم الغيبي الذي أخبرنا الله به في القرآن الكريم وعلى لسان نبيه الأمين عليه الصلاة والسلام.
ويكون العلم الظاهر دنيوياً بعلاقاته مع الأشياء، وتعبدياً في نفس الوقت لصلته بالله الواحد.
ومن كانت عقيدته الدينية هي ( التوحيد ) يجد في نفسه دافعاً أقوى مما يجد سواء نحو أن يبحث دائماً عن الوحدة التي تؤلف بين الكثرة أياً كان الموضوع، فيبحث عن محور الوحدانية في الشخصية الإنسانية برغم اختلاف الجوانب الكثيرة في حياة الفرد الواحد، واختلاف العلوم الباحثة في تلك الجوانب. وكذلك يبحث عن محور الوحدانية في الكون بأجمعه مجتمعاً في وجود واحد.
ومن لطائف العلم التي نشير هنا إليها ما نلاحظه من تشابه بين نواميس القوى الطبيعية الناتجة عن خصائص المادة الجوهرية، على نحو ما يبدو من قوانين الجذب الكهربي والجذب التثاقلي على سبيل المثال. وقد شرع العلماء حديثاً في البحث عن الصيغة العلمية ( الرياضية ) التي توحد بين مختلف أنواع القوى الموجودة في الطبيعة، وأحرزت جهودهم نجاحاً كبيراً على هذا الطريق[13].
ومن الصفات الجديدة للمعرفة العلمية المعاصرة أن الحواجز الظاهرية بين فروع العلم المختلفة أخذت تذوب تدريجياً لكي تحل العلوم المتداخلة والمتكاملة محل العلوم المتعددة والمنفصلة، ويتوقع فلاسفة العلم والمؤرخون له أن العلوم كلها يمكن أن تندرج في بناء نسقي واحد بحيث يكون ترتيبها في ذلك النسق المتكامل ترتيباً قائماً على وضع ما هو خاص من قوانين ومبادىء وفروض تحت ماهر أعم منه. ولقد توقع هيزنبرج هذه النتيجة للعلوم المعاصرة عندما ذكر في محاضرة ألقاها بجامعة لايبزج عام 1941 أن ( الفروع المختلفة للعلم قد بدأت في الانصهار في وحدة كبيرة ) [14]. وحول فكرة ( العلم الموحد ) هذه يقول رودلف كارناب: ( لا وجود لمصادر متعددة للمعرفة، بل هناك علم واحد فقط. فجميع المعارف تجد لها مكاناً في هذا العلم. والمعرفة في حقيقتها ذات نوع واحد فقط، وما المظهر الخارجي للخلافات الأساسية بين العلوم إلا نتيجة مضللة لاستخدامنا لغات فرعية للتعبير عن هذه العلوم ) [15].
والباحث المؤمن هو الذي يفهم شهادة التوحيد في إطاره الشامل الذي يجمع بين وحدة النظام في بناء الذرة وبناء المجموعة الشمسية، وبين وحدة الطاقة بردها إلى أصل واحد وإن تعددت صورها، وبين وحدة الحركة في طواف بردها إلى أصل واحد وإن تعددت صورها، وبين وحدة الحركة في طواف الإلكترونات حول النواة، وطواف الكواكب حول الشمس، وطواف المسلمين حول الكعبة المشرفة.
إن تأكيد كل هذه المعاني في فكر الباحث العلمي ووجدانه يعتبر من أهم مقومات الشخصية العلمية التي يبدع العلماء على أساسها في اطمئنان وهدوء ونقاء.
وهنا يتحقق الانسجام الكامل بين الفكر والعمل، بعيداً عن غيوم المذاهب الفلسفية الرديئة التي تشوه الوجه الناصع لكل حقيقة.


يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــع




 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.16 كيلو بايت... تم توفير 0.60 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]