عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 26-02-2024, 09:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,356
الدولة : Egypt
افتراضي الأربعــون الوقفيــة

الأربعــون الوقفيــة



جرياً على نهج السلف في جمع نخبة من الأحاديث النبوية التي تخص باب علم مستقل، وإحياء لسنة الوقف – الصدقة الجارية- فقد جمعت أربعين حديثاً نبوياً في الأعمال الوقفية، وأعددت ما جاء فيها من أحكام وفوائد من كتب السنن وشروحها، وكتب الفقه وغيرها، وأفردت شرحاً متوسطاً لكل حديث، حوى أحكاما وفوائد جمة عظيمة للواقفين من المتصدقين، وللقائمين على المؤسسات والمشاريع الوقفية، ونظار الوقف والهيئات والمؤسسات برعاية الأصول الوقفية، ونمائها. أسأل الله أن يجعل هذا العمل إحياء لسنة الوقف والصدقة الجارية, وينفع به قولاً وعملا, ويكتب لنا أجر ذلك في صحائفنا.
وسأبدأ بالحديث الأول، وهو الأصل في مشروعية الوقف كما نص على ذلك أهل العلم :
الحديث الأول :
الوقف حبس للأصل وتسبيل لمنفعته
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي [ فقال: أصبت أرضاً، لم أصب قط مالاً أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها». فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء والقربى، وفي سبيل الله، والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمولٍ فيه(1).
وفي رواية أخرى، جاء عمر رضي الله عنه إلى النبي [ يستشيره في أرض خيبر ما يصنع بها : «أشار عليه بحبس أصلها، وجعل غلتها في الفقراء والمساكين، ففعل»(2).
حديث عمر يعده العلماء أصلاً في مشروعية الوقف(3)؛ فبعدما ملك عمر رضي الله عنه أرضاً في خيبر اسمها «ثمغ»، وهي حصته في السهام التي قسمها النبي [ بين من شهد خيبر، وأضاف إليها ما اشتراه بمئة رأس من أرض خيبر من أهلها، وضمهما إلى بعض، فكانت أرضا من أنفس وأجود ما ملك عمر رضي الله عنه. فاستشار رسول الله [ في صفة الصدقة بها. فأشار عليه النبي [: «‏إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» أي بغلتها وحاصلها من حبوب وثمار، وفي رواية: ‏»‏احبس أصلها وسبّل ثمرتها‏»‏، وفي ورواية أخرى‏:»‏ تصدق بثمره وحبّس أصله‏»‏‏.‏
قال ابن حجر في «الفتح»: قوله : «‏فتصدق عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث‏» زاد في رواية مسلم من هذا الوجه «‏ولا تبتاع»،‏ زاد الدار قطني من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع: ‏«‏حبيس ما دامت السموات والأرض»(4)‏.
وتلك الشروط رفعها بعض الرواة إلى النبي [، ومنهم من وقفه على عمر لوقوعه منه امتثالا للأمر الواقع منه [، ورجح ابن حجر بأن هذا الشرط من كلام النبي [، ولو كان الشرط من قول عمر فما فعله إلا لما فهمه من النبي [.
وقد خصص عمر ] مصارف ريع تلك الأرض الوقفية ‏في الأصناف الآتية : في سبيل الله وفي الرقاب والمساكين والضيف وابن السبيل‏، وفي رواية البخاري: في الفقراء، والقربى، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، على أن يأكل العمال عليها من ريعها، وليس من أصلها، وألا يزيد عماجرت به العادة بلا إفراط ولا تفريط، فليس له سوى ما ينفقه، بلا مجاوزة للمعتاد. قال القرطبي‏:‏ «جرت العادة بأن العامل يأكل من ثمرة الوقف، حتى لو اشترط الواقف أن العامل لا يأكل منه يستقبح ذلك منه، والمراد بالمعروف القدر الذي جرت به العادة، وقيل: القدر الذي يدفع به الشهوة، وقيل: المراد أن يأخذ منه بقدر عمله، والأول أولى»(5)‏.‏
واشترط عمر رضي الله عنه لناظر وقفه أن يأكل منه بقدر عمالته؛ ولذلك منعه أن يتخذ لنفسه منه مالا وجزءاً يدعي بعد ذلك أنه ملك له، قد ملكه من زمن أو ورثه أو قد أوصي له به.
ومن هذا الحديث وغيره من الأحاديث التي أتت صريحة في الوقف والصدقة الجارية، ذهب جمهور العلماء إلى جواز الوقف ولزومه؛ قال الترمذي: «لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافا في جواز وقف الأرضين»(6)، ووقف جماعة من الصحابة منهم علي وأبو بكر والزبير وسعيد وعمرو بن العاص وحكيم بن حزام وأنس وزيد ابن ثابت، ووقف عثمان لبئر رومة، روى ذلك كله البيهقي. قال القرطبي: إن المسألة إجماع من الصحابة، وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص والزبير وجابراً كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة(7).
ويعد بعض أهل العلم أن وقف عمر هو أول وقف في الإسلام، جاء في «الفتح»: قال أحمد – بالسند - عن ابن عمر قال: أول صدقة - أي موقوفة - كانت في الإسلام صدقة عمر، وروى عمر بن شبة عن عمرو بن سعد بن معاذ قال: «سألنا عن أول حبس في الإسلام فقال المهاجرون : صدقة عمر ، وقال الأنصار: صدقة رسول الله [«، وفي «مغازي الواقدي» أن أول صدقة موقوفة كانت في الإسلام أراضي مخيريق - بالمعجمة مصغرا - التي أوصى بها إلى النبي [ فوقفها النبي [«(8).
وفي الحديث فوائد جمة: فيه فضل الصدقة الجارية وهي الوقف وأنها من الإحسان المستمر، وأن الوقف من خصائص المسلمين وأنه مخالف لشوائب الجاهلية، وفيه بيان لمعنى الوقف «تحبيس للأصل وتسبيل للمنفعة»، وفيه أنه ينبغي أن يكون الوقف من أطيب المال وأحسنه؛ طمعاً في ثواب الله تعالى، حيث قالَ تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}(9)، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث امتثل وتصدق بأطيب مال مَلكه في حياته، وفيه أن ليس إلزاما على المسلم لقوله [: «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها»، وفيه أن لفظ « حبست» من صيغ الوقف، وفيه صحة شروط الواقف واتباعه فيها، وأنه لا يشترط تعيين المصرف لفظاً‏،‏ وفيه أن الوقف لا يكون إلا فيما له أصل يدوم الانتفاع به، وتبقى أعيانُها، فأما الذي يُذْهَبُ بالانتفاع به فهو صدقة, وليس وقفاً، فلا يصح وقف ما لا يدوم الانتفاع به كالطعام ، وفيه مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير، وفيه جواز الوقف على الغني والفقير، وفيه أن مصرف الوقف يكون في وجوه البر العام أو الخاص: كالقرابة، والفقراء، وطُلاب العلم، والمجاهدين، ونحو ذلك، وفيه أنه لا يكفي في الوقف لفظ الصدقة سواء قال‏:‏ تصدقت بكذا أم جعلته صدقة، حتى يضيف إليها شيئا آخر لتردد الصدقة بين أن تكون تمليك الرقبة أو وقف المنفعة، فإذا أضاف إليها ما يميز أحد المحتملين صح، بخلاف ما لو قال: وقفت أو حبست، فإنه صريح في ذلك على الراجح.
وفيه أن للواقف أن يشترط لنفسه جزءا من ريع الموقوف لأن عمر شرط لمن ولي وقفه أن يأكل منه بالمعروف ولم يستثن إن كان هو الناظر أو غيره فدل على صحة الشرط، ويستنبط منه صحة الوقف على النفس، وفيه أن الواقف إذا لم يشترط للناظر قدر عمله جاز له أن يأخذ بقدر عمله، وهذا على أرجح قولي العلماء، وعند البعض أن الواقف إذا شرط للناظر شيئا أخذه وإن لم يشترطه له لم يجز إلا إن دخل في صفة أهل الوقف كالفقراء والمساكين‏، واستدل به على وقف المشاع لأن المئة سهم التي كانت لعمر بخيبر لم تكن منقسمة‏(10).‏
لقد اهتم الصحابة الكرام، وامتثلوا توجيه رسولنا الكريم [ في وقف الأوقاف التي تنوعت أصولها، وتعددت مصارف ريعها؛ ليعم النفع للمجتمع المسلم، فدعوة النبي [ إلى الصدقة الجارية لاقت آذاناً صاغية، من عباد الله المخلصين، ولاسيما الصحابة رضوان الله عليهم، الذين عاصروا التنـزيل وفهموا أسراره وعرفوا ما تهدف إليه الشريعة, فبادروا مستجيبين لنداء الرسول [ فأقفوا الأراضي والحدائق والأسلحة والدروع، ثمَّ تتابعت الأوقاف، واستمر القادرون على الوقف على مدى التاريخ الإسلامي يوقفون أموالهم، أوقافاً تتسم بالضخامة والتنوع؛ حيث صارت هذه الأوقاف من مفاخر المسلمين، لم يدعوا جانباً من الجوانب الخيَّرة إلا أوقفوا فيه من أموالهم، حتى شملت هذه الأوقاف الإنسان والحيوان، وبلغت ما لا يخطر على بال إنسان أن يفعله في شرق ولا غرب.
كان الوقف سنة متبعة في العهود الإسلامية، دعا إليها العلماء، واجتهد في فقهها الفقهاء، وتنافس في إيجادها وتجديدها أهل الهمم والعطاء، فكان لها الدور الأكبر في الحضارة الإسلامية، وفي نماء الخلافة واستمرارها، ووقوفها من بعد كبوة، فقد وعى المسلمون منذ القرون الأولى ما للوقف من مقاصد سامية ومصالح ملموسة في الحفاظ على مكانة الأمة وأمنها.

الهوامش:

1 - أخرجه البخاري في الوصايا، باب: الشروط في الوقف، برقم (2737) ومسلم في الوصية، باب الوقف، برقم (1632) واللفظ لمسلم.
2 - أخرجه البخاري في الوصايا، باب: وما للوصي أن يعمل في مال اليتيم، برقم (2764) ومسلم في الوصية، باب الوقف، برقم (1632).
3 - قال في الفتح: وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف.
4 - فتح الباري (7/16).
5 - فتح الباري (7/16).
6 - انظر نيل الأوطار، كتاب الوقف (4/310).
7 - تفسير القرطبي (6/318).
8 - فتح الباري (7/18).
9 - سورة آل عمران: آية 92.
10 - انظر فتح الباري (7/19 - 21)، وتوضيح الأحكام للشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البسام, والمنهاج في شرح صحيح مسلم، ص 1038، ونيل الأوطار 4/311 - 313.


اعداد: عيسى القدومي




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.36 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.86%)]