عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 04-07-2019, 02:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,110
الدولة : Egypt
افتراضي رد: عُدَّة المصحِّح اللغويِّ

عُدَّة المصحِّح اللغويِّ


د. طه محسن عبدالرحمن


الأمر الخامس – الاعتدال في قبول الشاهد أو رفضه:

يقرُّ بعض المعترضين على الأساليب أحيانًا بورود مثلها قديمًا، ولكنه لا يعتدُّ به دليلاً على جوازها لقلته، ثم يكتفي بذكر شاهد واحد يتشبث به في دعواه، ويتخذ من القلة وسيلة إلى القول بالخطأ. وربما يكون هذا الشاهد هو أغرب ما في الباب، وقد توجد شواهد لا يذكرها.

نعم قد يكون هذا مفيدًا لو تعلق الأمر ببنية الكلمة، وبقواعد الإعراب وعلاماته، إذ يفضي القياس على الشاهد الضعيف الفرد إلى التفريع والتشعيب وضياع القاعدة الإعرابية المطّردة. فبات والحال هذه تجاوز الشاذ والنادر، وتجنب القياس عليهما في حدود المعقول مفيدًا.



أما ما يتعلق بدلالة اللفظ، وتركيب العبارة، وأُسلوب التعبير فأرى التريث الشديد في حمل مسائله على الخطأ، لأنه لا يدخل في الفاحش من الخطأ. وأريد به الخطأ النحوي، والخطأ في الأبنية والغلو في استعمال اللفظ العجمي.



ويتصل بهذا الأمر تحكيم بعض من أُولع بالتصويب اللغوي الذوق دون الشاهد؛ فهذا القول جائز عنده لأنه يناسب الذوق مع الدليل ويمتنع من التعبير بسبب ضعف هذه المناسبة حتى لو كان شاهدًا عربيًا، وهذا المذهب في المنع من غير الجنوح إلى الشاهد قبل كلّ شيء مخالف لقانون السماع، فالصواب هو الصواب، والمتذوق من يختار من الصواب ما يطابق مقتضى الحال بعد تجاوز الخطأ.



الأمر السادس: التأني في القول بالخطأ والتحقيق الدقيق:

يحلو لبعض المصوبين أن يستبق إظهار الخطأ. وقد يندفع بعضهم الآخر إلى تلمُّس الأخطاء، والحكم على الأساليب بالضعف معتمدًا على ما يجد في نفسه من اطلاع ومن معرفة باللغة من غير أن يراجع مرجعًا أو يتبع قاعدة لغوية. وهذا التسابق، وتلك العجلة تورثان الضلال في القصد، وتوقعان في سوء التدبير اللغوي.



أذكر أن أستاذًا كان يعرف العربية والإنكليزية. وكان يُملي نصًّا في حياة أديب، وعرضت له في أثناء الإملاء جملة (وَقضَى من عمره أربعين ربيعًا) فوقف عليها معلقًا ثم قال: (أربعين ربيعًا!) ممّا لم تعرفه العربية، وهو من الإنجليزية، فقلت له: إن مثل هذا التركيب موجود في لغتنا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أربعين خريفًا)[8].



وأُستاذ آخر كان مولعًا بالمنع والتصويب أنكر لفظ (العاديّ) في الاستعمال؛ لأنه المنسوب إلى (عاد) من الأُمم القديمة، يقال للشيء القديم: عاديّ. فقال مستمع حضر مجلسه هذا صحيح، ولكن كيف تنسب إلى (العادة) كما تنسب إلى (البصرة) وشبهها؟ ألا نقول: بصريّ عاديّ؟ فكان هذا الاعتراض مفيدًا للأُستاذ.



وإن تعجب فعجب أن يصير هذا المذهب همّ أناس؛ فإذا دعوا مثلاً إلى ندوة لمناقشة كتاب في العربية، أو تكلموا في مؤتمر بعدوا عن الموضوع الرئيس لقلة زادهم فيه وقصروا كلامهم على (قل ولا تقل). واجتهدوا في التخطيء، وصوبوا سهامهم متعجلين إلى نصوص أعدت للنقاش، والمستمعون بين عالم يربأ بنفسه عن الرد لئلا يضيع الوقت، ويخرج عن الهدف، ومستمع غير مختص باللغة يندهش من عجيب الأخطاء، وغريب الهفوات، فيمتلئ بالشك في قدرة من تناقش دراسته.



وقل مثل هذا في مناقشة الرسائل الجامعية للشهادات العالية حين ينقلب الأستاذ المناقش مصوبًا للأساليب، مخطئًا للتراكيب، تاركًا الأُصول، موحيًا للجالسين بكثرة علمه وعلو فهمه.



الأمر السابع – الفهم السليم وحسن الإدراك:

عُرَّيت طائفة من غير أهل العلم بترديد ما ذكره أهل التصحيح من المتقدمين ومن تبعهم في هذا القرن فراحوا يستعيرون أشتاتًا مما صُنِّف قبلهم، ويُسيئون الاستعارة أحيانًا، لأنهم أساءوا الفهم، ولأنهم لم يملكوا من العلم ما اتصف به أولئك الأجلّة، فالتبس الأمر عليهم، واقترفوا الخطأ من حيث أرادوا الصواب.



ومن ذلك ما فهمه بعضهم من ضعف زيادة الواو قبل "الذي" وشبه من الأسماء الموصولة أو الخطأ إثباتها في مثل (قرأت في كتاب القواعد والذي فيه نصوص كثيرة) فكان يعدُّ الواو قبل الاسم الموصول زائدة ممنوعًا إثباتها حتى في مثل (الكتاب الذي ألفه ابن عقيل والذي يدرسه الطلبة هو شرح الألفية)، غير عارفٍ الفرق بين التركيبيين.



الأمر الثامن – التقصي الواسع في غير معجمات اللغة:

يمنع الكاتب أحيانًا استعمال كلم أو عبارة بحجة أنها لم ترد بهذا المعنى أو بتلك الصيغة، ويصدر حكمه من خلال استفتائه معجمًا أو أكثر من معجمات اللغة ظنًا منه أن المعجم القديم كامل وتام، وما درى أن كلام العرب واسع وكثير، والمعجم لا ينبض دليلاً وحده على المنع في أحيان كثيرة، لأن أشياء ليست قليلة ندت عن معجماتنا على الرغم مما بذله مصنفوها من جهد في إحكامها، ففي كتب الأدب الأصول، وكتب الحديث الشريف، والسيرة النبوية، ودواوين الشعراء وشروحها، وكتب اللغة بأنواعها صيغ وأساليب ومشتقات، ومواد، وتراكيب لم تدخل في المعجمات. وما الاستدراكات عليها والتكميلات التي يصنعها اللاحقون والحواشي والتتمات إلا دليل على أن الاعتماد عليها وحدها في المنع غير كاف.



الأمر التاسع – الأمانة في النقل ونسبة المسائل إلى أهلها:

يكرر بعض المعاصرين ملاحظاتٍ في الإصلاح اللغوي ليست جديدة سمعنا بها وقرأناها حتى إننا لنجد الفكرة الواحدة تدور في أكثر من مكان ويسجلها أكثر من كتاب في أوقات متقاربة أحيانًا على أنّ هناك من تجرأ على النقل التام من كتب التصويب اللغوي حين قصر به شأو التحقيق والتدقيق.



إنّ الاغتراف مما كتبه المصححون واستنساخ آرائهم من غير إشارة إلى مصدرها أو إلى أصحابها مجانب للأمانة وغمط لفضل المتقدم؛ إذ يوحي إلى القارئ أنه من بنات فكر الكاتب (الناقل). والحق يوجب الإشارة إلى صاحب الرأي أو إلى مصدره أو إلى كليهما.



الأمر العاشر – الاهتمام بما يغني اللغة وينفع المنشئين:

مضى بعض أهل التصويب بعيدًا حين أولعوا بتصيُّد الهفوات، ودفعهم هذا إلى أن يتشبثوا بخطأ نادر أو يركضوا وراء كلمة أو عبارة لا تقدم في معنىً، ولا تؤخر في أُسلوب، سقطت من فم من لا يحسب لكلامه حساب، أو وقعت في رقعة من لا يُؤبه له، ثم اتخذوها موضوعًا يغنون به مقالهم. وربما انساقوا في هذا النهج فعدُّوا أغاليط الشداة من هذا الباب.



وذلك فيما أرى لا يقدم منفعة، ولا يزيد وعيًا ما دام القصد منه تكثير الكلام، وتسمين المقال. وهو اهتمام بما لا يستحق أن يوقف عنده.

إن النقد الذي يغني اللغة، وينفع الباحثين هو تعديل ما شاع بينهم، وسرى على ألسنتهم.



إنّ معرفة هذه الأُمور، وحسن الاستعانة بها يبعد أهل التصحيح عن العثار، ويجنبهم الغلو في التخطيء، ذلك أن المتتبع يجد لطائفة منها حاجة إلى التصحيح، إذ لم تصدر عمن احتاط للأمر كثيرًا، وأخذ بما ذكرت.



والمثال الذي سأُقدمه الآن يعزز ما ذهبت إليه من أخطاء المصوبين في ما اعترضوا عليه. ورأيت أن يكون قريبًا من متناول قارئ (مجلة التعريب) وسأنشر فيها.

ففي العدد (22) لسنة (2001م) تصدى الأستاذ الدكتور كاصد الزيدي في مقاله (نظرات في أساليب التعريب) لتصويب تراكيب استعملها مترجمون معاصرون.



ومما صوبه من أساليب إدخال حرف الجر في مفعول الفعل المتعدي بنفسه. يقول: (فمن ذلك الفعل (لاحظ) الذي كثيرًا ما يعديه المعربون فيما تبين لي بحرف الجر الباء فيقولون (لاحظ بأن) والصواب: لاحظ أنَّ. ومثله "يرى بأن" وصوابه: يرى أنّ، لأنه لا يقال رأيت بذلك الشيء بل يقال: رأيت ذلك الشيء. ومثله قولهم: يسمى بعلم اللغة. والصحيح: يسمى علم اللغة، من غير باء. والشاهد عليه القرآن الكريم. فقد قال تعالى: {وإنِّي سمَّيتها مريم} [آل عمران 36][9].

ويضيف إلى ذلك ما رآه من (تعدية الفعل إلى مفعوله مباشرة بغير حرف جرّ مع أن المعنى يقتضي تعديته إليه بهذا الحرف).

ومن أمثلة ما خطأه (هذه العبارة "لكي تسمح للإلكترونات أن تصل" والصحيح: بأن تصل، إذ لا يقال في العربية يسمح له الوصول، بل يقال: يسمح له بالوصول)[10].



هذا جانب من التصويب في مقال موجز سأعقب على ثلاث مسائل وردت فيه، وهي:

المسألة الأولى – قول المعربين:

(لاحظ بأن، ويرى بأن) والصواب عنده حذف الباء؛ لأنه لا يقال رأيت بذلك الشيء بل يقال: رأيت ذلك الشيء.

أقول: هذه الباء وقعت مقوية للفعل، ومزيدة للتوكيد الحدث، وثبت مثلها كثير في النصوص الفصيحة. ولكثرته أجاز العلماء القياس على أنماط منه. فقد زيدت مع الفاعل، ومع المبتدأ، ومع خير المبتدأ، وخير ناسخه، ومع الحال، ثم مع المفعول به[11].

وزيادتها في مفعول الفعل المتعدي هو موضوع حديثي، الذي أختار شواهد له في ما يأتي: فمما ورد في نصوص القرآن الكريم:

- قول الله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195].

- وقول الله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة} [مريم: 35].

- وقول الله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25].

- وقول الله تعالى: {فستبصر ويبصرون. بأيكم المفتون} [القلم 5-6].

ومما ورد في الشعر:

- قول النابغة الجعديّ[12]:


نحن بنو جعدة أرباب الفلج نحن منعنا سيله حتى اعتلج



نضرب بالسيف ونرجو بالفرج

- وقول الراعي النميري[13]:



هنَّ الحرائر لاربَّات أحمرة سودِ المحاجر لا يقرأن بالسور





- وقول حسان بن ثابت[14]:



تبلت فؤادك في المنام فريدة تسقي الضجيج ببارد بسام


- وقول دريد بن الصمة[15]:




دعاني أخي والخيل دوني ودونه فلما دعاني لم يجدني بقعدد





- وقول عنترة[16]:



شربت بماء التحرضين فأصبحت زوراء تنفر عن حياض الديلم





وقول أبي ذؤيب الهذلي[17]:



تروت بماء البحر ثم تنصبت على جمثيات لهن تثيج





وفي رواية (شربن بماء البحر) قال ابن جني: (يعني السحاب. والباء فيه زائدة. إنما معناه: شربن ماء البحر. هذا هو الظاهر. والعدول عنه تعسف)[18].



هذه النصوص وغيرها مما لم أذكره دخلت فيها الباء على المفعول الصريح مزيدة ومقوية للفعل المتعدي. وإذا كان المفعول هنا صريحًا، أعني غير منسبك من (أنّ) أو (أنَّ) أو (ما) المصدرية وصلاتها فالمنسبك تصديره بالباء أسهل وأكثر قولاً، وهو الذي منع استعماله الدكتور الزيدي في (لاحظ بأن) و(يرى بأن).



واستدل على دخول الباء في مثل هذا التركيب بالآتي:

- قول الله تعالى: {ألم يعلم بأنَّ الله يرى} [العلق: 14].

وتجردت من الباء في الآية: {ألم تعلم أنَّ الله يعلم ما في السماء والأرض} [الحج: 70].

- وقول أشعرَ الرقبانِ الأسدي[19]:


بحسبك في القوم أن يعلموا بأنك فيهم غني مضر
وقد علم المعشر الطارقو ن أنك للضيف جُوعٌ وقُرّ



فزاد الباء أولاً في مفعول (يعلموا) وجرد مفعول (علم) منه ثانيًا.

هذا ولكثرة إدخال الباء على المفعول صرح النحويون باتساع أمره، وبجواز زيادتها في مفاعيل طائفة من الأفعال المتعدية بنفسها.

قال ابن جني: (قوله تبارك اسمه: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195] تقديره والله أعلم: ولا تلقوا أيديكم. وهذا واسع عنهم جدًا)[20].

وقال جمال الدين بن مالك ت672هـ: (وكثرت زيادتها في مفعول "عرف" وشبهه، وقلت زيادتها في مفعول ذي مفعولين...)[21].

وقال رضي الدين الإستراباذي ت686هـ: (وتزاد قياسًا في مفعول علمت وعرفت وجهلت وسمعت وتيقنت وأحسنت)[22]. وهذه الأفعال المتعدية بنفسها تخص المعاني القلبية والفكرية، والعرفان و(شبيهه) كما قال ابن مالك.

لا شك في أنَّ "لاحظ" و"يرى" داخلان في هذه المعاني، فدلالة كلٍّ منهما على المعرفة واضحة وقد يقال: ما ذهبت إليه وجهة نظر، ومن الشواهد ما يحتمل التأويل.

فأقول: لا أُماري، ولكن لا خلاف فيما ساء ذكره في المسألتين اللاحقتين.





وللموضوع تتمة
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.21%)]