عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 09-09-2019, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 133,991
الدولة : Egypt
افتراضي الصّوتيات عند ابن جني

الصّوتيات عند ابن جني
بَدر الدين قاسم الرفاعي

منذ القرن الثاني للهجرة وضع النحاة العرب أصول النحو. وينهض كتاب "العين" للخليل بن أحمد (100-175هـ) دليلاً ساطعاً على أن العرب قد أولوا عناية بالغة لتصنيف الحروف وكيفية إدغامها وإبدالها وحذفها وتشديدها. ثم في نهاية الكتاب وفي أعقاب فصول ضافية في الصرف والنحو تطرّق سيبويه لكيفية النطق بالحروف وهو الموضوع الذي تفتح به عامة أبحاث الصوتيات.‏

وعلى نهج سيبويه تقريباً سار الزجاجي (في المئة الرابعة) والزمخشري (في المئة السادسة) الذي عقد في كتابه "المفصل" باباً خاصاً أسماه "المشترك" أي ما يشترك فيه الاسم والفعل والحرف. كما نجد ابن يعيش (في القرن السابع الهجري) في شرحه "المفصل" وابن الحاجب (في القرن السابع) في كتابه "الشافية" ورضي الدين الاستراباذي (في القرن السابع) في شرح "الشافية" ينهجون جميعاً نهج سيبويه ويعتبرون الأبحاث الصوتية جزءاً من أجزاء النحو.‏

أما ابن جني (322-392) فقد سلك في بحث الصوتيات مسلكاً آخر إذ عقد لها كتاباً خاصاً عنوانه "سر صناعة الإعراب". عرض في مقدمته لكل حرف على انفراد ولم يكن غرضه، على حد قوله، "ذكر هذه الحروف مؤلفة لأن ذلك كان يقود إلى استيعاب جميع اللغة وهذا مما يطول جداً. وليس عليه عقدنا هذا الكتاب وإنما الغرض منه ذكر أحوال الحروف منفردة أو منتزعة من أبنية الكلم التي هي مصوغة فيها" ودراسة الحروف على هذا النسق يعتبرها ابن جني علماً قائماً بحد ذاته لا يقل أهمية عن الصرف والنحو. ويريد صاحبنا أن يتجشم المضض لكشف أسرار هذا العلم الذي يشتمل على "جميع أحكام حروف المعجم وأحوال كل حرف منها".‏


*الجهاز الصوتي عند ابن جني:‏


على صعيد المنطق لم يصف ابن جني الجهاز الصوتي بل اكتفى في معرض حديثه عن الحروف بذكر الأعضاء المختلفة التي تؤلف الجهاز المذكور وهي على حد قوله: "الصدر والحلق والفم والأنف". يساعد الصدر على إطلاق النفس المؤدي إلى إحداث الصوت ولا يعده ابن جني مكافئاً لباقي الأعضاء الصوتية لأنه لا يضم مدارج الأصوات ولا يذكره ابن جني إلا نادراً.‏

أما الحلق فهو يتدخل تدخلاً مباشراً في عملية النطق ويقسمه المؤلف إلى أقصى الحلق وأوسط الحلق وأدنى الحلق، ولكل من هذه الأجزاء مخارجه. كما يفرق بين أول الفم وأوسطه ومقدمته. وفي الفم جملة أعضاء تنهض بمهمة النطق، يأتي اللسان في المرتبة الأولى منها ويميز فيه المؤلف أقصى اللسان وأوسطه وطرفه بالإضافة إلى جوانب اللسان أو حافتيه. وكان العرب قد خصوا كل قسم من أقسام اللسان باسم خاص فقالوا: "عكدة" اللسان أي اصله و"أسلة" اللسان (أي طرفه الآخر إذا كان يابساً عن النطق بحروف الصفير وهي الزاي والسين والصاد (الحروف الأسلية) و"ذلق" اللسان أو "ذولق" اللسان إذا كان رخواً عند النطق بالراء. بعد اللسان يأتي الحنك الأعلى الذي يساهم في عملية النطق. وكان العرب يفرقون بين الحنك الأدنى ويسمى "نطعاً" وفيه تلفظ الطاء والدال والتاء وتسمى الحروف النطعية، وبين أقصى الحنك وفيه مخرج القاف والكاف.‏

وللأسنان دور هام في كيفية النطق، وفرّق النحاة بين الثنايا والرباعيات والأنياب والضواحك. والثنايا جمع ثنية: ثنتان من فوق وثنتان من أسفل. والرباعيات جمع رباعية وهي السن بين الثنية والناب. والضواحك (جمع ضاحك) هي في الأصل كل سن تبدو عند الضحك لكنها تعني عند ابن جني أولى الأضراس. وأخيراً تسهم الشفتان إسهاماً مباشراً في اللفظ، كلتاهما أو الجزء الأمامي من الشفة السفلى. أما الخياشم فتساعد على نحو خاص في مخرج النون الخفيفة الساكنة مثل منك وعنك.‏

*الصوت والحرف:‏

لم يأت سيبويه بتحديد لما يسميه "الحرف" بوصفه أمراً معروفاً لا يحتاج إلى مزيد من التعريف. أما ابن جني فقد حرص منعاً لكل التباس، على التفريق بين الصوت والحرف. فالصوت على حد قوله "عرض يخرج مع النفس مستطيلاً حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته. ألا ترى أنك تبتدئ الصوت من أقصى حلقك ثم تبلغ به أي المقاطع شئت فتجد له جرساً". والصوت قسمة مشتركة بين الإنسان والحيوان، أما الحرف الذي يلفظه الإنسان الناطق أيًَّاً كان لسانه، فهو أمر انفرد به البشر دون سائر المخلوقات. والحيوان الأعجم مهما ارتقى في سلم الذكاء ومهما أتقن التقليد فلن يقوى على لفظ جميع حروف لغة من اللغات وهو مع ذلك يملك مثلنا الحلق والحنك والفم واللسان والشفتين والأنف.‏

وهذا التمييز الهام الذي جاء به ابن جني بين الصوت (ولم يقل النفس) وبين الحرف يذكرنا من قبيل التداعي بتلك المعلومات النادرة التي يزودنا بها علم الأنتروبولوجيا حول نشأة الكلام. والظاهر أن تطوراً حدث منذ ملايين السنين على بنية الحيوان الفقري مثل انفصال أطرافه الأمامية عن الأرض ونمو قشرة الدماغ في مقدمة أخدود "رولاندو" (وهو المركز الخاص إذا ألمّ به تلف أو خلل عجز صاحبه عن الكلام وأصيب بالحبسة أو المرض المسمى "أفازيا") وذلك نمو المنطقة الدماغية الخاصة بصنع الآلات واستخدامها. لأن اللغة أداة أو آلة واستخدامها وثيق الصلة باستخدام سائر الآلات والأدوات. واستناداً إلى مثل هذه المعلومات القليلة يقدر علماء الأنتروبولوجيا بداية استعمال اللغة قبل حوالي مليون سنة في نهاية الطور الجيولوجي الثالث. ويجزم أقطاب الأنتروبولوجيا في يومنا على أن ثمة علاقة ثابتة بين القدرة على الكلام وبين استخدام اليدين وانتصاب قامة الإنسان وشموخ الرأس البشري. تلك هي خصائص أساسية انفرد بها البشر دون سائر الكائنات وهي وثيقة العرى مترابطة فيما بينها.‏

أردت من هذا الاستطراد أن أنوه بأهمية التمييز الذي أورده ابن جني بين الصوت وهو عرض عام يشترك فيه الإنسان والحيوان، وبين الحرف المنطوق الذي اختص به الإنسان. فإذا كان لا بد من صوت في كل حرف ننطق به، فإن العكس غير صحيح.‏

ثم يعقد ابن جني مقارنته المعروفة بين جهاز النطق وبين الناي والعود، كتب يقول: "يخرج الصوت مستطيلاً أملس ساذجاً كما يجري الصوت في الألف غفلاً بغير صنعة. فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة وراوح بين أنامله اختلفت الأصوات وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه، كذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم باعتماد على جهات مختلفة كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة".‏

لعلم الأصوات إذن علاقة بالموسيقا، لكن مدار البحث هنا هو الوقوف على مخارج الحروف وهي مماثلة للثقوب التي يضع الزامر عليها أنامله ويرواح بينها. ومن أجل ذلك ينبغي "أن نأتي بالحرف ساكناً لا متحركاً لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقره". بيد أنا لا نستطيع الابتداء بالساكن فلا مناص من لفظ الحرف بإدخال همزة الوصل مكسورة من قبله فنقول: اك، اق، اج الخ..‏

في ذلك كله يعتمد ابن جني على اللسان المنطوق الذي كان أسبق إلى الظهور من اللسان المكتوب وإذا عدنا إلى علماء الأنتروبولوجيا الحديثة قالوا لنا أن الكتابة على هيئة رسوم أو أشكال محفورة في الصخور ومنتظمة يحتمل ظهورها أول مرة لدى إنسان "موستيه" أي حوالي 50000 سنة قبل الميلاد.‏

*الحروف العربية:‏

ويرى ابن جني أن حروف المعجم العربي في أصولها تضم تسعة وعشرين حرفاً خلافاً لرأي المبرد الذي حصرها في ثمانية وعشرين فلم يعتبر الهمزة حرفاً لأنها، على حد قول المبرد، لا تثبت على صورة واحدة. في حين يرى ابن جني أن انقلاب الهمزة في بعض أحوالها لعارض يعرض لها من تخفيف أو بدل، لا يخرجها عن كونها حرفاً. أضف إلى ذلك أن الألف والياء والواو والتاء والهاء والنون قد تقلب في بعض الأحوال ولا يخرجها ذلك من أن نعدها حروفاً".‏

ليست العبرة إذن في شكل الكتابة بل في لفظ الحرف.‏

وجاء ترتيب الحروف عند ابن جني على نسق ما جاء عند الخليل من الحلق إلى الشفتين وبلغت مخارجها ستة عشر مخرجاً:‏

1-في أقصى الحلق مخرج الهمزة والهاء.‏

2-في أوسط الحلق يكون مخرج العين والحاء.‏

3-من أدنى الحلق مخرج الغين والخاء. ويضيف الزمخشري وابن يعيش أن مخرج الخاء أدنى إلى الفم من مخرج الغين.‏

4-من أقصى اللسان أو من أقصى الحنك مخرج القاف.‏

5-ثم يأتي مخرج الكاف أي أن هذا الصوت أقرب إلى الفم.‏

6-من أوسط اللسان مخرج الجيم والشين والياء. ويرى بعض النحاة إمكان إبدال الشين جيماً إذا كانت متبوعة بالدال كقولهم "أجدق" في "أشدق" (ومعناه: البليغ المفوّه) ورغم هذا التقارب بين الجيم والشين، اعتبروا الجيم حرفاً قمرياً (لا يدغم بلام المعرفة) والشين حرفاً شمسياً (يدغم بلام المعرفة).‏

يقول سيبويه: "تدغم لام المعرفة في ثلاثة عشر حرفاً هي: التاء والثاء – الدال والذال – الراء والزاي – السين والصاد – الطاء والظاء – والنون بالإضافة إلى الضاد والشين". وتلك هي الحروف الشمسية التي يكون مخرجها قريباً من مخرج اللام وبالتالي تدغم بلام المعرفة. أما الحروف القمرية فيجمعها قولك: "أبغ حجك وخف عقيمة" وردت الجيم إذن عند النحاة حرفاً قمرياً وإن أقر الخليل بأن الجيم والشين والضاد (والأخيران حرفان شمسيان) حروف شجرية لأن مبدأها من شجر الفم أي مفرج الفم (كتاب العين ص 2) وطالما كان المخرج متقارباً لماذا كانت الجيم قمرية وكانت الشين والضاد شمسيتين؟ ونحن اليوم في كلامنا الدارج نجعل الجيم شمسية نقول: الجمل الجبر الجراد (مع الإدغام بلام المعرفة) والظاهر أن هذا النطق خاطئ تبعاً للتصنيف الذي وضعه النحاة.‏

7-من أول حافة اللسان وما يليها من أضراس: مخرج الضاد. أي أنها قريبة من وسط الحنك مع السماح بمرور الهواء من أحد جانبي الفم. اعتبر النحاة القدامى هذا الحرف من خصائص العربية وإن الأعاجم لا قدرة لهم على النطق به.‏

وقد وصفوه وصفاً دقيقاً بقولهم: "إنه يخرج من أول حافة اللسان وما يليه من أضراس، ويجوز النطق به من الجانب الأيمن أو من الجانب الأيسر". وهذا معناه أن الضاد أقرب إلى الحرف الانحرافي "أض". ومنذ القديم كان هذا الحرف عرضة للتغيير.‏

كانت توجد ضاد ضعيفة تنطق كالظاء (ضابط – ظابط). وفي ضوء معرفتنا للغة الفرنسية تلفظ “d” مفخمة إذا وليهما غنة مفخمة مثل “dans” (خلافاً للفظة Jardin) فتكون أقرب إلى الضاد العربية كما تنطقها اليوم. ولقد وجدت الضاد في النقوش الثمودية التي عثر عليها في الحجاز ويرجع تاريخها إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد. وهي متفرعة عن الخط المسند المنفصل الحروف:‏

ذ ن ل ق ض ب ن ت ع ب د م ن ت‏

هذا (القبر) لقيض بنت عبد مناة‏

8-من حافة اللسان فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية مخرج اللام الذي يسمى منحرفاً ونحن ندعوه اليوم صوتاً جانبياً.‏

9-من طرف اللسان فويق الثنايا مخرج النون المتحركة. أي أن اللام والنون متقاربان وهما من حروف الذلق.‏

10-ثم يأتي مخرج الراء وأسماها العرب حرف تكرير تنطق بقرع اللسان قرعات متكررة فويق مغارز الثنايا بقليل.‏

11-وبين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء والدال والتاء، من النطع أو الحنك الأدنى.‏

12-بين الثنايا وطرف اللسان مخرج الصاد والزاي والسين. وتسمى بحروف الصفير أو الحروف الأسيلة.‏

13-بين أطراف الثنايا وأطراف اللسان مخرج الظاء والذال والثاء.‏

14-من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا مخرج الفاء.‏

15-مما بين الشفتين مخرج الباء والميم والواو. وذكر العرب إمكان إبدال الميم بالباء أو العكس. مكة –بكة، "نغم" الرجل من الشراب (أي شرب قليلاً) بدلاً من "نغب" أي جرع. ومعناه أن الميم والباء من مخرج واحد لكن الميم تتميز بالغنة والباء لا غنة فيها. أما الواو فهي هنا حرف صحيح سواء كانت متحركة لأنها تقع موقع الصوت الصحيح (مثل ولد – بلد) أم ساكنة (مثل حوض وجمعها أحواض تليها إذن في الجمع حركة وهذا لا يقع إلا للأصوات الصحاح).‏

16-من الخياشم مخرج النون الخفيفة للغنة (مثل: عنك) وهي إذن تختلف عن النون المتحركة (مثل: نقول) التي تعد من حروف الفم وإن كانت فيها غنة. ففي لفظة "أنا" تكون النون صوتاً لثوياً ينطق في مفاوز الأسنان، وفي لفظة "من وجد" تصير النون كالواو.‏

وواضح أن ابن جني وغيره قد تأثروا بطريقة الخليل فرتبوا الأصوات والمخارج ترتيباً تصاعدياً يبدأ من أقصى الحلق إلى الشفتين والأنف خلافاً لما نعهده في أيامنا من ترتيب يبدأ من الشفتين (الباء الميم الفاء إلخ..) راجعاً إلى الخلف حتى الحنجرة (العين الحاء الهمزة الهاء) وفي نظري يتساوى المنهجان. لكن أهم من هذا الخلاف الشكلي نلاحظ بين تصنيف ابن جني والتصنيفات الحديثة الخلافات التالية:‏

1-صوت القاف الذي وضعه ابن جني بين الغين والخاء، خلافاً لما نقول اليوم في وصفه(1): "يتم النطق بهذا الصوت برفع أقصى اللسان حتى يلتقي بأقصى الحلق واللهاة مع عدم السماح للهواء بالمرور من الأنف. وبعد ضغط الهواء فترة من الزمن يطلق سراح مجرى النفس بأن يخفض أقصى اللسان فجأة فيندفع صوت انفجاري Occlusif. وكان الخليل يقول عن القاف بأنها "لهوية" وبالتالي – خلافاً لما قال ابن جني – تأتي القاف قبل الغين والخاء ولا تأتي بعدهما. لأن الغين والخاء في رأينا من منطقة تلي اللهاة ولا تسبقها.‏

2-مكان الضاد عند ابن جني بعد الياء وقبل اللام. أما اليوم فإننا نعتبرها تخرج من نقطة الدال والتاء والطاء. يقول ابن جني: "لولا الإطباق لصارت الطاء دالاً والصادر سيناً والظاء ذالاً ولخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس من موضعها شيء غيرها". أي أنه نسب الضاد إلى موضع لا تشترك فيه مع غيرها. ونحن أميل اليوم إلى النطق بالضاد قريبة جداً من الدال دون أي انحراف جانبي.‏

3-يرى ابن جني أن الصاد والزاي والسين تالية للطاء والدال والتاء، لكننا في يومناً نرتبها سابقة لهذه الأصوات في مخرجها. والملاحظ في تحليلنا الحديث للزاي والسين والصاد هو وضع طرف اللسان خلف الأسنان العليا مع التقاء مقدم اللسان باللثة. ويبدو أن ابن جني ركز اهتمامه على التقاء طرف اللسان بالأسنان بغض النظر عن التقاء مقدم اللسان باللثة، وهذا الالتقاء هو الذي يحدث احتكاكاً يؤدي إلى النطق بالصاد والزاي والسين.‏

*-التقسيم الثاني:‏

على أن مخرج الحرف ليس المعيار الوحيد في تصنيف الحروف. كان سيبويه قبل ابن جني، قد عنى بدرجة انفتاح الفم فقسم الحروف حسب هذا الانفتاح إلى شديدة ورخوة ومتوسطة. الحروف الشديدة ثمانية يجمعها اللفظ: "أجدت طبقك". ويلاحظ إغفال الضاد التي نعدها اليوم شديدة فهي تفخيم للدال في نطقنا الحديث.‏

أما الحروف الرخوة التي نسميها اليوم متواصلة Continue فهي 13 حرفاً حسب ابن جني: الحاء والهاء والخاء – الشين والسين والصاد – الزاي والظاء والذال – الثاء والفاء والغين – ويضيف إليها الضاد.‏

وتكون الحروف الباقية بين الشديدة والرخوة وهي ثمانية: الألف والواو والياء – والعين واللام والميم والنون والراء. وقد أسماها النحاة بالحروف البينية يقول فيها ابن يعيش: "إنما يجري النفس معها لاستعانتها بصوت ما جاور من الرخوة". وهي تعتبر في اللسانيات الحديثة حروفاً رخوة.‏

خلاصة القول: الحرف الشديد هو الذي يمنع الصوت من أن يجري فيه. فإذا تلوت الآية الكريمة: (فإذا فرغت فانصبْ(، (اقرأ باسم ربك الذي خلقْ( مع السكون وأردت مد صوتك في القاف والباء امتنع ذلك. والرخو هو الذي يجري فيه الصوت: (وأما السائل فلا تنهرْ(، (وأما بنعمة ربك فحدثْ( يمكنك أن تمد الصوت مع الثاء والراء.‏

*-التقسيم الثالث:‏

كذلك يفرق ابن جني بين الحرف المجهور والحرف المهموس. وتعريف المجهور على حد قوله هو: "حرف أشبع الاعتماد من موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت" وعكسه المهموس فهو حرف أضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس.‏

وقد تكلم النحاة العرب كلاماً كثيراً في ظاهرتي الجهر والهمس لكنهم لم يشيروا في مناقشاتهم إلى الأوتار الصوتية ولم يعتدوا بأوضاعها في تحديد مفهوم الجهر والهمس.‏

أما تعريفنا الحديث فهو التالي: في حال النطق بالصوت المجهور تقترب الأوتار الصوتية أثناء مرور الهواء فيضيق الفراغ فلا يمر النفس إلا بهز الأوتار. في هذه الحالة تحدث ظاهرة الجهر Sonorité أما الصوت المهموس فهو الذي لا تهتز له الأوتار الصوتية حال النطق به. أي أن الزوجين من الأوتار ينفرجان انفراجاً ملحوظاً بحيث يتيحان للنفس أن يمر خلالهما دون عائق. فيحدث ما نسميه بالاصطلاح الصوتي بالهمس.‏

يقول ابن جني: "المهموس عشرة أحرف: الهاء، الحاء، الكاف، الشين، السين، الصاد، التاء، الثاء والغاء". وإذا نحن استمعنا اليوم إلى الأصوات المهموسة كما ينطقها مجيدو القراءة وجدنا هذه الأحرف اثني عشر بإضافة الطاء والقاف إلى الحروف العشرة التي ذكرها ابن جني. فالظاء نلفظها اليوم كالتاء المفخمة وهي حرف مهموس.‏

والقاف نلفظها اليوم وكأنها كاف مفخمة وهي حرف مهموس. والباقي مجهور. حروف المد مجهورة جميعاً. أما الهمزة فهي حرف مهموس وربما جعلها بعض النحاة القدامى مجهورة لاتصالها الشائع بالألف المجهورة.‏
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]